رؤية – استهداف تركيا (٤) الجولة القادمة

الجولة التالية ضد تركيا جزء من جولة تالية أوسع نطاقا وأبعد مدى للتحرك الدولي من أجل صفقة القرن والمضاد لتحرير الإرادة الشعبية ثوريا

48

 

لا يزال التحرك الدولي المضاد لتحرير إرادة الشعوب عبر ثورات "الربيع العربي" مستمرا، إنما قطع أشواطا كبيرة، ووصل في سورية إلى لحظة مفصلية، وتزامنت تلك الأشواط مع تصعيد متواصل لاستهداف تركيا أيضا، ويرجّح أن تشهد الجولة القادمة تركيزا أكبر على استهدافها الآن، وهذا ما يتزامن مع السعي الأمريكي الغربي لتوظيف أنظمة عربية ماليا وربما عسكريا لصالح "صفقة القرن"، اعتمادا على المرتزقة في غياب قوة عسكرية ذاتية فاعلة، وذلك:

(١) لأداء مهمة "عدوانية" في مواجهة تركيا على الأرض السورية..

(٢) وفي الوقت نفسه باعتبار ذلك مهمة "انتحارية" أيضا لمتابعة تدمير قدرات ذاتية في بلداننا الأخرى المستهدفة، ولكن تنفيذ الاستهداف يتم عن طريق أنظمتها التي تورطت في المشاركة في التحرك المضاد للثورات ومسار التغيير التاريخي الحالي، دون غياب مخالب الهيمنة الإيرانية، بدءا بحصار فلسطين وانتفاضاتها وبتدمير العراق وتحييده، انتهاء ببلدان الربيع العربي، حيث لا تزال الهجمة الشرسة مستمرة رغم تعقيداتها الظاهرية في اليمن وليبيا وسورية، بعد الانقلاب الدموي في مصر وغير الدموي في تونس.

 

مقدمة وموجز ما سبق

عن الجولة القادمة من استهداف تركيا وقد بدأ التمهيد لها، يدور الحديث في الفقرات التالية بعد تناول "الأسباب والخلفيات" و"إمكانات التحرك" و"المخاطر والمآلات" في ثلاثة مقالات سابقة تحت العنوان المشترك: "استهداف تركيا".

لا ريب أن الجولة القادمة ستكون أشد ضراوة وعنفا مما سبقها، إنما لا يعني ذلك أن "تركيا" أصبحت لقمة سائغة، فهي القوة الإقليمية الوحيدة "الصاعدةخارج حسابات هيمنة تعتمد على "تبعية الأنظمة مباشرة" كما في دول الخليج ومصر، أو على نسيج مساومات ومقايضات كما في إيران..

كما تميزت السياسة التركية -وهو ما ظهر بوضوح في الساحة الدولية للتعامل مع ثورة سورية- بمرونة مدروسة لموازنة المصالح وتوظيفها لتحقيق أهداف بعيدة "واجبة" عبر تحقيق أهداف "ممكنة" مرحلية، وهذا مما ترك آثاره على تعزيز القوة الداخلية الذاتية بمعادلة اندماجية جمعت "الدولة والشعب والوطن"، على أرضية إنجازات متتالية، أبطلت مفعول كثير من الألغام الداخلية والإقليمية والدولية.

 

رأس الحربة القادمة.. تمويل مرتزقة

انكسر الأسلوب التقليدي لاعتقال تركيا بدبابة الانقلابات العسكرية.. كما في مصر مثلا.

وانكسر الأسلوب التقليدي لضغوط اقتصادية ومالية.. نتيجة متانة بنية النهضة الذاتية في تركيا.

وانكسر في التعامل مع تركيا تحديدا الأسلوب الجديد نسبيا (بعد حربي أفغانستان والعراق) لما سمي الحروب المحلية بالنيابة، عبر التوريط العسكري لأنظمة إقليمية في خدمة أهداف قوى دولية، وهو ما تشهد ساحات اليمن وليبيا مفعوله في الدرجة الأولى.

أول ما تتميز به الجولة التالية هو تصعيد المواجهة العسكرية (بالنيابة) لتركيا ووجودها الحالي في الشمال السوري:

١- بعد أن كان العنوان المطروح أمريكيا حتى الآن هو دفع بعض الدول الخليجية إلى تمويل "وجود عسكري أمريكي" مباشر في سورية ضد الهيمنة الإيرانية، فإن الاحتمال الأكبر كما تظهره بداية التحركات التمهيدية الجارية هو تمويل عربي لجيش من المرتزقة (شركة أكاديمي الأمريكية.. بلاك ووتر سابقا) في مناطق لا تشمل مواجهة إيران، وذلك في سورية (الرقة ومنبج.. وسواهما) أي ما سيطرت عليه القوات الأمريكية اعتمادا على ذراعها العسكري المحلي باسم "قوات الحماية الشعبية" وهي التي تمثل فريقا من الأكراد يواجهون تركيا ولا يترددون عن التعاون مع بقايا النظام ي سورية.

٢- لا يبدو أن الدول العربية (تشمل مصر) التي تتواصل واشنطون معها سترسل قوات نظامية فأوضاعها الراهنة (اليمن.. وسيناء) لا تسمح بذلك ولكن يبدو أن الهدف أو الحصيلة -سيان- هو استنزاف البقية الباقية من قدراتها المالية، وهو ما كانت خطوته الكبرى الأولى -بعد "أزمة النفط عام ١٩٧٣م"-  بتمويل حرب احتلال العراق.

٣- الجولة التالية من التحرك ضد تركيا جزء من جولة تالية أوسع نطاقا وأبعد مدى للتحرك الدولي المضاد لتحرير الإرادة الشعبية ثوريا في بلدان الربيع العربي، وهذا ما وصل بعد انزلاق روسيا إلى المغامرة العسكرية في سورية، إلى مرحلة ترسيخ تقسيم مناطق النفوذ على حدود حربية، ملتهبة محليا.. وليس بأسلوب "سايكس بيكو" السياسي / العسكري المباشر.

٤- لا يقتصر ذلك على الأرض السورية، بل يشمل منطقة الخليج واليمن، ووادي النيل وليبيا، فضلا عن وضع تركيا وإيران والأكراد وجها لوجه في ساحات المواجهة العسكرية المباشرة.

٥- الأرجح أن ذلك يشمل من المنظور الغربي العمل عبر مواجهات محدودة (أي التي تبقي النار مشتعلة دون الانخراط المباشر فيها) لاستنزاف القدرات العسكرية والسياسية والمالية الروسية أيضا، وكان منها التحرك الغربي الثلاثي الأخير في سورية أو ما سمي الضربة العسكرية، بذريعة جريمة (من بين جرائم لا تعد ولا تحصى) استخدام الكيمياوي في دوما من جانب بقايا النظام برعاية روسية / إيرانية.

 

في ظلال "صفقة القرن" الجديدة

كان استهداف تركيا حتى الآن وسيلة رئيسية للحيلولة دون صعود إحدى الدول الرئيسية إلى موقع قوة إقليمية تصلح لنشأة قيادة "حضارية جماعية" في بلادنا (العربية.. الإسلامية.. النامية.. سيان ما كانت التسمية) تتمتع بمواصفات النهوض عسكريا وصناعيا والعقلانية والواقعية سياسيا واقتصاديا.

ولم تجد تركيا تفاعلا إيجابيا مع ما سعت إليه على هذه الأرضية من أجل فتح أبواب التعاون "الممكن" مع أكثر من دولة رئيسية إقليمية أخرى، لا سيما السعودية ومصر وباكستان، ولم تجد "تعاملا مصلحيا" إلا من جانب إيران على خلفية "افتراق مصلحي" أكبر ومعروف للطرفين، على المدى المتوسط والبعيد، ويسري شبيه ذلك على التعامل مع روسيا المحسوبة على "مجموعة القوى الدولية".

لقد كانت سرعة تصعيد الاستهداف الغربي لتركيا محكومة بضرورة إيجاد مزيد من المعطيات الإقليمية المناسبة للتصعيد، وهذا ما تركز على متابعة التحرك المضاد للتغيير الثوري أو "الربيع العربي"، مما وصل إلى المرحلة الخطيرة الحالية.

إن الجديد في الجولة التالية من استهداف تركيا، وبالتالي استهداف المنطقة إقليميا، هو دفع قوى إقليمية أخرى لدفع فاتورته، ليس المالية فحسب، بل مع ما يعنيه ذلك من القضاء على ما بقي من بذور ذاتية للنهوض الحضاري، وهذا في لحظة تاريخية حاسمة لا غرابة في سعي القوى المهيمنة دوليا وإقليميا لجعل العلامة المميزة لها هي "صفقة القرن" على خلفية اكتمال سبعة عقود على النكبة الكبرى الأولى، أو صفقة القرن الميلادي العشرين الراحل.

نبيل شبيب