تحليل – رحيل الطاغية رقم ثلاثة معمر القذافي

جوهر الطغيان واحد ومصير القتلة محتم وانتصار الشعوب محتم

51

 

مقدمة يوم ١٩ / ١١ / ٢٠١٩م

المقالة التالية نشرت في إصدارة سابقة من مداد القلم يوم ٢١ / ١٠ / ٢٠١١م، ويعاد نشرها في هذه الإصدارة في هذه الأيام التي تشهد انقضاء العام الثامن على انطلاق الثورات الشعبية العربية، كما تشهد كيف تنشط مصادر استخباراتية مرتبطة بالطغيان، في نشر تساؤلات معينة يتلقفها وينشرها كثير منا غافلا عن مقصدها وهو نشر الإحباط واستعادة روح الخنوع. وغالبها مقولات بصيغة الإشفاق الكاذب، ومن أخبثها كأمثلة: هل ترون ما يجري في ليبيا؟! هل تحسبون أن نموذجا آخر غير حفتر سيرث القذافي؟! هل ستسفر الحرب الجارية بدعوى إنهاء تمرد الحوثيين عمّا هو أفضل مما كان في عهد "صالح" الذي سقط وقتل؟! هل تتوقعون من حل تصنعه أصابع النفوذ الأجنبي في سورية وضعا أقل سوءا مما كان عليه ما يسمى النظام الأسدي؟!

والحصيلة: ألم يكن الأفضل عدم إطلاق الثورات والحفاظ على الأمن والاستقرار؟! والحصيلة أيضا أن انطلاق الثورة في الجزاظر والسودان والعراق ولبنان.. هو جواب الشعوب الواعية؛ فهذه تساؤلات فاسدة منطلقا وخبيثة مقصودا، تريد تحميل الشعوب مسؤولية دماء سفكها قبل الثورات وما يزال يسفكها الإجرام الاستبدادي، المحلي والدولي، وتريد التساؤلات الملغومة وقف مسيرة التغيير الجذري التي انطلقت من أرض تونس أواخر ٢٠١٠م، ولن تنجح.. فلن تتوقف عجلة التاريخ وإن تعددت أشكال حركتها، قبل استقرار دعائم التغيير الجذري الشامل.

– – –

 

احتفال في لحظة الموت؟!

أين يُصنف مصرع القذافي؟

هل يوجد من الطغاة من يعتبر؟

هل يشكّ أحد في انتصارات أخرى؟

أعوان الطغاة والمتردّدون عن الثورة

واجب النصرة الشعبية الآن

 

معذرة إذ تنشر هذه السطور خواطر متتابعة تتدفق من تلقاء نفسها، ويحسب كاتبها أنّها تتدفق هي ذاتها أو ما يشابهها لدى القراء، فما يجري من أحداث، لا سيما في ليبيا واليمن وسورية، يجمع القلوب إلى القلوب، والأفكار إلى الأفكار، من وراء المسافات والحدود، فيكتب المرء، ويعترف وهو يكتب، بما يواجهه القلم من صعوبة في صياغة كل عبارة من العبارات، ليواكب ما يعنيه مقتل القذافي، ما يعنيه رحيل طاغية آخر من الطغاة، وتحقيق انتصار آخر من انتصار الشعوب الثائرة، على طريق صناعة المستقبل وكتابة التاريخ، وهي طريق طويلة.

 

احتفال في لحظة الموت؟!

لا يسهل الوقوف عند حدث من قبيل ابتهاج شعب بمقتل حاكمه، أو الحديث عن حقبة زمنية لم تهدأ خلالها الألسنة التي تلهج بالدعاء للتخلّص منه، إنّما هل يمكن أن يلام شعب ليبيا الأبيّ عندما يتحوّل يوم موت القذافي إلى عيد وطني، في طول البلاد وعرضها، يشارك فيه الصغار والكبار، النساء والرجال، المدنيون والمسلّحون؟!

لا شكّ أنّ للموت حرمته، وشعب ليبيا المسلم يعلم ذلك، وهو الشعب المتميّز بطيبته وأخلاقه وتديّنه، على وجه التعميم، ولكن: هل ترك القذافي طوال فترة تسلّطه حرمة من الحرمات لم ينتهكها؟

لا شكّ أنّ الشماتة برؤية جثمان "العقيد" في سيارة الإسعاف، ورؤية جثث مَن صُرع معه في آخر جولة من جولاته الحربية ضدّ الشعب الثائر، شماتة تستدعي التساؤل عمّا يثيرها في النفس الإنسانية، ولكن: هل وجد شهيد من شهداء ثورة شعب ليبيا على الاستبداد والطغيان، ولو قدرا بسيطا من الندم، بل حتى من الرعاية الصحية ومحاولة الإنقاذ من الموت بعد إصابته، مثلما وجدت عصبة القتلة من الطغاة عند إصابتهم على أيدي الثوار؟ وهل يمكن للنفس الإنسانية أن تعلو فوق الشعور بالشماتة، ممّن كان يقتل النفس الإنسانية بلا حساب، ويغتصب الحرائر ويقتل الأحرار، ولا يأبه وهو يقصف بالقذائف الثقيلة المساكن على رؤوس الآمنين فيها، المرتاعين بانتظار الموت في كلّ لحظة؟

 

أين يُصنف مصرع القذافي؟!

كلا.. إنّ المستبد الذي يحتقر الشعب على النحو الذي عبّر عنه المستبد المستكبر المتعجرف في ليبيا وأولاده وأعوانه أكثر من مرة وبأبشع صورة، لا يستحق من الشعب رثاء ولا شفقة.

إنّ مقتل القذافي ورهطه حدث لا يجد مكانا له إلا حيث خصّص سجلّ التاريخ مكانا للنمرود وعاد وإرم وفرعون ونيرو وستالين وهتلر وتشاوسيسكو، وأقرانهم من الأقطار العربية الثائرة، اللاحقين بهم على طريق السقوط، وعلى طريق ميتة لا تجد من يأسف عليهم بسببها، سيّان كيف تكون.

لقد تحرّر شعب ليبيا بعد أن قضى ردحا من الزمن استغرق جيلا كاملا أو أكثر، وهو يعاني من وجود طاغية وأعوان طاغية، كان باستطاعتهم توظيف ما تسلّطوا عليه من الإمكانات والثروات والطاقات الكبيرة في ليبيا وفي شعبها، لتحقيق أهداف الحياة الكريمة العزيزة، للشعب، ولو صنعوا ذلك فلربما غفر لهم الشعب وصولهم إلى السلطة تسلّطا، وتوزيعها فيما بينهم رغم إرادة شعبهم، كما لو كان ملك يمينهم، ولكنهم بدلا من ذلك اختاروا لأنفسهم عقب اغتصاب السلطة، ممارسة الإجرام بحق الشعب ووطنه واستغلال إمكاناته وثرواته وطاقاته.

 

هل يوجد من الطغاة من يعتبر؟!

لم يأخذ القذافي العبرة من مصير جاريه في تونس ومصر، فليبيا -على حدّ زعمه ووفق إلهامات استكباره- ليست مثل تونس ولا مثل مصر، فهي في قبضته الهمجية (كانت) أكثر مما كانت عليه تونس ومصر في قبضة قرينيه من قبل، وقد يصحّ ذلك أو لا يصحّ.. سيّان، فليس هذا هو الفارق الحاسم بشأن مصير الثورة ما بين بلد عربي وآخر، ولا قيمة له مقابل التطابق الكبير بين شعب وشعب، وإرادة وإرادة، وعزيمة وعزيمة، وتضحيات وتضحيات، فالسنة الربانية والتاريخية واحدة، من انتصر لنفسه ضدّ الطاغوت، لا بد أن ينتصر ولا بد أن يسقط الطاغوت، فإما أن يرحل هاربا، أو يرحل مخلوعا، أو يرحل مقتولا.. أو يرحل إعداما بعد محاكمة عادلة.

ولم يأخذ الطغاة في اليمن وفي سورية العبرة من مصير أقرانهم في تونس ومصر، فسلكوا سلوك طغاة ليبيا، وظنّوا وقد طالت ثورة التحرّر من طغاة ليبيا، أنّ باستطاعتهم (معا.. كلّ منهم حيث يملك القدرة على استخدام التسلّط في التقتيل والتنكيل والتدمير) وقف المسيرة التاريخية المتدفقة، وها هو الحدث المفصلي في ليبيا يوم ٢٠ / ١٠ / ٢٠١١م يصرخ في وجوه طغاة اليمن وسورية: لقد انتهى أمركم وعهد طغيانكم، أنتم ساقطون، اليوم أو غدا، سيّان، أنتم ساقطون، فاختاروا لأنفسكم كيف تسقطون، وليس في إمكانكم أن تختاروا كيف تنجون، فحتى استسلامكم لا ينجيكم من العقاب الذي تستحقون، في الدنيا، وفي الآخرة.

 

هل يشكّ أحد في انتصارات أخرى؟!

الشعوب العربية الموحّدة رغم حدود التجزئة الاستبدادية المستمرة على درب التجزئة الاستعمارية الموروثة، تتلاقى من وراء تلك الحدود، ولهذا كان إسقاط طاغية تونس مصدرا من مصادر الإلهام والعزيمة في ثورة شعب مصر، وكان إسقاط طغاة تونس ومصر، مصدرا من مصادر الإلهام والعزيمة في ثورات شعوب ليبيا واليمن وسورية، فاندلعت في أوقات متقاربة، ولا حاجة للتنبّؤات من أجل استشراف الانطلاقة الثورية في سواها، أو استشراف التقارب الزمني المنتظر عند الوصول إلى لحظة النصر الحاسمة.

جوهر الطغيان واحد.. وجوهر الاستبداد واحد.. وجوهر القمع واحد.. ومصير القتلة حتمي.

وجوهر الثورة واحد.. وهدف الثورة واحد.. ودرب الثوار واحد.. وانتصار الشعوب حتمي.

 

أعوان الطغاة والمتردّدون عن الثورة

لا يزال طريق الثورة مفتوحا إلى أن يتحقق هدف البناء، لتستقر دعائم المجتمع والدولة على ما يضمن الكرامة والحرية والوحدة والعدالة وأسباب التقدم والرقي، ولن تكتمل احتفالات النصر في بلادنا إلا بتحقيق أهداف الكرامة والحرية والوحدة والعدالة والتقدّم والرقي.

لقد أثبتت نهاية القذافي تخصيصا أنّ ما كان يصطنعه من مظاهرات التأييد، زبد يذهب جفاء، وتبقى الثورة، وستثبت نهاية الطغاة في اليمن وفي سورية، أن ما يصطنعونه من مظاهرات التأييد، زبد يذهب جفاء، وتبقى الثورة.

يرحل الطغاة ويرحل معهم ما صنعوه ليلقوا به ما يستحقون يوم الحساب الأكبر، على كل روح أُزهقت، وكل نفس قتلت، وكل آهة ألم انطلقت وكل صورة من صور التنكيل والحرمان شوّهت عهودهم، فماذا عن أولئك الذين يستخدمونهم بيادق وأدوات، أو يستغلون تسلّطهم لسوقهم سوقا إلى دعم بقائهم، ودعم استمرار ما يرتكبون من جرائم بحق الشعوب؟

إنّ أعوان الطغاة والمنتفعين من الطغيان، والموالين للطغيان مقابل ثمن بخس في الحياة الدنيا سيجدون أنفسهم بين ليلة وضحاها، دون أسيادهم من الطغاة، في هذه الحياة الدنيا، ثمّ أمام ما لا يستطيعون دفعه عن أنفسهم من العقاب يوم القيامة. 

أمّا أولئك الذين ما يزالون يتردّدون عن سلوك طريق الثورة على الطغاة، ويستشعرون ثقل القيود والأغلال، وما يزالون يخشون أن ينالهم نصيب من القمع والتنكيل، فليعلموا أنّ التردّد لا يحطّم القيود والأغلال، ولا يمنع القمع والتنكيل، كما أنّه لن يمنع انتصار ثورة الشعب على الطغاة، فآن الأوان أن تكونوا قطعة من ثورة صناعة المستقبل لا قطعة من عهد مظلم يوشك أن يرحل.

 

واجب النصرة الشعبية الآن

آن الأوان أيضا أن تتلاقى شعوب الأقطار العربية والإسلامية جميعا، على طريق دعم أهداف التحرر والكرامة والعدالة في سورية واليمن، وفي كل مكان من الأرض.

المعوّل على نصرة الشعوب ويجب أن تظهر للعيان في كل مكان، وليس المعوّل على أنظمة حكم تساوم على مصيرها هي، عبر المساومة تارة على بقاء الطغاة، وأخرى على دعم الثورات، فتقدّم خطوة وترجع خطوات.

مقتل القذافي بعد ٤٢ سنة إجرامية من سنوات تسلّطه على شعب ليبيا، حدث يؤكّد ما تعنيه إرادة الشعوب إذا أرادت الحياة، ولن يبقى من بعده طاغية يوجّه السلاح لصدور الشعب، ويجنّد القتلة الهمجيين لقمع الشعب، دون أن يلقى عقابه العادل، سواء وجد الطغاة الآخرون العبرة في قرينهم القتيل أم لم يجدوا، فالأهمّ منهم ومما يصنعون ويتوهّمون، أنّ كل انتصار يحققه شعب من الشعوب، يتحوّل ألى وقود انتصار شعب آخر من بعده، فأبشروا بالنصر.

نبيل شبيب