رؤية – الخلاف الأمريكي-الأوروبي

من التحالف إلى المواجهة– "زراعة الأوتاد" وثوابت أوروبية – الهيمنة وثوابت أمريكية – خطوط حمراء مشتركة

47

 

من التحالف إلى المواجهة– "زراعة الأوتاد" وثوابت أوروبية – الهيمنة وثوابت أمريكية – خطوط حمراء مشتركة

 

مقدمة يوم ١٢/ ٧ /٢٠١٨م:

ما شهدته القمة الأطلسية عام ٢٠١٨م من خلاف أقرب إلى المهاترات السياسية، لا يكفي تفسيره بالإشارة المتكررة إلى أسلوب ترامب في التعامل "الشعبوي" مع جميع الأطراف داخليا في بلده وخارجيا في أنحاء العالم. فتصدع العلاقات الأطلسية ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والأوروبيين قديم ازداد مع نهاية الحرب الباردة، وبلغ ذروة سابقة في عهد بوش الابن، ويتصاعد في الوقت الحاضر بشكل ملحوظ.. وهذا ما ينبغي أن يبني عليه من يريد التعامل مع القوى العالمية بنظرة "استراتيجية" بعيدة المدى.

 

مقدمة يوم ١٣/ ٩ / ٢٠٠٣م:

هل يمكن أن تعود المياه إلى مجاريها بين الولايات المتحدة الأمريكية و"أوروبا القديمة"، أم بلغ الخلاف مداه وأصبح "الطلاق الأطلسي" محتّما؟

هل تنقطع "شعرة التحالف" الباقية بين الطرفين، أم يتمكّنان من إيجاد أرضية جديدة وبنية هيكلية جديدة لعلاقاتهما، تحلّ مكان ما فقد مفعوله واهترأ مع نهاية الحرب الباردة؟

ما الذي يترتّب على تطوّر العلاقات الأمريكية-الأوروبية عالميا، وعلى صعيد مجال التحرّك السياسي وغير السياسي للبلدان العربية والإسلامية مستقبلا؟

هذه الأسئلة وأمثالها يتجدّد طرحها كلّما أثارتها الأنباء عن حدث آنيّ جديد، كما هو الحال مثلا مع ما برز من خلافات بصدد التعامل مع العراق بعد الاحتلال، ومن قبل عندما بدأ الإعداد لحرب الاحتلال، إنّما هي أسئلة لا تجد جوابا قاطعا عليها بمنظور الأحداث الآنيّة وحدها والمواقف المترتّبة عليها، بل تتطلّب التأمّل فيها بمنظور "استراتيجي" ووفق أبعاد زمنية أخرى لتطوّر هذه العلاقات وآثاره عالميا وعلى الصعد الإقليمية، لا سيّما بالنسبة إلى المنطقة العربية والإسلامية، وقد ظهر أنّها أصبحت في محور خارطة العلاقات والتطوّرات الدولية، بما يشابه ما كانت عليه الدول الواقعة على الخطّ الفاصل بين الشرق والغرب وسط أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ولفترة طويلة من الحرب الباردة.

 

من التحالف إلى المواجهة

حرب احتلال العراق التي وضعت العلاقات عبر المحيط الأطلسي على مفترق طرق، لم تكن سوى "محطة" من محطات مسيرة التباعد الأمريكي-الأوروبي، ويصعب ترسيخ أرضية مشتركة جديدة للعلاقات بمجموعها.

في حقبة الحرب الباردة كان غالب التحركات الأمريكية يحقّق المصالح والمطامع الأمريكية أوّلا، ولكن بما يحقّق في الوقت نفسه المصالح والمطامع الغربية المشتركة، إذ كان ذلك بحدّ ذاته جزءا أساسيا من الهدف الأمريكي "الاستراتيجي" الأمريكي حول محور مواجهة الشيوعية.

ولكن حتّى في تلك الفترة المبكّرة نسبيا، وفور وقوف الدول الأوروبية الغربية (واليابان) على أقدامها، بدأ "التنافس" الاقتصادي يأخذ مكانه بصورة بارزة في نطاق العلاقات الغربية، إنّما لم يكن عسيرا "ضبطه" تحت تأثير ضرورات التحالف السياسي والأمني. ثمّ تحوّل تدريجيا حتى اتّخذ أشكال "صراع" في التسعينات الميلادية، وهو ما انعكس مثلا في "جولة أوروجواي" التي أفضت إلى تأسيس المنظمة العالمية للتجارة، وانعكس في "مواجهات" نقدية متعدّدة كان من أبرزها الأزمة النقدية الحادّة قبل اتخاذ قرار توحيد العملة الأوروبية، بالإضافة إلى ما كان في التسعينات الميلادية بصورة خاصة من ازدياد حدّة الصراع على منابع الطاقة وطرق إمدادات النفط والأسواق الاستثمارية والاستهلاكية، خارج الحدود الغربية، ولا سيّما في المنطقة الإسلامية، ما بين بحر قزوين والبلقان وبين أفغانستان ونيجيريا.. وساهم في ذلك تعزيز ظاهرة "العولمة" أو تسارع خطاها في التسعينات الميلادية الماضية، ولكنّ الأهمّ من ذلك يتمثّل في أنّ مسيرة التباعد الأمريكي-الأوروبي وصلت لأوّل مرّة منذ الحرب العالمية الثانية إلى الميادين السياسية والأمنية العسكرية، بعد أن كان التحالف على صعيدها بمثابة الحاضنة للميادين الأخرى، فباتت الأسئلة المطروحة بصدد العلاقات الأطلسية تتناول محورين رئيسيين:

تحرّك السياسات الأمريكية دوليا لتحقيق مصالح ومطامع أمريكية بمعزل عن الأرضية الغربية المشتركة سابقا، والردّ الأوروبي على ذلك.

كيف تتحرّك السياسة الأوروبية لمنع نشأة نظام أحادي، ولكن دون أن يوصل هذا التحرّك المعارض لواشنطون إلى مواجهة مباشرة.. ومبكرة.

اللافت للنظر أنّ هذه المحاور مطروحة في الساحة الفكرية والإعلامية إلى جانب الساحة السياسية في الغرب منذ سقوط الشيوعية، بينما يمكن القول على سبيل التعميم لا الحصر، إنّها لم تجد طريقها إلى الساحة الفكرية والإعلامية -ناهيك عن التفاعل السياسي معها- في المنطقة العربية والإسلامية.

هذه نظرة قاصرة عن الإحاطة بما فيه الكفاية بجذور التباعد الأمريكي-الأوروبي القائم منذ الحرب الباردة، وبتطوّره المستمرّ في اتجاه "الافتراق" منذ سقوط المعسكر الشرقي، ووصوله أخيرا- إلى مرحلة العلن، وبالتالي مستوى المواجهات السياسية المفتوحة.

 

"زراعة الأوتاد" وثوابت أوروبية

من المفارقات التاريخية أنّ سياسة الرئيس السوفييتي الأسبق ليونيد بريجنييف استهدفت زراعة وتد بين الأوروبيين والأمريكيين وأخفقت، ولكنّ حركة جورباتشوف التي انتهت بسقوط الشيوعية نفسها أدّت واقعيا إلى تحقيق هدف بريجنييف القديم، حتّى باتت "زراعة الأوتاد" بين حلفاء الأمس -ولكن بالأيدي الأمريكية والأوروبية- في مقدّمة معالم حقبة ما بعد الحرب الباردة. والمهمّ هنا هو رؤية الاستمرارية في هذا التحوّل "الاستراتيجي" في العلاقات عبر المحيط الأطلسي، وذلك بغضّ النظر عن تقلّب أحداث العالم، ما بين البلقان وأفغانستان، أو فلسطين والعراق، أو إفريقية وأمريكا الجنوبية.

كان آخر ما ظهر من "زرع الأوتاد" اعتماد حكومة بوش في فترة حرب احتلال العراق على ترسيخ أسباب الوقيعة بين الدول الغربية الرئيسية بزعامة فرنسية-ألمانية وبين الدول الأوروبية الشرقية الراغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف شمال الأطلسي على حدّ سواء، واشتهر من ذلك حديث وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد عمّا أسماه أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة، والواقع أنّ المسألة لم تقتصر على "تصريحات" بل اتخذت شكل ممارسات سياسية..

وربّما لفتت هذه المحاولة الأنظار ولكن لم تكن الأولى، فكان من سياسة "زرع الأوتاد" مثلا ما استهدف العلاقات الألمانية-البريطانية، عندما صرّح الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون على غير انتظار أنّه يعتبر ألمانيا هي "الحليف الرئيسي" لواشنطون في أوروبا، ممّا أثار حفيظة بريطانيا وساهم في تعكير العلاقات الثنائية لفترة من الزمن.. وكان من ذلك مثلا آخر ما استهدف العلاقات الألمانية-الفرنسية، عندما حذّر الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب فرنسا من مخاطر وصول ألمانيا إلى الزعامة السياسية في أوروبا إلى جانب الزعامة الاقتصادية، في الوقت الذي كان يعتمد فيه على ألمانيا في تخفيف سرعة المساعي الفرنسية للتميّز الأوروبي عن واشنطون.. ويوجد المزيد من الأمثلة لا سيّما في فترة حروب البلقان، وبما شمل العلاقات الروسية-الأوروبية أيضا، وما لم يقتصر على فترة رئيس دون آخر في واشنطون، وعلى وجه التحديد لم تكن بدايته مقترنة بوصول جورج بوش الابن إلى الرئاسة.

منذ مطلع التسعينات الميلادية كان "المحرّك الفرنسي-الألماني" بدوره المهيمن على المسيرة الأوروبية إجمالا، قادرا على تجاوز أزمات مرحلية، ودفع هذه المسيرة، بما تجاوز الوحدة الاقتصادية إلى النقدية، والتنسيق السياسي إلى ترسيخ أسباب التميّز الأمني والسياسي عن الولايات المتحدة الأمريكية، وهو تحرّك بطيء نسبيا، ولكنه ثابت ومتواصل الحلقات.

ومن المعالم "التطبيقية" البارزة على هذا الصعيد:

ترسيخ هدف التميّز الأمني والسياسي في اتفاقية ماستريخت لتوحيد أوروبا عام 1991م..

محاولة إحياء ما يسمّى منظمة "الاتحاد الأوروبي الغربي" وهي المنظمة "الأمنية" الوحيدة للأوروبيين دون مشاركة أمريكية، وكانت المنظّمة قد جُمّدت لصالح حلف شمال الأطلسي  لأكثر من 40 عاما..

تشكيل فيلق فرنسي-ألماني مشترك عام 1992م خارج نطاق حلف شمال الأطلسي، وانضمّت إليه دول أخرى لاحقا..

قرار قمّة كولونيا عام 1998م بتشكيل قوّة عسكرية أوروبية منفصلة عن حلف شمال الأطلسي، قوامها زهاء ستين ألف جندي، ويكتمل إعدادها عام 2004م..

هذا كأمثلة.. ورافقتها خطوات أخرى عديدة، لا يُستهان بأهميتها ايضا، مثل الاتفاق الفرنسي-البريطاني على صناعة عسكرية مشتركة، والاتفاق الفرنسي-الألماني على إطلاق أقمار تجسس حربية للتخلّص من الاعتماد على الأقمار الأمريكية في إطار حلف شمال الأطلسي، ثمّ الاتفاق الأخير على إيجاد هيكل عسكري مشترك لفرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورج معا.

بهذا المنظور يبرز للعيان أنّ المواقف الأوروبية تعبر عن تطوّر أوسع نطاقا، اتخذ مجراه منذ فترة، وسيستمر في المستقبل المنظور، وبالتالي لن يخلو الأمر من مزيد من "النتائج الطبيعية" له على غرار ما ظهر مرافقا لحرب احتلال العراق.

بهذا المنظور أيضا يمكن التأكيد أنّ مسيرة التميّز الأوروبي سياسيا وأمنيا عن واشنطون، لا يمكن اختزالها في القول إنّها "ردّ أوروبي" على وصول النهج السياسي لتيّار "المحافظين الجدد" إلى السلطة في واشنطون، والمهّم في هذا الاستنتاج هو استيعاب ما يجري من حيث أنّ مساعي التميّز الأوروبيين عن الأمريكيين لن تنقطع فيما لو وجدت سياسة هذا التيار نهايتها بصورة من الصور، بل أصبحت جزءا من ثوابت مجرى تطوّر العلاقات الأطلسية في اتجاه الافتراق بعد حقبة التحالف الماضية، وهو ما يتطلّب التعامل مع هذا التطوّر المستقبلي، بدلا من التعامل مع فرضية موهومة تقول إنّ " نظام القطب الاحادي" بات أمرا واقعا.. ولن يتبدّل!

 

الهيمنة وثوابت أمريكية

عنصر الثبات في التميّز الأوروبي هو الذي يجعله رؤية "استراتيجية" لمستقبل أوروبا وليس رؤية سياسية آنية للتعامل مع أحداث بعينها. وقد انطلقت هذه الرؤية من اعتبارات عديدة ذات صبغة "استراتيجية" أيضا، وفي مقدّمتها:

زوال الحاجة الأوروبية مع نهاية الحرب الباردة إلى المظلة النووية الأمريكية والتي كانت في مقدّمة أسباب ربط أوروبا الغربية أثناء الحرب الباردة بقرار الزعامة الأمريكية، اقتصاديا وماليا، وليس سياسيا وأمنيا فقط، ولهذا تتوجه السياسات الأمريكية إما إلى تجديد "الخطر الروسي" أو إلى التقارب مع الروس على حساب الأوروبيين..

إدراك الأوروبيين لأهمية استقلالهم السياسي والأمني من أجل ضمان استقلالهم الاقتصادي والمالي في خارطة "النظام العالمي" المقبل وليس في المرحلة الانتقالية الراهنة فقط.

بالمقابل ينطوي التباعد أو الافتراق الأطلسي من الجانب الأمريكي على مساعٍ مضادّة تماما، تتمثّل في العمل على تحويل علاقة التحالف النسبية سابقا، إلى علاقة قطب أكبر وأتباع.. وهذا ما يقصده الحديث عن "هيمنة" أو "زعامة انفرادية" أو نظام عالمي بقطب واحد.. وغير ذلك من التسميات، التي لا أهميّة لتباينها ما دام المضمون واحدا على كلّ حال، ويمكن الاكتفاء باستخدام كلمة الهيمنة في الفقرات التالية، لأنّها اقرب إلى وصف الواقع دون "مجاملات".

السؤال المطروح هنا هو ما إذا كان هذا السعي للهيمنة، حتى على الحلفاء، وليد واقع جديد في واشنطون السياسية، أم هو عنصر بات ثابتا بين عناصر السياسة الأمريكية عموما.

التأمّل في مسلسل تطوّر السياسة الأمريكية، كالتأمّل في مسلسل تطوّر السياسة الأوروبية، يؤكّد عدم صحّة النظرية الشائعة القائلة إنّ السياسات الأمريكية باتجاه الهيمنة قد أطلقها "المحافظون الجدد" في عهد بوش الابن فحسب (ولا يصح القول إنها تتجدد في عهد ترامب ويمكن أن تضمحل مع غيابه!)

الواقع أنّ اليمين المتشدد الأمريكي بلغ بسياسات الهيمنة مستوى غير مسبوق، ولكن بعد نضوجها أو نضوج مراحلها السابقة من قبل، وهو ما يظهر للعيان عند دراسة الوثائق المنشورة رسميا عن منهجهم، من قبل وصول بوش الابن إلى السلطة، ومن قبل وقوع عمليات التفجير في نيويورك وواشنطون.. ممّا يؤكّد -كما في المسيرة الأوروبية- أنّ هذه السياسة التي ساهمت في وقوع التباعد الأوروبي-الأمريكي، لم تكن ردود فعل على أحداث آنية.. وإن كان الحرص كبيرا على أن تظهر أحيانا كذلك لتبرير ما فيها من "تجاوزات" صارخة على أكثر من صعيد، وكوسيلة من وسائل تعبئة الرأي العام من وراء بعض إفرازاتها الخطيرة.

إن اتجاه "الهيمنة" يمثلّ سياسة "استراتيجية" ثابتة، وكان وليد سياسات متعاقبة يبني جديدها على ما سبق منها،منذ عهد رونالد ريجان على الأقل، فلم يختلف مغزى الإجراءات والخطوات التنفيذية بين رئيس ورئيس وغالبية حزبية وأخرى في واشنطون، إلاّ بقدر ضئيل، بينما كان الجزء الأكبر مرتبطا على الدوام بما يمكن صنعه اعتمادا على ما سبق الوصول إليه في مرحلة سابقة. ومن الوقائع الدالّة على ذلك كأمثلة معدودة:

نفوذ تيّار "المحافظين الجدد" وأرضيته العقائدية القائمة على ما يُسمّى "المسيحية الصهيونية" بدأ يؤثّر على صناعة القرار في واشنطون في عهد ريجان على الأقل، وتفاوت حجم التأثير ولكن لم ينقطع من بعده..

الإعلان عن "نظام عالمي جديد" بزعامة أمريكية طُرح في عهد بوش الأب..

مسلسل إجراءات وضع الولايات المتحدة الأمريكية "فوق" صلاحيات شبكة المنظمات الدولية قديمٌ قدم نشأتها وبلغ ذروته في عهد كلينتون قبل بوش الابن..

الإعلان عن تنفيذ مشروع "الدرع الصاروخي" إضافة إلى الانسحاب من الاتفاقية الأمّ للحدّ من التسلّح (1972م) جاء في عهد بوش الابن، ولكنّ المشروع نفسه وُضع في عهد ريجان، وجُمّد فترة من الزمن بسبب تكاليفه المالية، وأعاده كلينتون -وليس بوش الابن- إلى الحياة من جديد..

"الحرب الوقائية" والتهديد باستخدام السلاح النووي ضدّ "عصابات الإرهاب الدولي والدول المارقة" صارا جزءا معلنا من سياسة "المحافظين الجدد" في عهد بوش الابن، ولكنّ التدريبات العسكرية على استخدام السلاح النووي على هذا النحو، كان قد بدأ عام 1996م في عهد كلينتون، كما أنّ "الحرب الوقائية" كانت مرحلة تطويرية جديدة للخطوة التمهيدية السابقة لها منذ عهد ريجان، وكانت تحت عنوان "الضربة النووية الأولى" كسياسة رسمية لواشنطون ولحلف شمال الأطلسي، وتمسّك بوش الأب ثمّ كلينتون بها رغم سقوط المعسكر الشرقي كمصدر فعلي لخطر نووي ما.

وتوجد أمثلة أخرى عديدة.

 

خطوط حمراء مشتركة

إنّ الحصيلة التي يفرضها التأمّل في حلقات هذا المسلسل هي أنّنا نقف أمام خطّ بياني يسير بالأمريكيين والأوروبيين على خطين يتباعدان بصورة واضحة وثابتة، ويؤكّد البُعد الزمني لثوابت هذا الخطّ البياني أنّ الحديث عن خلاف أمريكي-أوروبي لا يصل إلى نتيجة قويمة دون اعتبار هذا الخلاف "تباعدا استراتيجيا"، وأنّ من لا يتعامل معه على هذا الأساس سيجد نفسه باستمرار أمام مفاجآت جديدة على المسرح الدولي.

ويبقى من الضروري أخذ عدد من الاعتبارات الإضافية بعين الاعتبار، ويمكن الاكتفاء هنا بذكر عناوين طلبا للإيجاز وأهمّها:

لا تقوم العلاقات الدولية عموما على التمييز بين أسود وأبيض، أو صدام وتحالف كما هو معروف، وهذا ما يسري على مراحل تطوّر العلاقات عبر المحيط الأطلسي.

التناقض بين جانبي الأطلسي لا يلغي وجود قسط ضخم من المصالح المتشابكة المشتركة الناشئة في حقبة الحرب الباردة، ولن يصل لهذا السبب -في المستقبل المنظور على الأقلّ- إلى درجة "صدام مباشر"، كما أنّ مراعاة هذه المصالح تفسّر عدم اتخاذ مسيرة التباعد "خطّا مستقيما" دون تراجع هذا الطرف تارة وذاك الطرف تارة أخرى، والتلاقي على حلول وسطية في بعض النقاط الخلافية تارة ثالثة.

الحرص الأوروبي على عدم وقوع صدام خاسر مبكّر مع الأمريكيين يفسّر فيما يفسّر الازدواجية في السياسات الأوروبية أحيانا.

السياسة الأمريكية كانت وما تزال تعمل على صنع الحدث الإقليمي أو الاستفادة ممّا يقع من أحداث إقليمية لتحقيق أهدافها "الثابتة" من الأصل، وهذا ممّا يفسّر الازدواجية لديها بقدر ما ترى في ذلك "التوظيف" فائدة أو ضررا.

توجد نقاط مشتركة بين سائر القوى الدولية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، في مقدّمتها احتكار أسلحة الدمار الشامل تحت عنوان منع انتشارها، وكذلك الخشية من تحوّل "الصحوة الإسلامية" إلى مشروع حضاري عالمي يثبت وجوده ويقف بالمنطقة العربية والإسلامية على أقدامها مجدّدا، ولهذا نجد كثيرا من المواقف المشتركة، الأمريكية-الأوروبية، التي لا تصدر عن ظاهرة "الطلاق الأطلسي" وإنّما تصدر عن ذلك الجزء المشترك من الأرضية التي تقوم عليها السياسات الدولية حاليا، وهو ما يتضّح مثلا من التعامل مع ما يُسمّى "القنبلة الإسلامية" أو رفض التفاعل مع إنجازات ما في قضية فلسطين يغلب عليها ما تصنعه منظّمات المقاومة "الإسلامية".

لا يتّسع المجال في هذا الموضوع للبحث في معالم السياسة الأنجع للتعامل مع المعطيات "الاستراتيجية"  الدولية بما فيها "الطلاق الأطلسي" القادم آجلا أو عاجلا، فهذا ما يتطلّب دراسات وبحوثا قائمة بذاتها، ولكنّه يتطلّب أيضا أن تجد النتائج المنهجية لمثل تلك الدراسات والبحوث طريقها إلى دوائر صناعة القرار في البلدان العربية والإسلامية على وجه التخصيص، بحيث تنطلق من "ثوابت استراتيجية" مشتركة أيضا، وإلاّ فلن يجد أي بلد منها مكانا لها على خارطة الغد في نظام عالمي جديد قادم.

نبيل شبيب