انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي من الخاسر؟
نشر في مجلة البيان يوم ١٧ / ٨ / ٢٠١٧م
رؤية تحليلية – لا يصح القول إن خروج بريطانيا هو بداية انهيار الاتحاد الأوروبي نفسه ولا العكس
رؤية تحليلية
قبل الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانت المخاوف من تداعيات الحدث تدفع المسؤولين السياسيين والمراقبين والمحللين إلى تأكيد تفاؤلهم بالنتيجة المرتقبة، وهذا ما ضاعف مفعول الصدمة عند ظهورها بما خيب الآمال، فظهرت ردود أفعال متسرعة تتحدث عن بداية النهاية للاتحاد نفسه، وعن انفصال بعض مكونات “المملكة المتحدة”، وعن أزمة مالية عالمية، بل انتشرت تكهنات أشبه بالتمنيات أن يجري استفتاء آخر قبل تنفيذ نتائج الأول، واختلط جميع ذلك بتصريحات تتضمن التهديد والوعيد، بأن المفاوضات على ما بعد الانسحاب من الاتحاد ستكون عسيرة للغاية، ولن يكون فيها تنازلات؛ هذا مع أن بريطانيا ليست دويلة ضعيفة لتنهار أو تتفتت بين ليلة وضحاها إذا استقلت بنفسها عن المسيرة الأوروبية، كما أن الاتحاد الأوروبي ليس مجموعة دولية ضعيفة وليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها أزمة كبيرة ثم يتجاوزها ليتابع طريق المسيرة الأوروبية التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة.
الاستشراف الموضوعي لنتائج الحدث يتطلب النظرة المتأنية التي تبين أن القرارات السياسية تخضع لموازنة المصالح والحلول الوسطية، وليس لردود فعل “انتقامية” أو متسرعة. كما ينبغي تجاوز مفعول المفاجأة بالعودة إلى طبيعة ما كانت عليه العضوية البريطانية في المجموعة الأوروبية، متميزة عن سواها، ليس في الجانب الاقتصادي فحسب، علما بأن تصويت المواطن البريطاني لم ينطلق من موازين المكاسب والخسائر في ميادين التجارة والاستثمار وما شابه ذلك.
من إرث تشرشل وديجول
من المفارقات أن بريطانيا أول دولة عضو تنسحب من الاتحاد، بينما كانت أول من دعت إلى فكرة توحيد أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ما ينسب إلى ونستون تشرشل، في فترة لم يكن خلالها رئيسا لوزراء بريطانيا، إذ استلم المنصب (١٩٤٠-١٩٤٥م) أثناء الحرب العالمية الثانية ثم (١٩٥١-١٩٥٥م) إنما استخدم عام ١٩٤٨م تعبيرا أكبر من مضمون ما كان يدعو إليه وهو “الولايات المتحدة الأوروبية” كما ورد في كلمة له في زيوريخ، وكان له دور عملي في انطلاق المسيرة الأوروبية عندما اختير رئيس شرف لاجتماع انعقد في لاهاي عام ١٩٤٨م وضم ٨٠٠ نائب من الدول الأوروبية، وقد أسفر عن تأسيس المجلس الأوروبي عام ١٩٤٩م (وهو كيان قائم بذاته) ولعب دوره أيضا في تأسيس المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام ١٩٥٩م، إنما نادرا ما يقترن الاستشهاد بذلك على هامش الاستفتاء البريطاني بالتذكير أنه كان يتحدث منذ ذلك الحين عن “دور خاص” لبريطانيا، ويذكرها في مصاف الجهات “المرجو دعمها” لمسيرة توحيد أوروبا، فيصنفها مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي والكومنولث البريطاني.
وقد بقي الدور “الخاص” البريطاني يلقي بظلاله على العلاقة مع أوروبا باستمرار منذ ميلاد النواة الأولى للاتحاد الأوروبي، وهو “اتحاد الفولاذ الأوروبي” من ست دول مع امتناع بريطانيا عن المشاركة، ويبدو أن تشرشل عندما اعتبر الصلح بين ألمانيا وفرنسا شرطا لنجاح المشروع الأوروبي، لم يكن يقدّر أن العلاقة بين البلدين ستهيمن على المسيرة الأوروبية وتوصف بمحرك الاتحاد الأوروبي، بينما نأت بريطانيا بنفسها فامتنعت عن المشاركة في توقيع وثيقة روما الأولى عام ١٩٥٧م، وحاولت إيجاد بديل يحقق الميزات الاقتصادية عبر تأسيس منظمة للتجارة الحرة الأوروبية، ولكن سرعان ما رأت لنفسها مصالح أكبر للتقدم بطلب العضوية عام ١٩٦١م، ووجدت الرفض مرتين عامي ١٩٦٢ و١٩٦٧م، ومن وراء الرفض الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول، وكان في مقدمة الأسباب التي ذكرها عامل المنافسة الاقتصادية، ثم العادات والتقاليد البريطانية المحافظة، وكان الأهم من ذلك العلاقات البريطانية-الأمريكية الوثيقة، في فترة شهدت غياب فرنسا عن حلف شمال الأطلسي، إنما كانت معارضة العضوية البريطانية قائمة على المستوى الشعبي داخل بريطانيا نفسها أيضا، فحتى عندما تقرر الانضمام فعلا عام ١٩٧٣م أظهر استطلاع للرأي أن ٣٩ في المائة يعارضونه مقابل ٣٨ في المائة يؤيدونه كما ذكرت مؤسسة “بي بي سي” الإذاعية.
منذ ذلك الحين وحتى الاستفتاء على الانسحاب لم تتغير هذه السلبيات في العلاقة البريطانية-الأوروبية، وإن تبدلت طريقة تأثيرها، وبالمقابل لم تعمل فرنسا وألمانيا لتوسيع مفعول “محرك أوروبا” مثلا لتشمل آليات عمله بريطانيا باعتبار وزنها اقتصاديا وماليا وسياسيا وعسكريا، وكانت الضغوط الشعبية من حجج الحكومات البريطانية المتعاقبة، لا سيما حكومة تاتشر وأخيرا حكومة كاميرون، لتنتزع تنازلات أوروبية تعطي بريطانيا ميزات استثنائية، فضلا عن عرقلة مزيد من خطوات التوحيد السياسية، مما جعل المسيرة الأوروبية تمضي بسرعتين، كما ظهر في تأسيس مجموعة اليورو، وكما يدور الحديث مجددا في نطاق ردود الفعل الأوروبية على قرار الانسحاب البريطاني.
* * *
من الخاسر من الطرفين؟
هذا سؤال متكرر ولا يوجد جواب قاطع بصدده، فتشابك العلاقات مكثف وعميق عبر الحدود عالميا وليس أوروبيا فقط، فمن جهة يسبب حدث من مستوى الانسحاب البريطاني أضرارا جسيمة للجميع، ومن جهة أخرى يشكل الخوف من تفاقم الأضرار عامل ضغط على صناع القرار أن يتجنبوا التصعيد ويسارعوا لإيجاد “وضع طبيعي” مجددا، وهو ما يرتبط هنا بما سيستقر عليه تنظيم العلاقات الثنائية بعد الانسحاب، ويقرر الميثاق الأوروبي أن الانسحاب يتم من خلال المفاوضات حول بدائل عن العلاقات الاندماجية. الثابت على أي حال أن حالة الانفصال تعطي المفاوضات صبغة “انتزاع” المصالح والمكاسب الأولوية على لغة التوافق رغم التنافس، وهذا ما بدأ يظهر في التصريحات الرسمية المتوالية من جانب المفوضية الأوروبية ومن جانب ساسة الدول الرئيسية في الاتحاد.
صحيح أنه توجد حالات مشابهة لعلاقات ثنائية شبه اندماجية بين الاتحاد الأوروبي وكل من سويسرا والنرويج، ولكن لا يمكن مقارنة البلدين ببريطانيا اقتصاديا وماليا، وكانت تحتل في ذلك المرتبة الثانية بين أعضاء الاتحاد، فستكون المفاوضات مضنية، ومن أسباب ذلك تزامن الحدث مع فترة حرجة من تاريخ المسيرة الأوروبية، تخيم عليها ذيول أزمة اليورو لا سيما في اليونان، إضافة إلى مشكلات مالية في ميزانيات دول أخرى مثل إسبانيا والبرتغال، وأزمة مصرفية في إيطاليا، وكذلك على الصعيد السياسي والأمني، مما يتعلق بصعود اليمين المتشدد في عدة دول، لا سيما بولندا والمجر، وازدياد مخاطر التعرض لهجمات “إرهابية” كما ظهر في بلجيكا وفرنسا، علاوة على غلبة الخلاف في سياسات خارجية مشتركة مع غياب سياسات موحدة، وهو ما ظهر مع الأزمة الأوكرانية مع روسيا، والتعامل مع تيار اللجوء بأعداد بشرية ضخمة، ولا يخفى أنها مشكلة تعكس مدى العجز عن ممارسة سياسات أوروبية فعالة تجاه أحداث المنطقة الجغرافية المجاورة لأوروبا.
إنما لا يصح القول إن خروج بريطانيا هو بداية انهيار الاتحاد الأوروبي نفسه، وإن ازداد اعتماد المسيرة الأوروبية بسرعتين مختلفتين في بعض الميادين، فحتى وإن وقعت أبعد المخاوف المبدئية بأن تحذو دول أخرى حذو بريطانيا، فليس بين الدول المرشحة لذلك فعلا من يقارن ببريطانيا، وبالمقابل يعتبر الخطر الداخلي في “المملكة المتحدة” هو الأكبر، وكان قائما من قبل الانسحاب، وضرره الآن يصيب بعض المكونات مثل اسكوتلاندا وإيرلندا الشمالية أكثر مما يصيب المكونات الأخرى، إنجلترا وويلس، وستواجه أي حكومة بريطانية الصعوبات ما لم تنجح سريعا في امتصاص مفعول الاستقطاب السياسي والشعبي بين مؤيدين ومعارضين، وقد يفسر هذا نوعية الوزراء الذين اختارتهم ماي تيريزا لتشكيل الحكومة بعد الاستفتاء، فكأنها راغبة في ترضية جميع التيارات، ولا يتوقع النجاح “سريعا” على كل حال فعلاوة على حجم المشكلات التي تنتظرها، يخطئ من يقارنها بمارغريت تاتشر الملقبة بالمرأة الحديدية، نتيجة حسمها القاطع في صناعة القرار، بينما تشبّه ماي بالمستشارة الألمانية أنجلا ميركل، من حيث التروي في اتخاذ القرار ومراعاة التوازنات السياسية الداخلية باستمرار.
صحيح أن ماي نفسها أشبه بالورقة البيضاء على صعيد السياسة الخارجية لا سيما التعامل مع قضايا العالم العربي والإسلامي، وكانت تعترض على سياسات براون عموما فيما عدا السياسات الخارجية، إنما ينبغي أن يوضع في الحسبان أن السياسات الخارجية للدول الغربية عموما من صنع مؤسسات قائمة بوجود المسؤول السياسي الأول وغيابه، ولا أحد يعلم متى تسلّم ماي القيادة لمن يليها.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب