السقوط الغربي حضاريا.. مؤشرات أم تكهنات؟

رؤية أشمل تاريخيا ورؤية أعمق ماديا

رؤية بحثية – هل يمكن في الوقت الحاضر العمل فعلا لصالح تطور انسيابي يخدم دورة الحضارات وتعاقبها

0 138
دورة الحضارات

رؤية بحثية

المحتوى
مقدمة – هل الانهيار الغربي هدف مطلوب؟ – مخاوف قديمة متجددة – رؤية أشمل تاريخيا ورؤية أعمق ماديا – مؤشرات من الواقع – رؤية سياسية وعسكرية

*        *        *

مقدمة
لا ينفرد كاتب هذه السطور بالسؤال عن مسألة انهيار الغرب حضاريا، بل هي من المواضيع المطروحة بكثافة في المقالات الإعلامية والكتب الفكرية، في بلادنا وفي الغرب نفسه، وازداد ذلك بشكل ملحوظ في الأعوام القليلة الماضية، ولم يكن غائبا منذ عقود عديدة أيضا، ومن الأمثلة على بعض ما كتب ونشر بالعربية:

١- “ميشال أونفري: انهيار الحضارة الغربية أمر لا مرد له”، إعداد حميد زناز، يوم ٢٨ / ٥/ ٢٠١٧م، في جريدة العرب اللندنية، ويتضمن مقابلة مع الفيلسوف الفرنسي (ميشال أونفري) حول كتاب له (من يسوع إلى بن لادن، حياة الغرب وموته)
٢- هل انهيار الحضارة الغربية أمر حتمي؟ بقلم راشيل نوير، يوم ٤/ ٥/ ٢٠١٧م في موقع بي-بي-سي اللندنية
٣- سيناريو انهيار الحضارة الغربية.. هل بات قريباً؟ بقلم: هيفاء زعيتر، يوم ٣/ ٥/ ٢٠١٧م في موقع رصيف ٢٢

ويوجد المزيد من أعوام سابقة أيضا، ومن ذلك كمثال:

٤- في انتظار سقوط الحضارة الغربية، بقلم: زياد الدريس، يوم ٤/ ٢/ ٢٠١٥م، في جريدة الحياة اللندنية
٥- موت الغرب وانهيار الحضارة الغربية بقلم: عائض بن سعد آل تميم الدوسري، يوم ١٤/ ٤/ ٢٠٠٧م في جريدة الجزيرة السعودية

هل الانهيار الغربي هدف مطلوب؟
وفرة ما يكتب حول الموضوع لا تعني الدعوة إلى “تدمير حضاري”، بل ينبغي التأكيد:
١- لا ينبغي أن يكون “السقوط الغربي حضاريا” مطلبا أو هدفا، فتطور تشابك العلاقات العالمية يجعله إن وقع مرتبطا بمخاطر كبرى على مستوى البشرية، إنما ينبغي رصد أسبابه ومظاهره واستشراف مآلاته المحتملة، للعمل عند الضرورة وقدر الإمكان من أجل تطور “انسيابي” في نطاق ما عرفه التاريخ تحت عنوان “دورة الحضارات وتعاقبها”.
٢- لا يدور الحديث في هذا الموضوع عما يقول به من يتموضع حضاريا أو مصلحيا في موقع الرفض أو العداء للغرب، بحق أو دون حق، بل يستند الحديث إلى ما يقول به عدد كبير من مفكري الغرب أنفسهم وما يطرحونه من منطلق الحرص على الغرب، ولتجنب ما يؤدي إلى السقوط كما يستشرفونه.
٣- دون الاستهانة بدور الفكر من وراء صناعة القرار، تبقى المسؤولية المباشرة عن الانتكاسات والانحرافات والانهيارات في الغرب (كسواه) على عاتق صناع القرار المالي والسياسي والعسكري والاقتصادي، عبر تحديدهم أهدافا استراتيجية خاطئة واختيارهم وسائل مُدانة أو مهترئة قيميا، ومن ذلك ما يتفق أو يختلف مع ما يستندون إليه هم أنفسهم من أفكار وقيم.
٤- تنطلق فرضيات المفكرين الغربيين حول سقوط الحضارة المادية الغربية من أسباب ثقافية حضارية وأخرى موضوعية مادية، وطرحها في الغرب قديم متجدد، ويقتصر الحديث التالي على أمثلة موجزة دون محاولة الإحاطة الشاملة بتلك الفرضيات وبتطورها وتفرعها.

مخاوف قديمة متجددة
يستشهد كثير من أدبياتنا الفكرية والسياسية بمقالة صموئيل هينينجتون الشهيرة حول صدام الحضارات عام ١٩٩٣م، والتي حوّلها إلى كتاب لاحقا، وقد شاع في تلك الأدبيات اعتبارها “موقفا حضاريا هجوميا” على الآخر، لا سيما الدائرتين الحضاريتين الإسلامية والصينية. والواقع أنه كان موقفا دفاعيا من جانب هينينجتون، إذ يحذر الغربيين من الاطمئنان إلى مكتسباتهم الجغرافية والسياسية من سقوط الشيوعية ونهاية الحرب الباردة، وكان الدافع المباشر لديه اتساع نطاق تداول ما اعتبره فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ” لصالح “الإنسان الأخير” أي “الغربي”، بمعنى استقرار البنية الهيكلية الراهنة للحضارة الحديثة تحت الزعامة الغربية. أما هينينجتون فقد رفض القول بنهاية التاريخ ورأى في مساره المستقبلي كماضيه ميادين “صراع” تنطوي على تبدلات وتقلبات محتملة، فينبغي الاستعداد لها والتعامل معها.
صحيح أن فوكوياما تأثر بأطروحات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى وجه التحديد بتعليلها بالعمل لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وفق الرؤى الغربية، ولكن الوسائل التي اتبعوها في العقد الأول من القرن الميلادي الحادي والعشرين ثم العواقب الوخيمة على الغرب نفسه، جعلته يتبرّأ من مساراتهم لاحقا، فرفضها بقوة عام ٢٠٠٦م في كتابه “ما بعد المحافظين الجدد.. حيثما أخطأ اليمين التحرك”.
والواقع أن التحرك “العسكري الهجومي” للهيمنة في عهد المحافظين الجدد كان أقرب إلى التأثر بتحذير هينينجتون والتحرك وفق مقتضياته، بغض النظر عما “أراده” هينينجتون نفسه.
على أية حال نرصد من هذه المرحلة الحديثة نسبيا عنصر “الخوف من السقوط الحضاري المادي” وعنصر إخفاق الوسائل التقليدية (منذ العهد الاستعماري) للحيلولة دونه بأسلوب “الهجوم خير وسائل الدفاع”.

والسؤال:
من أين ينشأ الخوف رغم الهوة الهائلة الفاصلة بين إمكانات الغرب وبين سواه عموما في معظم الميادين؟
إذا كانت حصيلة حروب بوش سلبية بالمنظور الغربي لا سيما منظور زعامة الغرب الأمريكية بالمقارنة مع حصيلة الحربين العالميتين، فكيف نفسر انتشار ظاهرة خوف المفكرين الغربيين من الانهيار حضاريا قبل تلك الحقبة، على امتداد أكثر من مائة عام مضت، مع تعليل المخاوف من الزاويتين “الفلسفية القيمية” و”المادية المدنية”؟

رؤية أشمل تاريخيا ورؤية أعمق ماديا
لعل أكثر من أثار الجدال التاريخي مبكرا الفيلسوف الألماني أوسفالد شبرينجلر في كتابه “انهيار الغرب”، وقد ظهرت مقدماته عام ١٩١٢م (أي قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل الأزمة المالية الكبرى بعدها) ثم تجاوزت أطروحات الكاتب حدود ألمانيا مع طبعة الكتاب عام ١٩١٨م. وقد انطلق في تعليل توقعاته من منطلقات فلسفية وثقافية، ومن مقارنات تاريخية متطاولة لمقومات صعود حضارات سابقة وضمورها، فلم يتوقع الكاتب أن تكمل الحضارة المادية الحديثة القرن الخامس من عمرها.
القبول بهذا التنبؤ وما يترتب عليه مرفوض تلقائيا في المجتمع الغربي بطبيعة الحال، ولأسباب “نفسانية” على الأقل، ولعل هذا ما جعل الأوساط الفكرية وسواها في العهد النازي ثم في حقبة الحرب الباردة تتجنب الاهتمام بأطروحات الكاتب ومخاوفه، ولكن طباعة الكتاب مجددا عام ٢٠٠٧م، تنوّه إلى عودة الاعتبار لما طرحه على خلفية ما يجدد المخاوف ذاتها حاليا، في مواكبة ظروف سائدة فكريا في ثنائيات “فوكوياما وهينينجتون”، وتطبيقيا عبر صعود المحافظين الجدد وتراجعهم.

توجد أمثلة أخرى على ظاهرة المخاوف، وعلى كبتها أو تجاوزها نتيجة ازدياد مفعول عنصر “الرفض النفساني التلقائي” لدى نسبة عالية من أهل البلدان الغربية، وهذا مرتبط بمستوى معيشة الرفاهية عموما وما يشيعه من اطمئنان أو من “رغبة الاستمرار دون نهاية”. وهذا ممّا يتحدث عنه المؤرخ البريطاني والأستاذ الجامعي للتاريخ في جامعة هارفارد “نيآل فيرجوسون” إذ يشكو تحت عنوان “نحن نمحو نجاحنا” من صعوبة إقناع “جمهور واسع” بوجود خطر “الانهيار” أصلا، وينوّه بذلك إلى أن أصوات التحذير لا تصل أصلا إلى “من ينكرون ابتداءً القبول بفكرة وجود مشكلة” فهم لا يقرؤون ما ينشر عن ذلك ولا يسمعون من يردّده.

الواقع أن المفكرين الغربيين لم ينقطعوا عن التحذير من “الانهيار” وإن اختلفت تعليلاتهم، ولعل سواد منطق التعليل “المادي” في الحياة الغربية عموما جعل أغلب تعليلاتهم الحديثة تميل إلى استخدام المنطق المادي، بمعنى الاستشهاد بمآلات مسارات اقتصادية ومالية ملموسة في الإطار الحضاري الغربي، ومنها ما عبر عن نفسه في أكثر من أزمة مالية عالمية، إنما كانت مخاوف المفكرين تتوالى من قبل كما يعرف مثلا عن “نادي روما”، وقد تأسس عام ١٩٦٨م من خبراء من ثلاثين بلدا، واشتهر عبر كتاب “حدود النمو” عام ١٩٧٢م، وفيه نقد اعتبار “نسب النمو الاقتصادي” المحضة معيارا للتقدم والرفاهية، وقد حذر من وصول ذلك إلى درجة تمنع متابعة طريق التقدم الفعلي في خدمة البشرية، ولا يزال نادي روما ينشر حصيلة أفكار أعضائه من مقره الجديد في سويسرا، ولا يخلو بعضها من تحذيرات مشابهة.
وهذا ما يسري على فيرجوسون فلم تمنعه عقبة “الرفض النفساني التلقائي” من الإدلاء بدلوه في التحذير من الانهيار عبر كتابه “سقوط الغرب” عام ٢٠١٤م، إنما تميز فيه بتعليل المخاوف من خلال التركيز على معطيات مادية تنذر بالتراجع الغربي، مثل تناقص حصص الدول الغربية الكبرى من مجموع الإنتاج والتصدير والتطوير عالميا، ولم يغفل الجانب القيمي وفق منظوره الغربي، فدعا إلى إحياء القيم الحضارية مجددا، وهي كما يراها في أربعة محاور: “الديمقراطية، والسوق الحرة، ودولة القانون، والمجتمع المدني”، ويرى أن هذه المحاور تتراجع لحساب ما يفرض نفسه ماديا أو عبر القوة العسكرية.
الواقع أنه يتلاقى هنا بصورة غير مباشرة مع شبرينجلر الذي اعتبر المرحلة النهائية في تاريخ “الحضارة” هي مرحلة “المدنية” ويعتبرها “موتا حضاريا” أو هي عنده حصيلة معالم التحول من المظاهر الثقافية الحضارية إلى مظاهر مدنية مادية محضة.

مؤشرات من الواقع
بين أيدينا على سبيل المثال دون الحصر مما نعايشه بتسارع كبير:
١- ظاهرة شعبوية التطرف اليميني الغربي واقترانها باسم رئيس “دولة كبرى” ترامب، وهذا بعد سلسلة حروب بوش المدمرة الخاسرة، وبعد مراوغات أوباما المتواصلة دون إحداث “تغيير” موعود.
٢- سطحية التعامل مع جذور أزمات مالية دولية، واقترانها بصعود التنافس مع دول وقوى ناهضة في ميادين متعددة.
٣- تشققات متعددة في قضبان قاطرة مسيرة الوحدة الأوروبية ومقطوراتها.
٤- ضياع معالم الأسرة التقليدية اجتماعيا وغياب التجانس داخل المجتمع الواحد.
٥- انقلاب “هرم الأعمار” بين الأجيال زمنيا وامتداد ظاهرة الانقراض السكاني جغرافيا.
٦- انخفاض نسبة الكفاءات العاملة للوفاء بأهداف النمو الاقتصادي مع تسارع تعقيدات التقنيات الجديدة.
٧- تباطؤ طرح الحلول الناجعة والأخذ بها لمواجهة مشكلات كبرى في الواقع الإنساني والبشري، بدءا بتبدل المناخ العالمي مرورا بهوة التقدم والتخلف انتهاء بموجات التشريد والهجرة واللجوء.
٨- ازدياد دموية تعامل همجي متبجح مع ثورات شعبية وحروب أهلية واحتياجات إنسانية وانتهاكات حقوقية، وازدياد اهتراء مفعول منظومة قيم وحقوق إنسانية كانت المحرك الأول لولادة الحضارة الغربية الحالية في حاضنة تنوير أوروبي.

جميع ذلك وعناصر عديدة أخرى أصبح من أسباب ما ينتشر باطّراد من تساؤلات عما ستؤول إليه مسيرة النهضة الغربية التي بدأت في أوروبا قبل نحو خمسمائة عام، وما إذا كانت هذه الأعراض المرضية مؤشرات لانهيار وشيك أم مقدمات لانهيار بطيء، هذا مع غياب مؤشرات جادة في الأفق المستقبلي المنظور باتجاه بديل حضاري مؤهل لمتابعة طريق الأسرة البشرية كما كان في نقلات حضارية تاريخية سابقة، ولا أحد يستطيع التنبؤ بما يمكن وقوعه إذا نشأ فراغ كبير نتيجة تسارع سقوط الحضارة الغربية، سواء اعتبرناها عملاقا مصابا بفيروسات شرعة الغاب أم صرحا إنسانيا للقيم الحقوقية والعطاءات العلمية والتقنية والإدارية.

رؤية سياسية وعسكرية
كما يمثل كل من شبينجلر وفيرجوسون نموذجا لتيار فكري في تعليل المخاوف من السقوط الحضاري، يعتبر الكاتب والإعلامي الألماني يان روس مثالا على رؤية ثالثة وفق ما طرحه عام ٢٠٠٨م في كتابه “ما الذي سيبقى منّا” – بمعنى نحن الغرب – وترتكز هذه الرؤية على مراجعة البنية الهيكلية المعبرة عن التوجهات الثقافية القيمية وعن الأهداف المادية الملموسة، فيرى محور أسباب السقوط  الحضاري كامنا في “النهج السياسي” السائد باسم الواقعية (الترجمة الصحيحة لكلمة براجماتية: الواقعية النفعية، ومحورها الفلسفي: واقعية الممارسة المصلحية الذاتية المباشرة المتجاوزة للعقل والمبادئ) وهي نتاج فلسفة طُرحت أمريكيا (ويليام جيمس وآخرون) في بداية القرن الميلادي العشرين، وكان من محطاتها التطبيقية الحديثة نسبيا، استخدام القوة العسكرية لغرض مادي محض كما في انقلاب المخابرات الغربية على مصدق في إيران، أو للهيمنة تحت عنوان “نشر الديمقراطية” كما كان في حرب احتلال العراق.
إلى جانب المحور “السياسي والعسكري” توجد محاور عديدة تناولتها أطروحات مفكرين غربيين آخرين، وتحفل العقود الماضية بعد الحرب الباردة بكتب عديدة يتناول مؤلفوها – كل في مجال تخصصه – النواقص المنتشرة بنيويا في الآليات الهيكلية للحضارة الغربية، مما يبدأ بالإعلام ووسائله، ويشمل الأسرة وسقوط حصونها، ويقتحم أسوار المؤسسات والشركات والهيئات المجتمعية الأخرى، ولا يتوقف عند جدران الكنائس وما وراءها.

ونعود للسؤال:
هل يمكن في الوقت الحاضر العمل فعلا لصالح تطور “انسيابي” يخدم “دورة الحضارات وتعاقبها”؟
لا يوجد جواب جاهز، إنما لا ينبغي أن تتجاوز محاولات الإجابة الرؤية المتوازنة والعملية، وهنا لا يفيد التركز على منظومة القيم وحدها كحاضنة لنهضة حضارية قادمة، مع إغفال هيكلية تشييد الحضارات عبر قدرات علمية وتقنية وإدارية وسواها من أسباب القوة الفاعلة للتأهيل من أجل استلام مقود الريادة في مسيرة حضارات متعاقبة في حياة الأسرة البشرية وجنس الإنسان.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب