بوابة ١٤٤٠ هـ

يوم الهجرة النبوية

الهجرة – بين عقد هجري راحل وعقد هجري قادم

89
الشروق في أفق أحمر

الهجرة

في العقد الهجري الماضي من الأعوام طغت أحداث الثورات الشعبية والتحرك الدولي والإقليمي المضاد لتحرير إرادة الشعوب، على كثير من الأحداث سواها، ومع إطلالة عقد جديد نعود إلى بوابة عام ١٤٣٠هـ قبل عقد كامل لنتساءل: ألم تكن دموعنا تتساءل قبل عشرة أعوام عن مصير أهلنا في غزة وأنفاقها وسط الحصار وتحت الدمار، وما كان يخطر في بال معظمنا آنذاك أن شعوب تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ستقرع بوابة التاريخ بثوراتها، وتعلن أن من المستحيل أن يكون الغد كما كان أمس القريب؟

إننا يا من تشعرون – بحق – بكثير من الأسى الحارق في يوم الهجرة النبوية ١٤٤٠هـ، نحن نقف أمام بوابة تغيير شامل واسع النطاق يخشاه المتسلطون ظلما وعدوانا على الإنسان في بلادنا وفي عالمنا وعصرنا.

كلا، يقولها المتشككون والمحبطون، كلا ويضيفون: ما قيمة التفاؤل والدماء تسيل في كل مكان؟ أين دواعي المستقبل ونحن غرقى فيما يهدد إدلب وأخواتها في سورية، ويكتسح سيناء مصر والبصرة بالعراق، ويواصل الضربات في أفغانستان وحولها، كما أن غزة لا تزال كما كانت قبل عشرة أعوام، تحت الحصار والدمار، ويدفع أهلها يوميا ثمن إجرام الأبعدين والأقربين بحقها؟

يا أيها المتسائلون عن مسارات التاريخ أنتم في يوم الهجرة، وسواء هل تابعتم وتتابعون أحداثه بدافع العقيدة أو لمجرد مطالعة ما سجل التاريخ، ألم يكن يوم الهجرة بوابة تغيير تاريخي كبرى، وكان يشهد كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه يعتمدان على ما تحمله ذات النطاقين من أخبار وغذاء، ومهاجرين في صحراء ممتدة ما بين مكة والمدينة، يلحق بهما سراقة وسلاح الاغتيال في يده مسلّط عليهما، ونيّة وقف عجلة التاريخ في قلبه وقلوب من بعث به، وإذا بنبيّ الرحمة ينظر بعين بصيرة ممتدة من وراء آفاق حدث الساعة نحو المستقبل، ويعطي سراقة وعدا بسواري كسرى، كأننا نَعِد هذه الأيام أحد المشردين في مخيم أطمه بسواري بوتين أو أبراج ترامب، أليس كذلك!

كلا، ليست بوابة العام الهجري بوابة دماء تراق، وأرواح تزهق، ودمار ينتشر، وعجز سياسي مفضوح، بل هي بوابة ما سوف يأتي بعد إرادة شعبية تفجرت، وتضحيات لا مثيل لها تصنع التاريخ، ومعالم تتألق يوما بعد يوم لترسم طريق النهوض، وكثير من الشباب والفتيات ممن بلغ شأوا بعيدا بوعيهم وعطائهم ونظرتهم المستقبلية وإحساسهم بالمسؤولية عن المصالح العليا، الإنسانية والإسلامية والعربية والوطنية، وصلوا إلى مستويات سوف يتجاوزون بها عجز الحكومات والنخب معا، وسيرقون إلى مستوى القدرة على إبطال مفعول الرعب من أفاعيل كسرى وقيصر وجرائمهما وجرائم أتباعهما، بحق أهلهم داخل بلادهم وحق البشرية، حاضرا ومستقبلا.

إنها آلام المخاض في حقبة لا يزال يتجبر فيها العدوان إنما بدأت تترنح ضرباته الإجرامية أمام صمود مذهل، وتضحيات تذيب آلامها الحديد والصخر، وتفجر من الأعماق طاقات جديدة، تزلزل أقدام من لا يزال يحسب أن القذائف الإجرامية تصنع الأحداث، فيذهله أن الصمود على درب التضحيات لا يمكن اغتياله بالقذائف، وأنه هو محضن ولادة مزيد من البطولات، من حيث لا نرى بأعيننا القاصرة على الامتداد إلى ما وراء آفاق اللحظة الحاضرة ومآسيها.

هذه كلمات، لا يمليها فقط الوجدان الحي والحماسة الصادقة، وليس في حياة الوجدان عيب إلا في أعين من فقد حياة الوجدان، ولا في الحماسة ضير إلا في نظر من تحوّل قلبه إلى جلمود صخر وأبطل عقله وفكره الانبهار بالدرهم والدينار وعتوّ فراعنة العصر، غافلا عن مصائر فراعنة الماضي وقوارينه، وقد أصبحوا جيفا تحت التراب وأصناما يتفرج عليها السياح في متاحف يزورونها بدراهم معدودات، أو أصبحوا في بعض بقاع الأرض مومياء لا حياة فيها ونُصُبا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا.

كلا، لم يصنع أحداث الأعوام الماضية أحد من الوحوش البشرية التي أفلتها كبيرها لتصنع ما صنعت في أبو غريب وجوانتانامو، بل صنعت الأحداثَ ضحايا من حاولوا وأد إنسانية الإنسان في أبو غريب وجوانتانامو. لم تصنع أحداثَ الأعوام القليلة الماضية مئات الأطنان من القذائف الهمجية بل صنعتها مقاومة شعبية لا تملك سوى إمكانات محدودة في وجه القوى المتجبرة العاتية.

لقد قطعت مسيرة التغيير أشواطا، لا يلحظها من يعيش تحت وهج المآسي الدامية، أو ينظر بعينه نظرة آنية فيتألم -وحق له أن يتألم- لما يرى حوله، إنما يلحظها من ينظر من وراء أسوار اللحظة الحاضرة إلى ما كان قبل جيل وما يمكن أن يكون بعد جيل آخر.

إن اتجاه التغيير الذي بدأ بانتفاضات فلسطينية واستأنفت مسيرته ثورات شعبية له معالم لا تعد ولا تحصى، إنما هذا بالذات ما يوجب على أصحاب الضمائر الحية أن يضيفوا إلى حماستهم وخطبهم وتفاؤلهم تخطيطا وعملا وتعاونا، إذا ما أدركنا أن حدث الهجرة كتب في جبين التاريخ، إن طريق الرقي والنهوض والتحرر والحقوق هو طرق التفاؤل والتخطيط معا، الأمل والعمل معا، العقيدة والتعاون معا. هذه معادلة من سنن صناعة التاريخ، وقد فهمتها أهلونا داخل أسرنا في أنحاء بلادنا وهم في قبضة الطاغوت فأنجبوا جيلا ثائرا يتحدى الطاغوت.

روح الهجرة وأمثالها من الأحداث الكبرى هي التي جعلت البيوت تصنع النساء والرجال، وتصنع البطولات والأبطال، وستصنع المستقبل ما دامت مستمرة على صناعة سواعد تبني وعقول تفكر، وهي التي تصنع جيلا قادما يرتفع بعقيدته وقيمه وأخلاقه ومؤهلاته فوق المرهبات والمغريات والانحرافات ويشق بعلمه ومعرفته ووعيه طرق التقدم والنهوض ويصنع بعمله وجهاده وتضحياته، ما كان جيلنا الموشك على الرحيل يتوق إليه، ولم يحققه، ويتطلع إلى آفاقه ولم يبلغها.

بوابة ١٤٤٠هـ تفتح أبواب عقد جديد لمواصلة العمل والعطاء، على طريق الصمود والمقاومة، وعلى طريق العلم والمعرفة، وعلى طريق البناء والعمل، وإلى جانب ذلك كله على طريق التواصل والتعاون والتخطيط والتنظيم، ففي العام الجديد بذور صنعتها التضحيات المتواصلة في أعوام سبقت، ويمكن أن تعطي ثمرتها على قدر ما تجد من السقاية والرعاية، وأول ما يعنيه ذلك ألا نقف عند ما تم تحقيقه، ولا نسلّم بانهيار طاغوت بفعل تجبره وأخطائه، ولا ندع من يقدمون التضحيات وحدهم على طريق التغيير.

كل فرد، كل مجموعة، كل مؤسسة، كل جامعة، كل مركز بحوث، كل وسيلة إعلامية، كل نشاط من الأنشطة صغير بحجمه أو كبير، يمكن أن يتحول إلى خلية علم وعمل، وعطاء وإصلاح، وتعاون وتكتل، وتواصل وتفاهم، فما كان طريق النهوض في حياة أمة من الأمم إلا من صنع حصيلة ما يصنع أفرادها وتصنع تجمعاتها الصغيرة من إنجازات يومية حقيقية على طريق النهوض.

ولقد علمتنا الهجرة النبوية أن كل لبنة مهما بدت صغيرة بحد ذاتها، لها مفعولها في البناء الكبير، بدءا بما كانت تحمله ذات النطاقين رضي الله تعالى عنها من مؤونة وأخبار للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، انتهاء بأنشودة أهل المدينة يستقبلون المهاجر العظيم، مرورا بشعار “أحد.. أحد” وقد انتقلت من لسان بلال تحت التعذيب إلى ألسنة المجاهدين تحت راية التوحيد يوم بدر، وصولا إلى فتح مكة ووقفة العفو عند المقدرة تطل من أعلى عليين على الإنسانية جمعاء، جيلا بعد جيل، إلى يوم القيامة: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

لقد علمتنا الهجرة النبوية أن وراء الظلام الدامس نورا، ووراء كل حقبة شديدة الوطأة فرجا، ووراء كل تخطيط وتنظيم لعمل مدروس نجاحا، إنما هي سنة التغيير الربانية، أن يكون ما بين كلمة (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) داخل الغار، وبين سواري كسرى في يدي سراقة بن مالك، أعوام من العمل الصادق الدائب المتواصل مع الإخلاص واليقين المطلق والأمل الراسخ بنصر الله عز وجل.

علمتنا الهجرة أن موعدنا مع النصر هو العمل، أليس الصبح بقريب؟

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب