مذبحة صبرا وشاتيلا

١٦-١٨ / ٩ / ١٩٨٢م

للحفظ والتوثيق – لا تسقط المسؤولية عن الجريمة إلاّ بزوال الوضع الباطل الذي يجسّد الجريمة

121
مذبحة صبرا وشاتيلا ١٩٨٢

للحفظ والتوثيق

لم تكن مذبحة صبرا وشاتيلا (١٦- ١٨ / ٩ / ١٩٨٢م) حدثا عابرا، ولا مجرّد كارثة مروّعة مفاجئة، بل كانت حلقة في سلسلة طويلة رهيبة، يجري تدبيرها وتنفيذها، حلقة بعد حلقة، وشعبُ فلسطين هو المقصود بالإبادة الجماعية، كما أنّ المقصود أن توأدَ معه إرادة العرب والمسلمين وإنسانية الإنسان في كل مكان.

ولئن أشاح العرب والمسلمون أبصارهم عن بطون الحوامل التي بُقرت، وصدور الشيوخ والأطفال التي نُهشت، فذاك من هول منظر الوحوش المفترسة بعد سقوط الأقنعة البشرية عن وجوهها.. ولئن أذهلتهم وحشية المذابح فترة من الزمن فيستحيل بقاؤهم في الذهول إلى الأبد.

إنّ الدماء التي أراقها وحوش المغول على دجلة ألهبت روح الجهاد بعد فترة من الزمن على ضفاف النيل فكانت عين جالوت.

وإنّ الدماء التي ملأ بها الصليبيون حرم المسجد الأقصى ألهبت روح الجهاد بعد فترة من الزمن فكانت حطّين وكان تحرير بيت المقدس. وإنّ الدماء التي أريقت في صبرا وشاتيلا ومن قبل ومن بعد، في عشرات المذابح داخل الأرض المحتلة وحولها، ستلهب روح الجهاد لمعركة فاصلة.. فتلك من سنن الله التي لا تتبدّل ولا تتغيّر، وستدور الدائرة على أعداء الله وأعداء الإنسان والإنسانية؛ وكان النص التالي مما وثقه هذا القلم في حينه ونشرته مجلة الرائد عام ١٩٨٢م

 

يوميات المذبحة – مقدمات المذبحة – بعد المذبحة – المسؤولية

يوميات المذبحة

١ / ٩ / ١٩٨٢م: انسحاب آخر مقاتل فلسطيني من بيروت الغربية

٢ / ٩ / ١٩٨٢م: بدء انسحاب القوّات الغربية المتعدّدة الجنسيات من المدينة  

٦ / ٩ / ١٩٨٢م: مؤتمر قمّة فاس للدول العربية يطرح المشروع السعودي من أجل الصلح وتسوية سلمية

١٢ / ٩ / ١٩٨٢م: وزير الدفاع الإسرائيلي شارون يبلّغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بيجن أن بشير جميّل تعهد له أن يقوم الجيش النظامي اللبناني بـتطهير مخيّمات بيروت الغربية يوم ٢٣ / ٩ / ١٩٨٢م

١٣ / ٩ / ١٩٨٢م: بشير جميّل يكرّر رفضه عقد سلام منفرد مع “إسرائيل” أثناء الاحتلال ويطالب واشنطون بالضغط عليها.

١ / ٩ / ١٩٨٢م: مقتل بشير جميّل في مقرّ قيادة حزبه وسط بيروت الشرقية

١٥ / ٩ / ١٩٨٢م:

الساعة (٥): القوّات الإسرائيلية تقتحم بيروت الغربية

الساعة (١٢): استكمال حلقة الحصار حول مخيّمي صبرا وشاتيلا وبدء قذفهما بالمدفعية لمدة ٢٤ ساعة تالية.

بعد الظهر: شارون يجتمع مع بيّار جميّل في بكفيّا ويذكّره بتعهّد بشير جميل قبل ٣ أيام، فيعرض عليه أن تقوم الكتائب بعملية تطهير المخيّمات.

١٦ / ٩ / ١٩٨٢م:

مراسل تليفزيوني من ألمانيا الغربية يصوّر سرّا كيف يسوق الجنود الإسرائيليون مئات من الفلسطينيين إلى مقر القيادة العسكرية، ثمّ لا يخرج منها سوى بضع عشرات خلال النهار.

الساعة (١٥): قائد الأركان الإسرائيلي إيتان يسأل القائد العسكري الإسرائيلي في بيروت متى يمكن أن تبدأ الكتائب بالعملية، فيجيبه: على الفور.

الساعة (١٥): هبوط طائرتي نقل من طراز هيركوليس١٣٠ الأمريكي وإنزال جنود وسيارات جيب في مطار بيروت، حيث تجمّع حوالي ١٢٠٠-١٤٠٠ مسلّح، يقول مراقبو الأمم المتحدة إنهم من ميليشيا سعد حدّاد.

الساعة (١٧): وصول دفعة من قوّات الكتائب إلى المطار واستلام خرائط وصور جويّة لمخيّمي صبرا وشاتيلا من الإسرائيليين، وانطلاق المسلّحين المتجمّعين في المطار منه باتجاه المخيّمين.

الساعة (١٧:٣٠): نصب مركز القيادة الميدانية للكتائب قرب مبنى السفارة الكويتية في غرب بيروت، وعلى بعد ٢٠٠ متر يقوم المبنى المرتفع المشرف على مجموع مخيم شاتيلا، والذي جعلته القوّات الإسرائيلية مقرا لقيادتها العامّة.
الساعة (١٨): بدء المذبحة.

الساعة (١٩): بدء وصول عدد من الفارّين من المذبحة إلى مستشفى غزّة، ومنهم الطفل ميلاد فاروق الذي كان في الحادية عشرة من عمره، وكان يتحدث عن مقتل أبيه وأمّه وإخوته الثلاثة.

الساعة (٢٣): قائد العملية الكتائبي يبلّغ القيادة العسكرية عن مقتل ٣٠٠ “إرهابي ومدنيّ” حتى ذلك الوقت.

 ١٧ / ٩ / ١٩٨٢م:

(في الفجر): الناجون من المخيمين يطلبون من جنود إسرائيليين تبليغ قيادتهم بما يجري، وتكرر القيادة أمرها إلى الجنود بعدم دخول المخيمين.

الساعة (٩): مسلّحون يقتحمون مستشفى غزّة ويقتلون أطباء وجرحى فلسطينيين، ويغتصبون ممرّضات فلسطينيات ثمّ يقتلونهنّ.

حتى الساعة (١٦:٣٠): استمرار المذبحة رغم الاتصالات الجارية بسببها مع المسؤولين الإسرائيليين، ورؤية عدد من الصحفيين والدبلوماسيين ما يجري في المخيمين.

الساعة (١٦:٣٠): اتفاق إسرائيلي – كتائبي على تأجيل استكمال عملية التطهير إلى اليوم التالي.

الساعة (١٩): مراسل نيوزويك الأمريكية يتسلل ويرى المذبحة مستمرة.

الساعة (١٩): هروب ٣٠٠٠ فلسطيني كانوا قد لجؤوا إلى مستشفى غزة الذي امتلأ بالجثث والقتلى.

الساعة (٢٠): السفير التونسي في واشنطون، يتصل بوزير الخارجية الأمريكي بناء على طلب منظمة التحرير الفلسطينية، ويأتي الجواب (أن ديبلوماسيا أمريكيا كان في المخيّم في الساعة ١٣ من اليوم نفسه، وهو اليوم الثاني للمذبحة، ولم يكن يجري أيّ شيء!”.

طوال الليل إلى اليوم التالي: كان الذبح مستمرا كما يذكر شهود عيان لاحقا لمسؤولين ولوسائل الإعلام.

١٨ / ٩ / ١٩٨٢م:

الساعة (٧): احتلال مستشفى غزة نهائيا واعتقال من بقي فيه حيّا من الفلسطينيين المصابين وغير المصابين، وسوقهم إلى مخيّم شاتيلا حيث كان النساء والأطفال أرتالا مصفوفة على الجدران -كما يروي الأطباء الأجانب-  ولم يُعرف مصيرهم بعد ذلك.

الساعة (١٠:٣٠): الترخيص للصحفيين الأجانب بدخول المخيمين.

الساعة (٢٢): الرئيس الأمريكي ريجان يطلب من إسرائيل الانسحاب من بيروت!

١٩ / ٩ / ١٩٨٢م: مجلس الأمن الدولي يدين المذبحة.

٢٢ / ٩ / ١٩٨٢م:  مؤتمر وزراء الخارجية العرب يدين “إسرائيل” ويحمّل واشنطون المسؤولية الأدبية، ويرفض طلبَ منظمة التحرير الفلسطينية اتّخاذ إجراءاتِ مقاطعةٍ ما ضدها.

 ٢٩ / ٩ / ١٩٨٢م:: جنود البحرية الأمريكية يدخلون بيروت مع انسحاب القوات الإسرائيلية منها بعد حملات تطهير واعتقال شاملة، وريجان يعلن استمرار التحالف مع “إسرائيل” ممتدحا “روح الدولة اليهودية”.

 

مقدّمات المذبحة

إذا أراد العرب والمسلمون الذاهلون الذين لا يكادون يصدّقون بوقوع ما وقع في بيروت.

إذا أراد العرب والمسلمون الحيارى أمام مواقف المسؤولين في بلادهم تجاه ما وقع في بيروت.

إذا أراد العرب والمسلمون المحترقة صدورهم حنقا وغيظا، المغلولة أيديهم عن القتال، المقيّدة أقدامهم حتّى عن مجرد التظاهر انتصارا لدم بريء يُسفك، وأعراض طاهرة تُنتهك، ومقدسات تستباح في أرضهم المباركة المحتلة.

إذا أراد العرب والمسلمون معرفة الأسباب، فلينظروا فيما سبق المذبحة، وسيعلمون آنذاك مَن المسؤول، وأين مكمن الداء، وعساهم يجدون سبيل الخلاص.

١- لقد احتل اليهود أرضا فلسطينية عام ١٩٤٨م نتيجة مؤامرة عالمية ومحلية، التقت فيها الجهود الاستعمارية مع المصالح الشيوعية ومع عدد من الحكام المحليّين الذين سجل التاريخ صنيعهم في صفحة سوداء.. ومضوا إلى حسابهم بين يدي الله عزّ وجلّ.

٢- ومضى الذين خلفوا هؤلاء في السلطة على النهج القديم بإخراج جديد، وتشعّبت بهم السبل بين تقدّميين ورجعيين، واشتراكيين ورأسماليين، وشرقيّين وغربيين.. فساقوا الشعوب في أكبر حملة تضليل تزيّف إرادتها، حتى كانت الكارثة الثانية عام ١٩٦٧م، وانهارت وأزالت آثار كل ما سمّوه منجزات ومكاسب كبرى، فلم يبق سوى “آثار العدوان”!

٣- وبدأت مرحلة الإعداد للسلام الاستسلامي صبيحة الكارثة، بإخراج جديد أيضا، فإذا الذين تجاهلوا وجود العمل الفدائي ولاحقوه من قبل، يعطونه مركز الصدارة فجأة، سياسيا (ممثل شرعي وحيد!)، ولكن يصنعون هم ما يشاؤون واقعيا، ثم يوجهون له الضربات بكل سبيل وفي كل أرض، عسكريا، وقد أنشؤوا في الوقت نفسه منظمات نبتت كالفطر مرتبطة بالأنظمة، ليضرب بعضها بعضا، ثم ليضربوها جميعا من بعد، مستهدفين استئصال العمل الفدائي كله، ومهدوا لذلك بعملية غسيل دماغ جماعية إعلامية، بعد أن استنفذ احتضانُ العمل الفدائي شكلياً أغراضه، وهدّأ شيئا من نقمة الشعوب على من صنعوا النكبة الأولى فالثانية، وما زالوا في السلطة!

٤- وكانت المرحلة التالية مع حرب العبور، ولكن إلى الصلح، وحرب التحرير، دون الحاجز النفسي المانع من الصلح، وإذا بالجوقة التي كانت تملأ الدنيا صراخا بقدرتنا على تحرير الأرض المغتصبة بين ليلة وضحاها، يملؤونها صراخا بعجزنا الأبدي عن مجرّد مواجهة المزيد من اغتصاب الأراضي وتشريد الأهل

٥- وفي لبنان المجاور بقي ذلك المقاتل الفلسطيني المتمرد، رافضا إسقاط البندقية من يده، وهم يلوون عنقه صوب الشرق بدعوى الحصول على الدعم والسلاح، وصوب الغرب بدعوى الحصول على الدعم والسلام! وإذ لم تسقط البندقية من يد المقاتل جاء غزو لبنان المنتظر لإسقاطها في بحر الدماء، ثمّ جاءت المذبحة لتقول للمقاتل الفلسطيني، ولسائر العرب والمسلمين:

– لن يقاتل هؤلاء المسؤولون ولو سُفكت دماء الملايين من الفلسطينيين الأشقاء ومن يقف معهم.

– ولن تتخلّى أمريكا عن “إسرائيل” مهما لوثت دماء ضحايا مذابحها قاعات البيت الأبيض نفسه، أو ملأته الثروات العربية بأموال العلاقات التجارية الودية.

– ولن يتحرك العالم ويتصرف وإن أبيد هذا الشعب عن بكرة أبيه، ما دام يأبى العيش خانعا تحت أقدام ذباحيه معترفا بسيادتهم عليه داخل ارضه.

– وإن مليارا من العرب والمسلمين عاجزون، بانشغال كل منهم بقضية، دامية في وطنه، أو مأساوية في بيته، أو غوغائية تلهيه عن نفسه ومستقبله؛ وجميعهم محجور عليه الكلام، إلا من أتقن اللغة الأمريكية، أو اللغة السوفييتية!

– إن مذبحة صبرا وشاتيلا ليست حدثا عابرا ولا مجرد كارثة مروّعة مفاجئة، بل هي مقصودة بحد ذاتها على طريق مسلسل الإبادة والترويع، لنشر روح اليأس على أوسع نطاق، ومتابعة مسلسل الإبادة والترويع والهيمنة،  دون مقاومة، وهذا ما لا ينبغي أن يتحقق بحال من الأحوال.

 

بعد المذبحة

من أوضاع بلادنا ما كان ينكشف بوقوع انقلاب عسكري، يسميه منفذوه ثورة أو انتفاضة أو حركة تصحيحية أو ما شاؤوا من التسميات، ويفضحون مساوئ من سبقهم في السلطة والتسلط، ليسوغوا صنيعهم هم للناس، والناسُ بين مصدّق ومكذب؛ فنادرا ما كان عهد انقلابي جديد أفضل من عهد سابق بائد!

ومن أوضاع بلادنا ما كان ينكشف في هزيمة عسكرية، سيان هل سماها صانعوها نكسة أو نكبة أو نصرا، أو ما شاؤوا من التسميات، فالحصيلة واحدة مهما تحدثوا عن أسباب أدت إلى وقوع ما وقع، فهم صانعوا أسبابها كما أنهم صانعوا أحداثها، لا تواري ذلك تعليلاتهم للناس، والناسُ بين مصدق ومكذب، إذ لا يرون بعد الهزيمة جهدا حقيقيا لإزالة أسبابها، لا الحقيقية ولا المزعومة، إنما يرون جهودا كبيرة تُبذل من أجل منع حدوث تبدل في الأوضاع المخزية القائمة المنطوية على تلك الأسباب.

ومن أوضاع بلادنا ما كان ولا يزال ينكشف من خلال فضائح سياسية ومالية، وكوارث اقتصادية واجتماعية، ولكن كثرة هذه الفضائح والكوارث وتواليها، جعل صانعيها قادرين على تصويرها، وكأنها من الأمور الاعتيادية، أو من الأقدار المحتومة، فهم لا يحاولون إخفاءها ولا تسويغها ولا يَعْبَؤون بمشاعر الناس الذين يرونها ويعانون منها، وجل ما يصنعون يتركز على بعض التزييف للأرقام والتفاصيل، على قدر ما يحتاج إليه وضع قناع رقيق على فساد عريض.

ولكن الدم الذي أهرق في مذبحة صبرا وشاتيلا بأيد آثمة، كشف حقيقة الأوضاع القائمة في بلادنا، بلا رتوش، وبما لا يدع مجالا للحيرة بين تصديق وتكذيب، وما لا يسمح بإمكانية تغطية وتمويه، أو إنكار وتجاهل؛ إنها أوضاع فاسدة متردية إلى الحضيض، تتأرجح ما بين الخيانة العلنية والعجز المخزي.

وإن في عالمنا المعاصر حكاما سقطوا بسبب تجسس بعض أجهزتهم على بعض المواطنين في دولهم، ومن سقطوا لانهيار الوضع الاقتصادي في بلادهم، ومن سقطوا بسبب تسلل جاسوس أجنبي عميل إلى داخل جهاز حكمهم؛ أما هؤلاء الذين يحكمون بلادنا، ولديهم مثل هذا كله ومزيد عليه، من هزائم ونكبات ونكسات ومذابح ومن تخلف وانحطاط وتأخر وفقر ومرض فضلا عن علنية الارتباطات التبعية إلى درجة تجعل من الحديث عن تسلّل الجواسيس مهزلة، وعلنية وجود أجهزة مخابرات أجنبية معادية لها مكاتب رسمية بما يجعل مسألة الاتهام بالخيانة معضلة؛ هؤلاء.. لا نستطيع الاستيعاب في أي عصر يعيشون!

إن الدماء التي تسيل من مذبحة صبرا وشاتيلا وصلت إلى كراسيهم، فقد وقعت المذبحة هكذا على أعين الناظرين، في قلب عاصمة عربية وليس في جبال نائية، وبوحشية تعاف من نسبتها إليها الوحوش، وأمام أعينهم مشاهدها، وفي آذانهم صراخ ضحاياها، وفي وسائل إعلامهم يتبجح بعض من ارتكبوها بما ارتكبوه، ويشمت آخرون بكل وقاحة وصفاقة، ويشمئزّ من فظاعتها القريب والبعيد ممن لا يزال فيهم قلوب تحسّ بإحساس إنساني ما!

فكيف نستطيع استيعاب اكتفاء هؤلاء بإدانة لفظية، والاستمرار على ابتكار وسائل تسويغ الدعوات السلمية، وكأنهم من عالم آخر وعصر آخر!

إنّ الدم الذي أريق في صبرا وشاتيلا هو دم بعض من يحكمهم هؤلاء، ويحملون هم المسؤولية عنهم وعن دمائهم. وإن الذين يرون الأعراض تُنتهك في شوارع عاصمة دولة تنتسب إلى جامعة الدول العربية ومواثيق الدفاع المشتركة، ثم لا يجدون لأنفسهم موقفا إلا الإصرار بعد الإصرار والسعي بعد السعي وراء سلام مزعوم مع منتهكي الأعراض وسفاكي الدماء ومغتصبي الأرض ومستبيحي الحرمات؛  هؤلاء لا يمكن أن يعطوا للشعوب دروسا في الموضوعية والمنهجية والسياسات الواقعية، فلئن كانت تلك المواقف أمام المذابح، هي الموضوعية والمنهجية والسياسات الواقعية، فالأجدى بمن يريد أن يعيش حقا، وأن يعيش حرا كريما، أن يدفنها مع جثث الضحايا قبل أن يصل إليه الذبح وهو يتحدث عن الموضوعية والمنهجية والسياسات الواقعية”!

هؤلاء يحملون المسؤولية عما جرى ويجري، فإمّ أن يواجهوا قضايا الأمة والبلاد مواجهة مسؤولين، أو أن يتنحوا عن المسؤولية.. فلا فرق ما بين اغتصاب الأرض بوجود مسؤول أو عدم وجوده ما دام لا يمنع اغتصابها، ولا فرق بين الذبح بوجوده أو عدم وجوده ما دام ينظر إلى السكين ولا يتحرك!

وما أقبح ما تردد بعض الألسنة والأقلام المجبولة على النفاق، من أعذار لعدم التنحي عبر استبعاد وجود من يصلح للحكم.. إلا من يصنع الهزائم ويعجز عن مواجهة المذابح، وكأنما عقمت الأمة عن إنجاب القادرين على الخروج من دائرة الاستبداد والقمع ودائرة الخضوع والصمت!

إن بقاءهم بات مربوطا ربطا مباشرا بأنهم هم المهيؤون للتسليم تحت عنوان سلام؛ وقد يبلغ الإرهاب عبر الهزائم والمذابح والاستبداد مداه كما يخطط له منفذوه، ثم ينعقد سلام بين القتلة وبين المتفرجين على القتل عجزا، أو تواطؤا، ولكن لن يكون ولن يستقر سلام بين أمة تنزف جراحها وبين من لا تزال الخناجر في أيديهم، ولا بين أمة من أبنائها الأيتام والأيامى والأرامل والثكالى، ومن أبنائها المشرد والمستعمَر والمضطهد والملاحق بالقتل والفتك في كل مكان، وبين مَن يصنع هذا كله بها وهو جاثم في أرضها مسيطر على مقدساتها ويهدد بصنع المزيد، سواء انعقد سلام أم لم ينعقد.

 

المسؤولية
مهما أنكرنا على رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن ووزير دفاعه آرييل شارون من ميزات، فلا نستطيع أن ننكر عليهما عراقتهما في الإجرام، وانطباعهما عليه، وهيامهما به، وإبداعهما فيه، فمناحيم بيجن هو بطل مذبحة دير ياسين، التي ارتكبتها منظمة إرغون الصهيونية يوم ٩ / ٤ / ٢٩٤٨م، وأبيد فيها سكان القرية جميعا بأبشع ألوان القتل والتمثيل بالجثث، وآرييل شارون هو قائد الوحدة العسكرية رقم ١٠١ التي نسفت مساكن قبيه بالديناميت، وهدمتها على رؤوس سكانها، فقتل منهم ستة وستين وأصاب خمسة وسبعين بجراح.

ومناحيم بيجن وآرييل شارون كانا -كما يبدو- فرسي رهان في مذابح لبنان ومذبحة صبرا وشاتيلا على وجه التخصيص، ولكن هل المسؤولية هي مسؤوليتهما فقط كما تحاول أن تصور ذلك بعض الأقلام؟

إن بيجن وشارون ما كانا يملكان ذلك أو يقدمان عليه أو ينجزانه لولا مساعدة المساعدين، وبمشاركة المشاركين، على صعيد التخطيط والتنفيذ، ولولا إقرار الأجهزة المختصّة في الحكم والجيش، ومساندة الأكثرية في الكنيست ومن السكان.

وإنّ قبول غالبية اليهود لمذابح دير ياسين وقبيه وكفر قاسم وسواها، وحماسة كثيرين منهم لوحشية بيجن وشارون، هو ما رفع الأول بأصوات الناخبين إلى موقع رئاسة الوزراء والثاني إلى موقع وزارة الدفاع، ووضع بأيديهما المزيد من وسائل الفتك والقتل، ومهّد لهما الطرق لما يقومان به من أعمال الإبادة والإجرام.

المسؤولية مسؤولية شاملة لا يُستثنى منها إلا من يعترضون علنا على الإجرام، وهم قلة، وهي أيضا مسؤولية عالمية، فلولا الولايات المتحدة الأمريكية والغرب معها، لَما قامت “إسرائيل” ابتداء، ولما كان لها من البقاء والنماء والطغيان، ولَما ملكت ما تملك من أسباب العدوان، ولا مارست ما تمارس من ألوان الإجرام المتجدد عاما بعد عام.

ليست المسؤولية مسؤولية بيجن وشارون وحدهما، فإذا ذهبا ذهب أمرها، وبُرّئ المجرمون الآخرون، إنما هي المسؤولية عن جريمة إيجاد كيان يمارس الجريمة، ودعمه وهو يمارس الجريمة، ولا تسقط هذه المسؤولية إلاّ بزوال هذا الوضع الباطل الذي يجسد الجريمة.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب