لن ينتهي العبث الأجنبي فمتى ينتهي عبثنا في سورية؟
متاهة خارج دائرة إحدى الحسنيين
تحليل – لقد انطلقت الثورة رغم القهر المطلق
تحليل
إشكالية أولى:
في مطلع الثورات الشعبية كانت أبواق الأنظمة المهترئة تستبعد أن تصل الغضبة الشعبية إلى الرقعة التي تتسلط عليها، فتردد واحدا تلو الآخر: مصر ليست كتونس، ليبيا ليست كاليمن، سورية ليست كسواها، ووصلت الثورة لها جميعا، وبدأ العمل المضاد محليا وإقليميا ودوليا ضد تحرير إرادة الشعوب.
في الآونة الأخيرة وفي سورية تحديدا، بدأ بعضنا منذ فترة يردد، الغوطة ليست القصير، درعا ليست كالغوطة، وما شابه ذلك، ويردد الآن: إدلب ليست كمن سبقها.
اختلاف التفاصيل في الأصل صحيح ولا علاقة لها بجوهر الثورات المشترك، ولكن كان التذكير بها دوما كلمة حق صحيحة في غير موضعها، أريد بها باطل، أو -مع حسن الظن بالنوايا- سببت التضليل والتطمين في غير محله إلى درجة الغفلة فالتراجع مرة بعد أخرى.
إشكالية ثانية:
في سورية، مع سيطرة أول قوة ثورية مسلحة على رقعة جغرافية كبيرة مأهولة، طغت أصوات السرور كيلا نقول الغرور، والتأييد كيلا نقول التوريط، على القليل النادر من أصوات حذرة تقول أو تكتب على استحياء، إن الثورة تحمّل نفسها بالتحرك الجغرافي السريع قبل أن يشتد عودها أعباء إضافية، ستضعفها، والمقصود شؤون تدبير الأمور المعيشية اليومية وتسييرها، وهو ما يحتاج إلى مؤسسات دول وعلاقات دول وتمويل دول ومنظمات دولية.
كان هذا وما يعنيه من ولادة حاجة ثورية متصاعدة إلى مصادر تمويل ضخم، من المداخل الأولى إلى الإغواء المدروس فالعبث الخارجي بمسار الثورة، ونقله من حالته الشعبية الثورية العارمة، إلى شبكات توجيه متعدد الأغراض متناقض الأهداف ومعظمه خبيث يعزز التحرك المضاد لتحرير إرادة الشعوب.
يوجد مزيد من الإشكاليات التي يتجدد الحديث عنها في نطاق مراجعة ما كان، أو يتردد ذكرها، ومن ذلك إشكالية مدمرة أخطر وأسوأ، تتجسد في توجيه مزيد من السهام إلى البقية الباقية ممن يخطئون ويصيبون ولكن يحاولون على الأقل حمل ما يمكن حمله من أعباء مواصلة العمل من أجل تحقيق أهداف شعبية يستحيل أن تموت، أو على الأقل من أجل التأثير المضاد للعبث الدولي كيلا يجري تحنيط تلك الأهداف لمدة جيل أو جيلين كما حدث من قبل.
هذه إشكالية أكبر وأخطر لأنها تساهم في لفت الأنظار عن استمرار العبث الأجنبي بقضية سورية وشعبها، وشغل الطاقات الذاتية عن المراجعة الهادئة وعن مواصلة البحث والسعي والمحاولة، لتبقى الأبصار والأقدام موجهة نحو التغيير كما أرادته الشعوب، وإيجاد مؤهلات التغيير، ووسائل التغيير، وشروط التغيير.
كأن بعض من يقرأ هذه الكلمات يعدّ نفسه لمواصلة سد الأبواب كالمعتاد، وربما لإراحة ضميره وضمير القاعدين، غالبا عبر تساؤلات غير بريئة من حيث توظيفها، وليست مجدية من حيث مواقع طرحها، ولا علاقة لها بالإشكاليات التي واجهتنا والتي تواجهنا، إلا في حالة اقترانها بمبادرات عملية، ومن ذلك بلهجة التيئييس لا التحريض والتوجيه: كيف نعمل، ومن يعمل، وهؤلاء خونة، وأولئك جهلة، وفات الأوان، وهل نستطيع العمل دون دعم خارجي، ومن أين يأتي التمويل!
لو كانت هذه التساؤلات تتردد بهذه الأساليب في صدور من خرجوا في درعا وبانياس ودمشق وداريا وحمص وحماة وإدلب ودير الزور وغيرها في مطلع الثورة، لما خرج أحد قطعا.
ولكن خرجوا، بكتابات على الجدران، ودهان أحمر لبحيرات دمشق، ولافتات معبرة في بلدات إدلب، وغير ذلك مما لم يكن يخطر ببال أحد قبل ذلك الوقت، أنه عمل ثوري يحرك شعبا فيقدم من التضحيات الكبرى عاما بعد عام، ما يجعله في قمة عالية من قمم مسارات التغيير في تاريخ البشرية.
إن الخطوة الأولى في الخروج من نفق انحراف المسيرة في بلادنا هي أن نوجه الحديث لأنفسنا، وأن يعبر عن ذلك كل منا بما يستطيع، تخصصا، ولو كان -وفق ما تعلمنا- من قبيل إماطة الأذى عن الطريق، وكم من أذى يجب تطهير عوالمنا الافتراضية والحقيقية منه، ولو بأسلوب عدم التجاوب مع ما يطرحه صناع الأذى.
ثم أن يعبر كل منا عن حديثه لنفسه واقعيا حسب معرفته هو بإمكاناته وسبل تنميتها، وبالاحتياجات القريبة منه حيث يقيم أو حيث سبق تشريده، وسبل التعامل معها، ورغم الحرص على عدم ذكر الأسماء، كيلا يقع خطأ إغفال بعضها، إنما ينبغي التوضيح بمثال الأخت القديرة نيفين الحوتري، وما تمارسه من أنشطه وتبذله من جهود بعد تشريدها مع بقية أهلنا من أقبية دوما المحاصرة.
دعونا ممن يفترون على سواهم أو يقولون الحق عن سواهم، بأنهم فعلوا وصنعوا، أو خانوا وانحرفوا، أو تابوا وأصلحوا، سيان، فلا جدوى من استمرار العبث بمسار التغيير الثوري عبر هذا وذاك، ولا عبر انتظار المعجزات المغيرات من العبث الدولي، إنما الجدوى الأكبر في الدنيا والآخرة هي في تكرار ما صنعت روح الثورة عندما خرجت من تربة أوضاع ملوثة متحنطة متحجرة وصفها كثيرون بالقهر المطلق مقابل موات لا روح فيه.
إن روح متابعة التغيير الثوري هو أن يصنع أحدنا ما يستطيع هو، وهو أعرف به، قبل أن يتكلم، وأن يشق الطريق وسط المتغيرات الجديدة حوله، وهو الأقدر على استيعابها بمعايشته لها، وأن يستعيد كل منا الثقة بأننا سيان ما نقول ونفعل، لن نخرج من “دائرة إحدى الحسنيين” إلا إلى متاهة بحصيلة أسوأ، في الدنيا والآخرة.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب