رؤية – دروس من العشرية الدموية في الجزائر

الجريمة المحورية الأعظم هي جريمة ادعاء حق أي طرف الوصاية على الشعوب

41

(المقالة التالية موجز لتحليل في حلقتين نشرتا في جريدة الشرق القطرية في الأسبوع الأخير من كانون الثاني / يناير 2000م، وهي مقالة توجز ما يمكن قوله الآن مع استقالة بوتفليقة تحت ضغوط الحراك الثوري الجزائري 2019م)

 

رغم التفاؤل المرافق للتطورات الجارية في الجزائر، لا يكاد يغيب السؤال ما إذا كانت المشكلة قد انتهت فعلا.

 

قلق رغم التفاؤل

ما الذي يدفع إذن إلى القلق مع التفاؤل؟ الواقع أنّ النزيف السياسي مازال مستمرا، وأنّ هذا النزيف لم يبدأ مع مصادرة أصوات الناخبين لقطع الطريق أمام تحول سلمي إسلامي الاتجاه في البلاد في مطلع التسعينات الميلادية، بل كان قائما من قبل، وأوصلته تلك الأحداث إلى مرحلة الانفجار فحسب.

إنّ مشكلة الجزائر لم تنشأ مع تلك الانتخابات بل نشأت من قبل، كنتيجة حتمية لسيطرة حزب حاكم على السلطة على امتداد ثلاثين عاما، ولم تشهد تلك الفترة الطويلة انهيار البلاد اقتصاديا واجتماعيا فقط، وهو ما يكفي عادة للمطالبة بسقوط أي سلطة أو أي حزب، بل شهدت في الوقت نفسه تحويل الدولة إلى شركة، تتقاسم ثرواتها فئة من المتسلطين وأعوانهم ممن يتوزعون فيما بينهم مواقع صناعة القرار، ليحمي بعضهم بعضا ويحموا المستغلين الأجانب في وقت واحد إلى أن جرت تجربة توصف بالتجربة الديمقراطية وهي عبارة عن: "انتخابات حرة تحت طائلة المصادرة من جانب من جعلوا أنفسهم أوصياء عليها وعلى نتائجها" فأسفرت بدلا من سلوك طريق الخلاص، عن تلك الصورة الوحشية من صور الصدام الدموي العنيف، وهو ما تنبأ به في حينه حتى العلمانيون المتعقلون من خارج الجزائر.

إن هذا المسلسل للأحداث وارتباط النتائج بمسبباتها يؤكّد ضرورة الرجوع إلى جذور المشكلة، ولئن كانت تطرح في الآونة الأخيرة حجج تقول إنّ من العسير علاج المشكلة الأصلية ما دام نزيف العنف مستمرا، فلا ينبغي أثناء مرحلة التحوّل الجارية، السقوط مجددا في فخ المماطلة من خلال الاكتفاء بمعالجة بعض الأعراض والنتائج فقط. فقد أصبح واجبا الوقوف على الأسباب البعيدة التي أوصلت إلى تراكم مواد الانفجار في برميل البارود، عاما بعد عام وقضية بعد قضية، حتى كانت مصادرة آخر صورة من صور التعبير عن إرادة الشعب في الانتخابات النيابية عبارة عن "الفتيل" الذي أشعل برميل البارود.

إن ما وصلت إليه الأزمة الجزائرية تطرح السؤال الأكبر عن الصيغة التي يجب الالتزام بها في الجزائر، وفي سواها من البلدان العربية والإسلامية، لمنع نشأة أوضاع شاذة، تضع القوى السياسية في السلطة والمعارضة على السواء، وتضع فئات الشعب الواحد، على طرق المواجهة والصدام، وعلى جبهات متقابلة، جبهة تقرر وأخرى تخضع، وفريق يستغل وآخر يعاني، وفئات تسيء استخدام حرياتها وحقوقها وأخرى محرومة أصلا من حرياتها وحقوقها، فمثل هذه الأوضاع الشاذة يسبب الفتنة، فتندلع بصـورة أو بأخرى، على انتظار أو دون سابق انتظار.

 

أزمة بلادنا مع نفسها

إن قضية الجزائر تطرح القضية الجوهرية الأولى في بلادنا العربية والإسلامية، وتطرح بصورة خاصة أنّه لا جدوى من الاستمرار على استخدام أساليب متبعة في الحوار حولها وفي التعامل معها، تحت مختلف العناوين، ولكن دون الوصول بها إلى جوهرها ودون ربط أي حوار يجري بآلية ما، تبين أنه ليس مجرد كلام، بل يستهدف تحقيق غاية، الأصل أن يكون محورها هو الوقاية من الأزمات والفتن.

آن الأوان أن نخرج من الحلقة المفرغة التي ندور فيها بلا نهاية حول ما يسمى التجارب الديمقراطية، وحول التقارب والتباعد بين التيارات المختلفة، وحول مقولات لا أصل لها ولا قاعدة من المنطق أو الواقع، مثل مقولة مشروعية مستمدة من ثورة استقلال سابقة كما في الجزائر، وكأنها تحوّلت إلى ترخيص بارتكاب المظالم دون حساب، أو مثل مزاعم عدم وصول الشعوب إلى مستوى من النضج السياسي يؤهلها للتعبير عن إرادتها واختيار السلطات الحاكمة بنفسها، وإنما هو عدم النضوج السياسي عند من ينشر هذه المقولات ويرددها، أو مثل تحويل قضية الحريات والحقوق الأصيلة المشروعة إسلاميا والمشروعة بمقاييس الشرائع الوضعية، إلى نوع من الهدية، يعطيها المتسلط متى يشاء، ويمنعها عمّن يشاء، ويحدد لها القنوات فتكون عريضة أو ضيقة كما يشاء، ويضع لها الخطوط الصفراء والحمراء كما يشاء.

ليسـت أزمة بلادنا مع نفسـها أزمة اختيار هذا الحزب أو ذاك وهذه الفئة أو تلك للعلمانية أو الإسلام، للسيطرة على صناعة القرار ومنع الطرف الآخر من المشاركة، بل هي أزمة ادعاء أي فئة من تلك الفئات أو ادعائها جميعا الوصاية على الشعب، على أصحاب الحق المشروع في عملية الاختيار، سواء كان التعبير عن تلك الوصاية المزعومة عبر فئة عسكرية تصل إلى السلطة بانقلاب، أو حزب يستولي على الحكم فيحظر سواه ويقتل ويسجن وينفي كما يريد، أو فرد حاكم يعتبر نفسه فوق الانتقاد وفوق الخطأ، أو حتى منظمة خارج السلطة تتخذ من الاستبداد سببا لردود فعل مضادة لا يقل مضمونها خطرا عن الاستبداد نفسه.

لا يكفي إذن للخروج من الأزمة ابتكار أشكال ما من المصالحة الجزئية بين الفئات المتنازعة، لتهدأ موجة الاضطرابات فترة من الزمن ثم لتندلع بعد اختلاف موازين القوى من جديد.

لئن كانت الحكمة وكانت السياسة الواقعية تقتضي الأخذ بحلول وسطية للخروج من مأزق آني، فلا ينبغي الاكتفاء بذلك وتجاهل أننا نواجه في الجزائر وسواها ما هو أبعد نطاقا من كل مشكلة آنية أو نزاع محلي. إنّنا نواجه ما يسبب تلك الأزمات والنزاعات ونحتاج تبعا لذلك إلى قرار أبعد مدى، وأشمل مضمونا، وأكثر استقرارا باعتماده على أرضية عريضة شاملة، لتقوم العلاقات بين الشعوب والسلطات على أسس طبيعية، في مقدّمتها أن من يستلم السلطة، يجب أن يحاسَب – بفتح الحاء – قبل أن يحاسِب سواه – بكسر الحاء – وأن كل فرد بالغ من الشعب، أيا كان اتجاهه، إنما هو وصي على نفسه، وسيّد لقراره، ولا يملك أحد حق الوصاية عليه ولا صناعة القرار دون مشاركته، فلا تقل قيمة صوت أي فرد عن قيمة صوت أي فرد آخر، أيا كان منصبه أو موقعه، أو كان حجم معلوماته وثقافته، فمجرّد ادّعائه الوصاية على سواه، يجعل فكره وثقافته ومؤهلاته الجامعية وغير الجامعية فاقدة القيمة كالحبر على الورق والزبد على الماء.

 

قواعد ومعايير 

نحتاج إلى حل جوهر الأزمة بحل أزمة تعاملنا مع الفرد، مع الإنسان، ليس – كما يقال – من زاوية "تمكينه" من ممارسة حرياته وحقوقه السياسية وغير السياسية، وكأن بعضنا يمنحه هبة من الهبات، بل من زاوية "الامتناع" عن الحجر عليه وعن التقرير باسمه دون توكيل منه، فمن يصنع مثل ذلك دون توكيل قويم، هو الذي ينبغي الحجر عليه، باعتباره يتعدى على حقوق الآخرين وحرياتهم ويتجاوز بذلك دائرة حقوقه وحرياته الفردية كما يتجاوز صلاحيات منصبه أيا كان منصبه.

آنذاك يمكن أن ننطلق من القول:

– إذا أراد قوم من أهلنا وصف ذلك التعامل المطلوب بإلحاح مع الإنسان الفرد ومع حرياته الأساسية وحقوقه الأصيلة، بأنه هو الديمقراطية الغربية.. فليكن، أو إذا اعتبر آخرون العلمانية هي السبيل المفضل عندهم.. فدعهم وما ذهبوا إليه، أو أراد فريق تقليد الغرب أو الشرق.. فذاك شأنه.

– ولكن أن تقول فئة من تلك الفئات بجواز ذلك كله لنفسها، وتحريمه على سواها، فذاك ما لا ينبغي القبول به أو الرد عليه بالقول: هم وشأنهم، فالجميع في قارب واحد.

– أمّا أن تستمر الظاهرة المنتشرة حاليا أكثر من سواها، فتقول تلك الفئات على اختلاف مشاربها، إن لها ولأفرادها على قلة عددهم، أن يدعوا إلى ما يريدون من ديمقراطية يفهمونها على هواهم وعلمانية ازدادت إلحادا على أيديهم وتقليد أعمى وتبعية أجنبية أوصلا بلادنا إلى ما وصلت إليه في حقبة سيطرتهم، ثم اقتران ذلك كله بتحريم العمل على فئات تطالب بتحكيم الإسلام أو سلوك الطريق إلى تحكيمه عبر حزب مرخص له بالعمل دون قيود، أو عبر دعوة علنية على المستوى الشعبي، أو بأي وسيلة مشروعة أخرى، فذاك مما سبب في الماضي وسيسبب إن استمر مزيدا من الأزمات، فإن أمكن الخروج منها أو من بعضها بحلول وسطية، عادت إلى الانفجار من جديد بعد فترة من الزمن.

إن قضية الجزائر تؤكّد أول ما تؤكّد أنّه لا ينبغي أن يكون القول الفصل في صناعة القرار في يد أي فئة من تلك الفئات على انفراد، بل يجب الاحتكام إلى إرادة الشعب، وليطلق من أراد على ذلك وصف ديمقراطية أو ليلتزم بإسلامنا وبدائرتنا الحضارية ومصطلحاتنا، فالأمر الأهم في نهاية المطاف يتمثل في النوعية لا التسمية. وليس الاحتكام إلى إرادة الشعب مجرد صورة من صور الإدلاء بالأصوات، بل هو تلك الصورة التي تضمن شروطا لا غنى عنها ولا فائدة من التصويت ونتائجه بدونها، سواء كان الالتفاف عليها عبر قانون انتخابي منحرف أو كان عبر رقابة أحادية أو كان عبر قوانين حالة الطوارئ أو عبر حملات وسائل إعلامية موجهة.. هي شروط يجب أن تتوافر، وأن تتوافر فعلا لا كلاما، من النزاهة والحرية وتكافؤ الفرص ومنع التزوير والتزييف وإيجاد الضمانات الواقعية الكافية لذلك كله، والمقبولة من سائر الأطراف دون تمييز، ثم الالتزام بالنتائج لا مصادرتها.

نبيل شبيب