خاطرة – لا مستقبل للاستبداد المتفرعن في مصر
مصر لا يحررها من الاستبداد والتسلط إلا أهلها، ومصر لا تتحرر فعلا إلا "رغما" عن أعدائها الخارجيين وربائبهم داخل حدودها
إن توجيه الضربات بأسلوب استعراضي لمن يتجرّؤون على ترشيح أنفسهم لمنصب الرئاسة إلى جانب من يتفرعن على مصر جهارا نهارا، لا يعبر عن ثقة المتسلط المستبد بنفسه وبموقعه، بل عن أقصى درجات الخوف من أن التنافس مع أي مرشح "آخر" مهما كان ماضيه ومهما كان اتجاهه، سيؤدي (حتى رغم التشويه والتزوير) إلى نهاية تسلّطه، وربما إلى محاسبته على جرائمه بحق مصر وشعبها في السنوات العجاف الماضية.
وإن البطش الاستباقي بأي خصم لا يعبر عن الاطمئنان إلى مفعول وسائل القوة في يد المتسلط المستبد، حتى وهو يتوهم التصرف باسم (جميع) القوات المسلحة، بل إلى إدراكه أن أي "خطأ" في تأمين تسلطه يعني نهايته، وهو بشر، بل من أدنى أصناف البشر تفكيرا، وسيخطئ ويسقط، وستأتي نهايته من حيث لا يحتسب.
. . .
يخطئ من يصف فردا مستبدا معتمدا على قوة العسكر في مصر بأنه "فرعون"، فقد كان فرعون مع جبروته في الداخل ذا مكانة دولية في عصره، وهذا الذي يتفنن في استعراض جبروته حتى على رفاق دربه الذين ساهموا في وصوله إلى موقع التجبر على مصر وأهلها وحاضرها ومستقبلها، لا يكاد يكون له وجود مؤثر في عالمه وعصره، ولا يكاد أحد من أسياده خارج الحدود يدعم بقاءه إلا بقدر ما يستهدف الإبقاء على خدمات العبيد للسيد، وليس احتراما لمكانة أو هيبة "فرعونية"، ولا حتى تعبيرا عما يسمّونه "مصالح متبادلة" إنما هي هيمنة استبدادية عالميا وتبعية محلية مخزية.. وإن توهّم التابع أن "تفرعنه" عبر البطش بالخصوم والمقربين تعبير عن قوة وسطوة.
. . .
لا شك أن شباب مصر الذي خاض أعظم ثورة شعبية حضارية انطلاقا من ٢٥ كانون الثاني/ يناير ٢٠١١م، كان حريصا على "مكانة الجيش تخصيصا"، وكان يعبر عن ذلك بهتافاته (الشعب والجيش يد واحدة) وبالتواصل مع من بعثت بهم قيادة الجيش آنذاك وهم في دباباتهم على أطراف ميدان التحرير، إنما ينبغي الإقرار -وهو ما يشمل اعتراف كاتب هذه السطور أيضا- أن الوهم كان أكبر من إدراك موضوعي لحقيقة ما وصلت به أربعة عقود من تنفيذ مخططات القضاء على جيش العبور، روحا وجسدا، أي منذ تم التوقيع على اتفاقية "كامب ديفيد" بعد خمس سنوات من "العبور"، لتطعن في الصدور والظهور جنود مصر من شباب مصر والمخلصين من ضباط مصر آنذاك، وسرعان ما بدأ تقليص الجيش إلى نصف ما كان عليه عددا، وبدأ ربطه بالمناورات وسواها مع أعدى أعداء مصر، وبدأ ترسيخ دور "داخلي" لنسبة عالية ممّن بقي فيه من جنود تحت التدريب على الطاعة دون تفكير أو ضمير، ومن ضباط يتاجرون بثروات مصر وبمصر وأهل مصر، وجميع ذلك بدلا من الدور الخارجي المشرف للدفاع عن مصر وعن قضايا الحق والعدالة في مصر وحولها.
أربعون سنة من التخطيط والتنفيذ استهدفت صناعة قلّة تتحكم بمفاصل قيادة القوات المسلحة وتربية أفرادها، لتجعل منهم عبر اغتيال الضمائر وشراء الذمم، عصابات متسلطة على مصر شعبا وجيشا.. وهذه العصابات (وليس جميع الجنود والضباط.. وهم من أبناء الشعب نفسه) هي التي حوّلت مهمة الجيش المأمولة في ثورة مصر الشعبية من دور السند لبناء شبابي حضاري جديد، إلى معول يفتك بجيل المستقبل، بشبابه وفتياته، ويفتك حتى بمن طمعوا في مغنم، أو من شاركوا في صناعة النزيف المأساوي ممّن خدعوا من السياسيين وجماعاتهم، وحتى بعض شباب الثورة وتجمعاتهم، والحصيلة هي التدمير المتواصل، بدءا بأعلى قمة قضائية انتهاء بأدنى دائرة عسكرية، وهو ما بلغ مداه مجددا مطلع عام ٢٠١٨م عبر التعامل العدواني مع من كانوا يحسبون أنفسهم "قطعة عضوية" من قيادة الجيش، فإذا بهم يتساقطون رغما عنهم، عشية "انتخابات" مزعومة تذكّر بآخر انتخابات جرت في عهد رئيس مستبد، سقط من قبل تحت أقدام ثورة التحرير في ميدان التحرير.. وسيسقط من يتبجح الآن بالتفوق على سلفه استبدادا وبطشا وجبروتا.
. . .
مع ذكرى الثورة الحضارية الشعبية التاريخية في مصر.. لا ينبغي الانشغال بالمتسلط المستبد وما يصنع، بقدر ما ينبغي لشباب مصر وفتياتها، وللمخلصين من ساستها وتجمعاتهم، أن يكون شغلهم الشاغل هو التواصل فيما بينهم، والعمل على توحيد رؤيتهم ونسيج عملهم واستعادة الثقة بأنفسهم وشعبهم، والنأي بأنفسهم عن أي ارتباط بأي قوة إقليمية أو دولية، إلا في حدود لغة المصالح الحقيقية المتبادلة باسم مصر وشعب مصر، وليس باسم زعامة أو تنظيم أو اتجاه.. فمصر لا تعود مكانتها العليا على امتداد الأرض العربية والإسلامية، إلا بتحررها، ولا يحررها من الاستبداد والتسلط إلا أهلها، ومصر لا تتحرر فعلا إلا "رغما" عن أعدائها الخارجيين وربائبهم داخل حدودها.
نبيل شبيب