تطويع القضاء قطريا ودوليا
تغييب أركان القضاء النزيه الفاعل محليا وعالميا
مفاهيم – نشر في شبكة الجزيرة يوم ٣ / ٧ / ٢٠٠٧م
مفاهيم
النظام الحاكم فوق القضاء – مجلس الأمن فوق القضاء –التحرّك المضادّ المطلوب
النظام الحاكم فوق القضاء
لقد كثرت حالات تجريد القضاء من أهمّ المواصفات التي ينبغي ضمانها ضمانا كاملا، كالعدالة، والسيادة، والاستقلالية، والتزام القانون القويم نصا وروحا، والانطلاق من ضمانات كافية لسلامة العاملين في القضاء من الضغوط، كقرارات التسريح المفاجئ، وسلامة المتهم من الأحكام المسبقة، وسلامة التكافؤ بين الخصوم، وسريان مفعول الأحكام القضائية النزيهة على الجميع دون تمييز، وغير ذلك مما أعطى القضاء منذ القدم مكانة متميزة في أي نظام سليم، قطري أو دولي.
في الأمثلة التالية (من عام ٢٠٠٧م) يطرح السؤال نفسه، ما الذي يبقى من مكانة للقضاء عندما يلجأ الحاكم العسكري إلى إقالة القاضي الأكبر في البلد من منصبه بجرة قلم (كما صنع برويز مشرف مع القاضي افتخار شودري في باكستان) أو عندما يضع النظام الحزبي الحاكم نفسه فوق الأحكام القضائية التي تكشف انحرافاته، وخواء انتخاباته واستفتاءاته، ويوظف سواها على أسس لا أصل لها لملاحقة خصومه كما في معظم بلادنا العربية، لا سيما في مصر، أو عندما يوضع القضاء في نفق حالة الطوارئ الحزبية عبر أكثر من أربعة عقود ويجعل أحكام الجهاز القضائي “المعين” توظيفا غير قابلة للاستئناف كما في سورية، أو عندما يبتكر النظام الحاكم صورا “كاريكاتورية دموية” تتوافق مع قراره هو أن يجرد “أعداءه” من حقوقهم الإنسانية مسبقا كما تكرر مرارا في الولايات المتحدة الأمريكية، أو عندما يمتلك الحاكم المنتخب إمكانية تعطيل محاكمة قضائية في مشكلة رشوة وفساد تحت عنوان “المصلحة العليا” والمقصود المصلحة المالية كما حدث في بريطانيا.
وظاهر من هذه الأمثلة – ويوجد سواها – أنّ المسألة لم تعد إطلاقا مسألة حكم استبدادي وآخر “ديمقراطي” كما يتغنى المنبهرون بفصل السلطات وفق النصوص الدستورية منذ زمن طويل، إنّما هي مسألة سياسات قائمة على إرادة مراكز القوى، سواء وصل أصحابها إليها تسلطا، أو انتخابا. وإذا كان الحكم الاستبدادي دون معايير قويمة من الأصل، فقد أصبحت أنظمة ديمقراطية عديدة قادرة على تفريغ المعايير من مضامينها. وإلى وقت قريب اقتصرت هذه الظاهرة على ميادين المنفعة المادية، وارتكزت في الدرجة الأولى على أن أصحاب الحقوق المادية غير قادرين في كثير من الحالات على تحصيل حقوقهم قضائيا، لعجزهم ماديا، أو لوجود نظام تتداخل فيه المصالح المادية والسياسية تداخلا يمنع من وصول الضعيف إلى حقه، وكثير من الأمثلة التي يُستشهد بها بشأن استقلال القضاء وسيادته في الغرب، عندما يطال أحد المسؤولين السياسيين والاقتصاديين، تكشف عند التأمل فيها، أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بما يسمى “الصراع بين الكبار”، أي بين مراكز القوى نفسها، وليس بينها وبين الفئات الأضعف اجتماعيا وماديا، إلا في حالات نادرة.
لا ينفي ما سبق أن الأوضاع في البلدان الديمقراطية هي الأفضل بالمنظور القضائي، إنما أصبحنا مضطرين إلى المقارنة بين السيئ والأقل سوءا، وليس بين الحسن والأحسن.
من أبرز ما تكشف عنه الأمثلة المذكورة عن بلدان عربية وإسلامية، أنها تأتي نتيجة عشوائية ما يوجد من أنظمة من الأصل، وطول بقائها لتشبثها بالسلطة بأي ثمن، فما يصدر عنها تجاه القضاء يصدر مثله تجاه مختلف ميادين وجود الدولة والمجتمع. بينما تكشف الأمثلة الأخرى، من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عن حرص مراكز القوى وصانعي القرار من خلالها على أن يكون تعطيل دور القضاء والنيل من مكانته مرتبطا بما يوضع تحت عنوان حماية مصلحة وطنية أو قومية تجاه طرف “خارجي”، ولكن يسري شبيه ذلك أيضا على صعيد حمايتها تجاه “طرف داخلي” كما هو الحال مع تشريع ما يسمى القوانين الاستثنائية في الغرب – الملزمة للأجهزة القضائية – للتعامل مع فريق من أهله بدعوى “مكافحة الإرهاب”، وهو ما يطال في الدرجة الأولى المسلمين من أهل البلاد الأصليين ومن المتجنسين ومن الوافدين على السواء كما هو معروف، كما يطال سواهم نتيجة تقليص مساحة الحريات والحقوق الشخصية بذريعة الدفاع عن المصلحة العامة المشتركة.
مجلس الأمن فوق القضاء
ما نشهده على الصعيد القطري نشهده على الصعيد الدولي، فلا نحتاج إلى أكثر من تعديل التسميات الاصطلاحية المستخدمة في نطاق “دولة” بما يقابلها في نطاق “نظام عالمي”. فهنا يتحول مجلس الأمن الدولي إلى “نظام استبدادي حاكم” أو “مجلس قيادة ثورة”، يعتمد على “الفيتو / النقض” في الحماية الذاتية لمراكز القوى فيه، ويضع نفسه فوق أي “استئناف” قضائي، ويقرر وحده في الحالات التي يوظف فيها كلمة “القضاء” لملاحقة ما تريده تلك القوى عالميا، وهو ما برز للعيان في قرارات تشكيل محاكم دولية للبلقان ورواندا وغيرها، وجميعها – بغض النظر عن تفاصيل كل قضية على حدة – لا تضمن معايير استقلالية القضاء وسيادته، والأجهزة التي تم تشكيلها ملزمة بالنصوص التي تمّ وضعها من جانب القوى التي تبقى هي ومن يتبع لها، فوق المحاسبة القضائية، بل فوق الاستجابة للادعاء العام إذا طلب الحصول على وثائق منها مثلا، ولا محاسبة لها وإن صنع بعضها أو جميعها ما صنع أمثالهم في البلقان ولبنان، فما انكشف من جرائم اغتيال للساسة الأعداء بتدبير المخابرات المركزية الأمريكية وبتوجيه الساسة الحاكمين من فوقها، لم يعد يحتاج إلى ادّعاء عام يحقق فيه، بعد أن ظهرت وثائق الاعتراف به رسميا، وما شهدته أفغانستان على تعاقب ارتكاب الجرائم الحربية فيها من عهد الغزو السوفييتي إلى عهد الغزو الأمريكي فالأطلسي، وكذلك ما شهده ويشهده العراق، وشهدته وتشهده فلسطين، وكذلك فييتنام وجنوب لبنان، والأمثلة كثيرة، وجميعها تكشف عن حالات تنحطّ قطعا إلى مستوى ما ارتكبه نظام ميلوسوفيتش في البلقان وزيادة، ولا يجد تشكيل أجهزة تحقيق ولا أجهزة قضاء، لا بصورة رصينة قويمة، ولا بالصورة الهزلية عراقيا وأمريكيا، المأساوية عربيا وإسلاميا، التي شهدها العراق في محاكمة صدام حسين ورفاقه.
المطلوب في حالات الملاحقة لا يندرج تحت عنوان العدالة، فمبدأ العدالة لا يتجزّأ، وعند تجزئته بقرار دولي، يُجرّد من مقوّماته الأساسية، ومنها مثلا المساواة بين الدول جميعا، كما يقرر ميثاق الأمم المتحدة، فلا تكون العدالة ناقصة فحسب، بل مفتقدة، ولا يمكن الاعتماد عليها ما دامت الازدواجية سمتها الرئيسية. إنما اقترن انتشار الظاهرة منذ تسعينات القرن الميلادي العشرين، أكثر مما مضى، بمساعي “النظام الاستبدادي الدولي” لتفريغ كلمة “سيادة الدولة” – وهي أساس ميثاق الأمم المتحدة – من مضمونها، تسهيلا لممارسة العدوان دون حساب، ولنزع “الحصانة” عن الساسة الآخرين، ما داموا يُصنفون في خانة “أعداء” هذا النظام الاستبدادي الدولي، على غرار من يوضعون في خانة “أعداء الشعب” قطريا، وسيان بعد ذلك أن يُستخدم سياسيا وصف دول مارقة، ومحاور الشر، مع ادعاء الأفضلية الذاتية المطلقة، وما إلى ذلك، للاستهلاك الإعلامي الدولي، على غرار الاستهلاك الإعلامي المحلي في الدول الاستبدادية في مثل مقولة لا سياسة في الدين، وادعاء الوعي السياسي للحاكم الملهم وأعوانه مقابل “غباء سياسي” يوصم به الشعب والمعارضة.
التحرك المضاد المطلوب
ما يسري على صعيد قطري لتطويع القضاء للحكم الاستبدادي هو عين ما يجري بصورة مضاعفة ومتسارعة على صعيد عالمي لتطويع القضاء للنظام الاستبدادي العالمي، وفي الحالتين يجري ذلك بعد إعداد مسبق، وتخطيط موضوع، وليس اعتباطا أو نتيجة تطورات دولية جارية كالنقلة الكبرى من حقبة الحرب الباردة إلى مرحلة الإعداد لنظام دولي قادم فحسب.
الجهة التي تستولي على السلطة في بلد ما، تلجأ إلى تعطيل الدستور، أو وضع دستور مؤقت، وتعلن حالة الطوارئ، أو تحكم بموجبها وإن لم تعلنها رسميا، وفي جميع الحالات يوجد قاسم مشترك أعظم، هو منع وجود مرجعية قضائية عليا، يستوي أمام أحكامها الأفراد والمؤسسات، الحكام والمحكومون، وقد يطول الأمر أو يقصر بالسلطة الاستثنائية، ولكن الحصيلة هي عينها، فالمطلوب هو ألا يكون الاستبداد موضع محاسبة وملاحقة.
وعلى المستوى الدولي كانت الجهة التي وصلت إلى “السلطة” عالميا هي الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، فكان من أخطر ما صنعته عمدا هو أن يكون قيام الأمم المتحدة وهي الهيكل الأساسي للنظام العالمي، دون مرجعية قضائية عليا، على غرار “المحكمة الدستورية العليا” في دولة ديمقراطية.
النظام الذي فُرض من البداية على “محكمة العدل الدولية” في لاهاي، كان قائما على أساس عدم إلزامها لمجلس قيادة ثورة الحرب العالمية الثانية، أي مجلس الأمن الدولي، والمحاكماتُ التي أجريت بعدها مباشرة تحت عنوان ملاحقة جرائم الحرب أجريت خارج نطاقها، لتكون لها صبغة الاستثنائية، فلا تتم – لو وجد جهاز دائم – ملاحقة جرائم حرب أخرى تلقائيا، كتلك التي شهدتها مدن هيروشيما وناغازاكي في اليابان ودرسدن وسواها في ألمانيا. ومنذ ذلك الحين حتى الآن بقي كل إجراء في صيغة محكمة دولية “استثنائيا” قائما بذاته، كما هو الحال مع محكمة البلقان ومحكمة رواندا ومحكمة لبنان، وبقي إلى جانبه منع إجراء محاكمات دولية مشابهة لجرائم مماثلة أو أكبر، كما في حالات صبرا وشاتيلا، وقانا، والفلوجة، وغيرها. ولا تزال “المحكمة الجنائية الدولية” وليدة صراع يدور بين مراكز القوى الدولية، ومن يملك فرض ما يريد يبقى خارج إطارها، كما هو معروف رسميا عن الولايات المتحدة الأمريكية تخصيصا.
ولأن العالم يمر في الوقت الحاضر بمرحلة انتقالية ما بين نظامين دوليين، زال أحدهما مع الحرب الباردة، ولا يزال الآخر في طور الإنشاء وسط صراع دائر بين مقولتي الزعامة الانفرادية وتعدّد الأقطاب..
ولأنّ المرحلة الانتقالية تسمح ببذل جهود استثنائية للتأثير على المستقبل قد لا تسمح بها ظروف أخرى عندما يستقر النظام الدولي لفترة زمنية طويلة نسبيا كما كان في حقبة الحرب الباردة..
ولأن الأطراف الأضعف هي الخاسرة من صراع مراكز القوى مما لا يحتاج إلى سوق البراهين والأدلة، وجب على هذه الأطراف بالذات أن تتلاقى وتتحرك الآن دون انتظار طويل، وأن تعمل الآن كي يستعيد القضاء القائم على العدالة والنزاهة والاستقلالية والسيادة مكانته، في الفكر البشري الإنساني المشترك أولا، فكلما اتسع نطاق الجبهة التي تتحرك على هذا الصعيد، وكلما تماسكت أطرافها وإن كان كل منهم ضعيفا بمفرده، يمكن أن نقترب خطوة من أوضاع أخرى، على المستوى القطري وعلى المستوى الدولي، تضمن للقضاء مكانته، وتضمن سلامة النصوص القانونية الملزمة له، مع تحقيق المعايير الضرورية لذلك في أنظمة تشكيل أجهزته وصلاحياتها ومساواة جميع الأطراف أمامها، أفرادا ومؤسسات في القطر الواحد، ودولا ومؤسسات ومنظمات وأفرادا على المستوى الدولي.
إن هذا التحرك الضروري المطلوب هو من أهم مهامّ ما يسمى المجتمع المدني أو المجتمع الأهلي أولا، ومن أهم مسؤوليات كل صاحب قلم وفكر وتأثير أدبي ومعنوي ومادي، في كل مكان، فقضية القضاء قضية الجميع، وقضية الأجيال القادمة من الأولاد والأحفاد.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب