رؤية – فكر المؤامرة وجائحة كورونا

التخمينات والتكهنات دون دليل لا تصلح ولا تؤسس لموقف أو لتصرف فردي أو جماعي

61
فيروس كورونا المتطور - كوفيد ١٩

ــــــــــ

قبل الحديث “بإيجاز” عما ينتشر ويوصف بنظرية المؤامرة بشأن التعامل مع جائحة كورونا، يحسن الوقوف أولا ببعض “التفصيل” عند هذا التعبير “نظرية المؤامرة”، فقبل مائة عام من كتابة هذه السطور، أي عام ١٩٢٠م ولأول مرة كما يقول الباحثون استُخدم التعبير الإنجليزي (Theory of conspiracy) في مقال اقتصادي في بريطانيا، وفي عام ١٩٦٧م ألحق بمفردات معجم أوكسفورد، وانتشر في الكتابات العربية بتعبير “نظرية المؤامرة” وأحيانا “فكر المؤامرة” ونبقى في حدود كلمة “نظرية” تجنبا للتفصيل بشأن كلمة “فكر” التي توحي بأن السلوك المقصود بالتعبير سمة لازمة لمن يتوهم (أو المتهم بأنه يتوهم) دون دليل وجود مؤامرات وراء أحداث ما.
الجدير بالتنويه أن تعبير “نظرية المؤامرة” لا يرقى إلى مستوى مصطلح، وإن ورد في معجم أكسفورد تعريف له يقول: “اتفاق بين فردين أو أكثر للقيام بعمل إجرامي أو غير قانوني مستهجن”، كما ينسب لبعض الباحثين ما شابه ذلك، مثل “خطة سرية من جانب مجموعة من أجل التأثير جزئيا في الأحداث بعمل خفي”، والواقع أن مثل هذه التعريفات تعني “المؤامرة” بحد ذاتها وليس “نظرية المؤامرة” بمعنى توهم وجودها.
وإذا كانت “نظرية المؤامرة” تعبيرا حديثا نسبيا فوجود المؤامرة والتآمر واقع قديم في العالم تاريخيا، لا سيما في قصور السلطات الغربية، بغض النظر عن توجهاتها، وعقديا ورد التعبير عن المؤامرة أو التآمر في سورة القصص (آية ٢٠) في القرآن الكريم: {إِن المَلأَ يأتَمرون بك ليقتلوك}، وتتحدث كتب التاريخ الإسلامي أيضا عن مؤامرات في العائلات المالكة وضدها.
وحسب تداول كلمة مؤامرة حديثا يأتي التعريف في المعاجم اللغوية الحديثة، مثل “معجم اللغة العربية المعاصرة” حيث توصف المؤامرة بأنها “مكيدة للقيام بعمل معادٍ إزاء حكم أو بلد أو شخص ما، يدبره أشخاص خفية ويصممون على تنفيذه ضد شخص أو مؤسسة أو أمن دولة” وشبيه ذلك: “تواطؤ بحبك مكيدة تدبر في الخفاء للقيام بعمل معادٍ ضد نظام حكم أو شخص، أو لارتكاب جريمة”. وكلمة “خفية” و”خفاء” تعبر عن كنه كلمة “مؤامرة” أو “مكيدة” أو مرادفاتها.
بسبب أن المؤامرة سرية خفية دوما (وإلا يوصف ما يجري بأنه عمل عدائي علني) فغالب ما يحدث عند تخمين وجود مؤامرة هو محاولة الكشف عن وقوعها، فإذا تم الوصول إلى أدلة فهذا “كشف وإثبات”، وفيما عدا ذلك قد تبقى المحاولة مشروعة في الأصل وإن اقتصرت لفترة طويلة على التحليل والفرضيات والتخمين دون دليل، شريطة اعتماد “فرضيات منطقية” في الطرح، فهذا ما يصعب حجر ممارسته أصلا، ولكن لا يرقى قطعا عن مستوى “نظرية”، وهذا ما نحتاج على صعيده إلى المعرفة والوعي. النظرية لا تثبت إلا بدليل، وبقدر ما تكون منطقية -بمعنى ما يقرره علم المنطق وليس المنطق الشخصي- يصعب نفي النظرية أيضا دون دليل.

من المهم التنويه أيضا أنه لا يوجد شعب أو قوم أو أصحاب عقيدة ينتشر فيهم سلوك ما يوصف بنظرية المؤامرة أكثر من سواهم، ويؤخذ على بعض الأقلام في الكتابات العربية أن تعبر عن ذلك بالقول كأمثلة تعميمية “هذا شأن العرب..” أو “اعتدنا على ذلك..” وينبغي التأكيد:

١- إن الانحراف وحتى المبالغة في ممارسة نظرية المؤامرة لا يبيح التعميم ولا ينفي من حيث الأساس وجود المؤامرات وحبكها بالفعل، بل مما يشهد على ذلك انكشاف بعضها أحيانا أو الاعتراف ببعضها بعد زمن طويل، والأمثلة على ذلك كثيرة من أشهرها لدينا “سايكس بيكو” ولدى سوانا “دور المخابرات الأمريكية في الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب سلفادور آليندي في تشيلي”.

٢- إن انتشار هذا السلوك لدى قوم لا يبرر انتشاره عند آخرين، إنما يرتفع مستوى المعرفة والوعي والفكر والقدرة على التخطيط واتخاذ القرار بقدر ما يتم اعتماد سبل علمية في الدراسة والاستقصاء وتحديد النتائج وتأكيدها أو دحضها.

٣- لعل الدراسات المقارنة -إن وجدت- تبين أن العرب والمسلمين لا يختلفون عن سواهم تحت العنوان العريض “نظرية المؤامرة”، بل لعلها وفق بعض الدراسات المبدئية أكثر انتشارا عند مواطني الولايات المتحدة الأمريكية، والأمثلة معروفة مثل صدور أكثر من ألف كتاب تطرح دون أدلة قطعية عشرات المؤامرات لتفسير الغموض حول اغتيال جون كنيدي عام ١٩٦٣م، أو ما انتشر لتكذيب الهبوط على سطح القمر، أو لنقض الطرح الرسمي لتفجيرات ٢٠٠١م في نيويورك وواشنطون، وحتى ما ارتبط به اسم الأدميرال البحري ريتشارد بيرد بشأن إشاعات كانت تقول إن الكرة الأرضية مجوفة وإن المدخل إلى جوفها في القطب الجنوبي، وإن قادة نازيين دخلوا إليها، وإن السلطات الأمريكية تخفي جميع ذلك عن الناس!

٠ ٠ ٠

بقدر أهمية القضية التي تتعرض لأطروحات نظرية المؤامرة بدعوى تفسيرها بقدر ما تكون مسؤولية من يمارسها كبيرة، وبقدر ما يكون الضرر المحتمل كبيرا، وهذا بالذات ما عايشناه ونعايشه بعد ظهور فيروس كورونا في الصين وانتشاره في أنحاء العالم وما ترتب على ذلك من ضحايا من البشر، ومن إجراءات قلبت المعادلات المألوفة في مختلف الدول رأسا على عقب، ناهيك عما يمكن أن يترتب على ذلك في المستقبل المنظور من تبدل في واقع العلاقات الدولية والمعيشية البشرية.
باختصار:
١- إن مسار التطورات في انتشار جائحة كورونا لا يمكن تفسيره منطقيا بمنظور كاتب هذه السطور تفسيرا يقول بأن جهة من الجهات، صينية أو أمريكية أو سوى ذلك، تعمدت ارتكاب جريمة كبرى، لأي غرض، وليست القضية هنا هي هل هي مؤهلة أخلاقيا لذلك أم لا، بل القضية أن هذا الاحتمال التخميني لا يتفق مع المعطيات المرئية مباشرة، قبل ظهور الإصابات الأولى وحتى اللحظة الآنية.
٢- من ينشر أثناء مسار الجائحة المتصاعد أطروحات تآمرية دون دليل قاطع على صحة ما يخمّنه! يساهم بقدر ما تنتشر أطروحاته في نشر البلبلة والخوف وربما أكثر من ذلك مع ما يترتب عليه من أخطار بدءا بإهمال أسباب الوقاية والعلاج انتهاء بالتفريط بحياة البشر.

٣- لا يعني ذلك مشروعية للحجر على أحد يطرح تفسيرا ما ويبنيه على رؤية منطقية، إنما لا بد في هذه الحالة من وصف تلك الأطروحات بحقيقة ما هي عليه: تخمينات وتكهنات دون دليل، ولا تصلح ولا تؤسس لموقف أو لتصرف فردي أو جماعي، إنما في أفضل الأحوال تدعو أصحاب الاختصاص إلى البحث العلمي حيثما تتوافر لذلك المعطيات المنهجية والشروط الموضوعية.

نبيل شبيب