الألعاب الأوليمبية في طاحونة العولمة

على هامش دورة أوليمبية جديدة

النهضة الرياضية مطلوبة شريطة اقترانها بضوابط القيم ضمن نسيج تكوين الفرد والمجتمع

0 56

رؤية تحليلية

بغض النظر عن بعض الإيجابيات فيها لم تصل العولمة المادية المعاصرة إلى ميدان من ميادين الفكر والثقافة والعلاقات البشرية، إلاّ وساهمت إسهاما كبيرا في تحويله إلى واجهة براقة عبر دعاية مغرية، سوداء في واقع ما تواريه وراءها، مما لا يكاد يعرف شيئا آخر سوى تحصيل المال، بمختلف السبل القويمة والملتوية.

حرية المال في حصار الأفكار

ولدت فكرة الألعاب الأوليمبية في عصر الإغريق لإيجاد ميدان آخر غير ميدان الحروب الدموية الطاحنة بين أثينا وإسبارطة آنذاك، وولدت مجددا عام ١٨٩٦م لغرض مشابه، أو هذا على الأقل ما كانت تؤكده دعوة البارون الفرنسي شوبرتان عام ١٨٩٤م، إذ أراد أن يُوجَد للأوروبيين ميدانٌ آخر للتلاقي خارج ساحات الاقتتال التي عرفوها على امتداد ألوف السنين الماضية، وليكن تلاقيا سلميا يجذب إليه جماهير جيل الشبيبة خاصة، ويوجد نجوما رياضيين تصبح بطولاتهم بديلا عن بطولات زعماء الحروب.

ولم تمنع الدورات الأوليمبية التالية وقوع حروب البلقان والحربين العالميتين، وما بعدهما، وزاد على ذلك غياب عنصر توازن الرعب أو توازن الردع النووي، الذي منع الحرب في الشمال من كوكب الأرض على امتداد أربعين سنة، لتنتشر سلسلة حروب إمبراطورية أمريكيّة، ولم يمنع وقوعها شيء من أفكار السلام، سواء في الصيغة الأوليمبية أو ما انتشر أيضا تحت عناوين المواثيق العالمية والقوانين الدولية العامة والإنسانية.

المشكلة ليست مشكلة الفكرة الأوليمبية وما قد يكون لها أو عليها، وما يسود من اختلاف بصدد تفاصيلها، إنما هي مشكلة موقع الأفكار في عصر العولمة وهي في قبضة هيمنة القوة، وقد كان للعولمة مسيرتها التاريخية الطويلة، واتخذت أشكالا عديدة، ولكنها منذ التسعينات من القرن الميلادي العشرين، أصبحت أشد وطأة على الإنسان وعلى الفكر، مما كانت عليه في أي حقبة مضت.

المشكلة تكمن في إعطاء القوة المادية مكانة الصدارة من صناعة القرار، في مختلف الميادين المعيشية، بما فيها الميادين الثقافية والرياضية.

الرياضة هي الرياضة عموما، في صيغة بطولات عالمية لكرة القدم والتنس والملاكمة وألعاب القوى وغيرها، وفي صيغة المهرجان الأوليمبي الكبير مرة كل أربعة أعوام، بمشاركة دول يزيد تعدادها على عدد أعضاء الأمم المتحدة نفسها، وأصبحت كسواها من الميادين الثقافية والفنية، الأدبية والسينمائية، تحت سيطرة القوى المالية بدعوى الحرية الشخصية في الحياة الاقتصادية. فلم تعد الفكرة هي مصدر المعايير لاتخاذ القرار، إنما أصبحت لعبة الصراعات المادية المستمرة، هي العامل الحاسم من وراء المظاهر الاحتفالية، الإعلامية وغير الإعلامية، الرسمية وغير الرسمية، مع مختلف دورات البطولة المتتالية.

لهذا أصبح ما يُنفق في قطاع الدعاية على صعيد الرياضة وحده، أكبر حجما مما يستهلكه أكثر من مليار من البشر من سكان المعمورة، ولا يجدون ما يكفي من الغذاء والدواء، وأكبر حجما مما تنفقه الدول المتقدمة والنامية معا على مختلف قطاعات البحث العملي والإنتاج الفكري والثقافي والفني. وهذا هو الرقم القياسي الأهم من الأرقام القياسية التي يحققها أبطال ونجوم رياضيون، عند الإشارة مثلا إلى أن مجلس أعضاء الهيئة الأوليمبية الدولية الذي يقرر ما يراد أن يكون متعة رياضية للشباب، يتجاوز وسطي أعمار أعضائه السبعين عاما، وهم أكثر من مائة عضو، يُعتبرون من أثرياء العالم، ولم تتبدل أوضاعهم وعلاقاتهم رغم جميع ما انكشف وما يزال ينكشف من فضائح الفساد والمحسوبية، على أعلى المستويات.

لعبة رياضية أم سياسية وإعلامية

كان يتردد الحديث كثيرا عن قاعدة فصل السياسة عن الرياضة، وتجاوز هذا المبدأ القائلون به أنفسهم في ممارساتهم العملية، ولكن لم يعد هذا الخرق لمبدأ الفصل بين الرياضة والسياسة يتكرر إلاّ نادرا، وعند التأمل في الأسباب نجدها تتركز على أن الرياضة نفسها أصبحت قطاعا اقتصاديا، أدرجه الاتحاد الأوروبي منذ عام ١٩٩٦م كأحد القطاعات الرئيسية في مخططاته الاقتصادية للقرن الميلادي الحادي والعشرين، وله من الأنصار ذوي النفوذ، مَن يستطيع إملاء قراره المصلحي المادي على صانعي القرار السياسي.

بالمقابل أصبحت السياسة توظف الرياضة لأغراضها أيضا، فتلتقي المصالح الاقتصادية والسياسية إلى حد بعيد، ومن جوانب ذلك في البلدان النامية وصول توجيه الناشئة والشباب باسم المتعة الرياضية، إلى درجة الهوس لا الممارسة والاستمتاع فقط، فأصبح ذلك جزءا صميميا من عملية الإلهاء الكبرى، للابتعاد بجيل المستقبل عن القضايا المصيرية التي تحتاج إلى طاقات أفراده وقدراتهم واختصاصاتهم وإنجازاتهم وإلى الأرقام القياسية التي يحقّقونها ومراتب الفوز التي يصلون إليها، في مختلف الميادين، علاوة على الميدان الرياضي، فالرياضة ضرورة ومتعة، ولكنها لا تحقق وحدها أهداف التقدم والتحرر واستعادة الحقوق والكرامة وممارسة السيادة على صعيد صناعة القرار وطنيا، والإسهام في صناعته دوليا.

جميع ذلك لم يعد موضع الاستغراب إلا نادرا، ليس جهلا به وإنما نتيجة الدور السلبي في كثير من وسائل الإعلام، ولا يكمن الخلل في حجم الإعلام عن الحدث الرياضي، قدر ما يكمن في الاستعاضة به عن التوعية في الميادين الفكرية والسياسية والاقتصادية والتقنية وسواها، وعن طرح المشكلات التي نواجهها مع الحلول الممكنة لها، وعن انتقاد ما ينبغي نقده من قرارات المسؤولين، وعن تقديم النصح فيما يجب النصح لتقويمه، فعند افتقاد ذلك كله يتحول الإعلام الرياضي إلى وسيلة من وسائل الإلهاء والتخدير، بدلا من أن يساهم في تحقيق هدف التربية والمتعة على الصعيد الرياضي.

التوازن المطلوب

لا تصدر هذه الكلمات عن تعميم موقف يعادي الرياضة أو من يمارسها، فالرياضة جزء لا غنى عنه في تكوين الإنسان الفرد، وفي دعم روح التعاون والتضامن في المجتمعات، ولها دورها في التعارف والتقارب والتفاهم بين الشعوب والأمم، هذا إذا وجدت الرياضة مكانها الطبيعي في إطار تربية الفرد وتوجيه المجتمع، بصورة متوازنة متكاملة مع العناصر الأخرى الأساسية، الضرورية لتحقيق تربية سوية وتوجيه قويم، فهل هذه هي الحال اليوم في بلادنا العربية والإسلامية وعالميا؟

ولا خلاف على أهمية موقع الرياضة في توجيه الشبيبة، لا سيما بعد أن أصبحت تصل من خلال المباريات والمهرجانات الضخمة إلى المليارات في أنحاء العالم، أي بما لا يقارن إطلاقا مع عدد المشاهدين عبر الشاشة الصغيرة في حدود ١٤٠ ألفا في بدايات مسيرة التلفزة أثناء الدورة الأوليمبية عام ١٩٣٦م.

التربية الرياضية القويمة، الفردية والاجتماعية، هي من الأصل جزء لا يتجزأ من نسيج تكوين المجتمع على الوجه الأمثل. وأي مخطط يتطلع إلى تحقيق نهضة رياضية قويمة في مجتمعاتنا، لا بد أن يضع في حسابه أن قطاع الرياضة، كسائر القطاعات المشابهة ذات العلاقة بالاستمتاع والترفيه وتجاوب الشبيبة واللهو، لا يكفي فيه تأمين المعلومة الصحيحة لينتشر التصور القويم والسلوك السليم، إنما هو من القطاعات التي تتطلب حساسية مرهفة تجاه الشبيبة وفي التعامل معها، مع الفهم والحكمة وحسن التصرف والجهود الدائبة والنظرة المستقبلية البعيدة المدى.

لقد حولت الصفقات الرياضية المباريات والبطولات إلى وسيلة تجعل مجرد الفوز الرياضي هدفا بحد ذاته، وهو منطلق يجري تعميمه في المنطقة الإسلامية، بصورة تنطوي على تكرار إثارة غرائز تعصب قومي وإقليمي وقطري بات في الغرب من أسباب ظهور مجموعات العنف الرياضي المعروفة، بما يتناقض مع أي شعار عن التسامح لألعاب رياضية عالمية.

إن توظيف الرياضة مع سواها لتكوين جيل المستقبل من الناشئة والشبيبة، لا يتحقق من خلال المنشآت وفتح النوادي وتشجيع المواهب فحسب، بل يتطلب أيضا سياسة حكيمة، تربط الأغراض الرياضية التقليدية بالأغراض المعنوية الأهم والأبعد مدى، لتحويل الرياضة إلى رسالة ينبغي أن نؤديها، دون أن تفقد عنصر المتعة فيها، ودون أن تسوقنا من حيث نريد أو لا نريد، إلى الانحراف بجيل المستقبل وميادين اهتمامه والإنجازات المرجوة منه على كلّ صعيد، وعلى الصعيد الرياضي نفسه أيضا.

كذلك فإن فتح أبواب بعض البلدان العربية والإسلامية لاستضافة مهرجانات أو مباريات رياضية عالمية، لا يؤدي بحد ذاته إلى نهضة رياضية محلية، ما لم يقترن بالجهود الذاتية للارتفاع بمستوى الأداء الرياضي محليا، فلا ينبغي أن تغلب عليه الرغبة المجردة لمشاركة الآخرين عالميا، أو الوهم بالظهور في موقع عالمي متميز، بل ينبغي العمل على وضعه ضمن مخطط مدروس، لاختيار الأفضل فيما يستضاف من جهة، ولربطه بحركة التنمية الرياضية المحلية من جهة أخرى.

النهضة الرياضية مطلوبة مع ضوابط القيم وثوابتها، حتى تكون لنا في بلادنا العربية والإسـلامية صيغة أخرى في رسم معالم السياسة الرياضية على أعلى المستويات، وفيما نريد أن ننشره ونمارسه عبر النشاطات الرياضية في مختلف الميادين، وذلك وفق اقتناعاتنا الذاتية وقيمنا العقدية والحضارية والاجتماعية، وآنذاك يمكن أن نعقد الأمل على جيل المستقبل، من خلال ما تتوافر له من طاقات متنوعة متكاملة، وما يتطلع إليه من منجزات حقيقية شاملة، وما يرجى له من إمكانات ومعطيات لبلوغ الأهداف العزيزة واستعادة الحقوق المشروعة على كل صعيد، لتكون لشعوبنا وبلادنا المكانة الجديرة بها في خارطة الغد العالمية، ولتؤثر تأثيرا فعالا في رسم معالمها، بعيدا عن الوهم في الحصول على مكانة مزعومة تروج لها المهرجانات والاحتفالات عبر توظيفها لشغل جيل المستقبل عن إعداد نفسه كما ينبغي لأداء مهمّته المرجوّة.

وأستودعكم الله وأستودعه جيل المستقبل ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب