مختارات – شكيب أرسلان – بقلم بيان نويهض الحوت

د. بيان نويهض الحوت: كان شكيب أرسلان مسلماً بلا حدود، وعربياً بلا حدود، وإنساناً بلا حدود

85
شكيب أرسلان

ــــــــــ

مقدمة
في ٩/ ١٢/ ١٩٤٦م، توفي شكيب أرسلان، وقد عُرف بلقب أمير البيان، إنما كان بيانه أدبا وشعرا وسياسة وفكرا وجهادا، وقد شهد العالم العربي والإسلامي، مثلما شهد العالم، أحداثا كبرى، وتطورات جذرية، في العقود الماضية، ويكاد المتأمل فيما يعصف بالبلدان العربية والإسلامية اليوم، ما بين أفغانستان والصومال، وفي العراق وفلسطين، وبين الشاشان واليمن، وسورية ومصر وأخواتهما، يجد لكل حدث جذوره وأسبابه التاريخية العميقة، التي كان ميلادها، أو كانت صناعة محاضنها الأولى، في النصف الأول من القرن الميلادي العشرين، وفي تلك الفترة بالذات كان “شكيب أرسلان” أشبه بالفارس الوحيد في الميدان، وكان فيما خطه قلمه وأطلق به لسانه، شواهد تاريخية على أن استيعاب الحدث أول شروط القدرة على مواجهته ومواجهة تداعياته، أما إذا بقيت نداءات التحذير اليوم مثلما بقيت في حياة شكيب أرسلان، لا تجد سوى أصداء كلمات دون أفعال، فلن تختلف حقبة عشرات السنين القادمة عما شهدته عشرات السنين الماضية من كوارث على كل صعيد.

بيان نويهض الحوت
د. بيان نويهض الحوت

شكيب أرسلان شاهد على التاريخ، وشاهد من أعماق التاريخ على الواقع المعاصر، وتذكيرا به وبإنجازاته، ودعوة إلى التحرك في الوقت الحاضر. وتحذيرا من مغبة إهمال أصوات التحذير من مزيد من النكبات والكوارث، تأتي هذه الدراسة القيمة، بقلم الباحثة القديرة د. بيان نويهض الحوت، وقد نشرت في عدد آذار/ مارس ٢٠٠٨م من مجلة “العربي”، وتنزل هذا اليوم مجددا في مداد القلم في إصدارته الحالية بعد تحميلها عام ٢٠١٧م في الإصدارة السابقة.

نبيل شبيب

*        *        *

نص الدراسة بقلم د. بيان نويهض الحوت

ما بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، وعلى امتداد العالم الإسلامي والعربي، من أقصى مشرقه الآسيوي حتى أقصى مغربه الأفريقي، انتشر اسم المجاهد العلامة شكيب أرسلان، في ميدان الجهاد، كما في ميدان القلم.
وامتدت شهرة أرسلان إلى العالم الغربي، وهو من اختار منفاه في مدينة جنيف، مقر عصبة الأمم، ومن هناك أصدر مجلته (لا ناسيون آراب)، الأمة العربية، واستمر يجابه الدول الكبرى بالقانون والمنطق دفاعاً عن قضايا الأمة، ويجول في دول أوروبا وأميركا، مقارعاً ذوي النفوذ وأصحاب الرأي بلسانهم، كتابة وخطابة وسجالاً، كاشفاً عن مظالم الاستعمار في بلاد المسلمين والمقهورين.
أعمال كهذه تقوم بها في عصرنا مؤسسات فكرية وإعلامية عبر شبكة الإنترنت ووسائل الإعلام الحديثة، بكل سهولة؛ لكنه.. كان في النصف الأول من القرن العشرين.. وكان وحده!
ألقاب متعددة رافقت اسم شكيب أرسلان، أولها لقب الإمارة الموروث عن أسرته التي انتقلت من معرة النعمان إلى لبنان، منذ منتصف القرن الثاني للهجرة، أمّا بعد أن أخذت كبريات الصحف في مصر والعراق وفلسطين والمغرب العربي الكبير تتبارى في نشر مقالاته، فقد أطلقت الصحافة العربية عليه ألقاباً شتى، منها “كاتب الشرق الأكبر”، و”كاتب الإسلام”، و”كاتب العصر”، و”أفغانيّ العصر”، و”أمير الكتّاب” أمّا أكثرها التصاقاً باسمه فكان “أمير البيان”.
والحق أن “أمير البيان” لم يكن علَماً في حقل واحد، فهو المجاهد، والكاتب، والشاعر، والسياسي، والصحافي، والخطيب، والرحالة، والمفكر الإسلامي، والمؤرخ العربي؛ ونحن في هذه الصفحات، سوف نحاول التعرّف على شخصية شكيب أرسلان، من خلال التنوع والشمول في عطائه الإنساني.
ولد الأمير شكيب حمود أرسلان، سنة ١٨٦٩ في الشويفات، وكانت جارتها بيروت يومذاك متصرفية تابعة لولاية سوريا، وكان مركز الولاية دمشق.
كان شكيب ما يزال فتى يافعاً لمّا أحكم السلطان عبد الحميد قبضته على الامبراطورية العثمانية، بينما باب الهجرة إلى الأميركتين يتسع.
أمّا الأحداث السياسية التي وعى عليها الفتى، فكان أهمها الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا (١٨٧٧)، وهي التي انتهت بهزيمة الدولة العثمانية، ثم كان احتلال فرنسا لتونس (١٨٨١)، واحتلال بريطانيا لمصر (١٨٨٢)؛ وهذا بينما كانت الأمم البلقانية تثور وتنسلخ الواحدة بعد الأخرى عن الدولة، وتتحول من راية الهلال العثماني إلى راياتها القومية.
تعلم الفتى شكيب في مدرسة الحكمة في بيروت، وكان أستاذه بالفرنسية أوغست أديب، أمّا أستاذه بالعربية، الشيخ عبد الله البستاني، فكان له الأثر الكبير في تنشئته على عشق اللغة العربية والشعر العربي، وهو من قال قبل وفاته إن أحب تلاميذه إلى قلبه كان شكيب أرسلان.
انتقل بعد “الحكمة” إلى “السلطانية” المدرسة التابعة للحكومة، فأتقن اللغة التركية، وكان الشيخ محمد عبده المنفي إلى بيروت في أعقاب الثورة العرابية، أستاذه في الفقه والتوحيد والمنطق والقانون.

شهدت بيروت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، انتشار تيار آخر، هو التيار العلمي والفكري الناشئ عن كثرة المعاهد الأجنبية والوطنية، ومع تصاعد التيارين كان النفوذ الأجنبي في بيروت يزداد أيضاً عن طريق الامتيازات الأجنبية، لكنه بينما بيروت كانت تتقدم ماديا، وبسرعة كانت الحرية السياسية في تراجع. ولعل هذه البيئة غير المتوازنة وغير المستقرة هي التي دفعته إلى الجهاد طوال حياته، من أجل حرية الفكر والإنسان.
ابتدأ شكيب أرسلان حياته العملية بالوظيفة في المناصب الحكومية العليا التي كانت حكراً على أبناء العائلات، فشغل منها مع مطلع القرن العشرين منصب “القائمقامية” مرتين في لبنان؛ وانتخب نائباً عن منطقة حوران في مجلس النواب العثماني سنة ١٩١٢ وبقي نائباً حتى نهاية عمر الدولة؛ ثم أصبح عضواً في الوفد السوري الفلسطيني في جنيف إلى آخر حياته، وقد رفض مراراً منصب “السفير” وإن يكن في رحلاته كان يُستقبل كأنه سفير فوق العادة لعاصمة الخلافة.
هو من الذين جاهدوا يومياً، بالعقيدة، أو الفكر، أو السلاح، أو القلم، أو اللسان، وكان من أكثر علماء عصره جوداً وكرماً بوقته، فما تأخر يوماً عن الرد على الرسائل التي كانت تصله من المسلمين في شتى البقاع، يطرح عليه أصحابها الأسئلة في أصول الدين، والجهاد، وتاريخ المسلمين، وحاضرهم، وكان أصدقاؤه ينصحونه بأن يرحم نفسه من كثرة الكتابة، لكنه لم ينتصح، كان يكتب في العام الواحد لا أقل من ألف وستمئة رسالة، ومئتي مقالة، منها “التآليف المطبوعة”. وقد ترك ثروة فكرية تربو على العشرين كتاباً مطبوعاً ومخطوطاً.
ولم يَعرف عنه إلاّ المقربون، أنه كان يبيع بين وقت وآخر، قطعة أرض من ممتلكاته في لبنان، حتى يتمكن من الاستمرار في العطاء؛ ولمّا اضطر يوماً إلى عصر النفقات، فعل ذلك، لكنه ما كان ممكناً له الاستغناء عن سكرتيره الذي يملي عليه رسائله.
أمّا في فترة وجوده في الآستانة، ما بين عامي ١٩١٧ و١٩١٨ فهو لم يكن ليجد الوقت للكتابة أو حتى للمطالعة، ذلك أنه كان ما يزال نائباً، وكان الناس يراجعونه من جميع أقطار سوريا بالتلغرافات والمكاتيب، حتى الذين لا يعرفونه كانوا يراجعونه، وذلك لثقتهم بأنه يلبي مطالبهم، فكانت تصله يومياً لا أقل من عشر برقيات… وهذا عدا عن الرسائل؛ وحتى يتمكن من تلبية حاجات الناس، في مدينة كبيرة ممتدة كالآستانة، اضطر إلى أن يخصص يوماً من الأسبوع لكل نظّارة (وزارة)، ولمّا كان يجيب على المراجعات برقياً، فكثيراً ما أنفق راتبه الشهري على أجور البرقيات والمواصلات، الأمر الذي جعله يلجأ إلى الرد بالرسائل.

كان من الذين يؤدون شعائر الدين طوال حياتهم، صياماً وصلاة وزكاة وحجاً، على مذهب أهل السنة؛ أمّا أسرته، فهي تنتمي إلى بني معروف، الذين أكّد أرسلان في كتاباته أنهم فرع من الإسلام الواحد الجامع؛ وقد برهنوا على ذلك حين كانوا يلبون نداءه للجهاد، دفاعاً عن الإسلام والمسلمين.
كان أرسلان يتحدث باستمرار عن رابطة الإسلام مع الأتراك، ويسميها أحيانا الرابطة الشرقية، ويقول:
الجامعة الوحيدة التي كانت تجمع بين الترك والعرب والكرد والأرناؤوط والجركس هي الجامعة الدينية، ولولاها لكانت هذه السلطنة قد تفككت منذ قرون.
وكان أيضاً يتحدث عن تاريخ العرب ومجدهم، فأسرته الأرسلانية تعتز بانتمائها إلى جدها الأكبر الأمير عون، أحد شهداء معركة أجنادين، كبرى المعارك بين العرب والروم على أرض فلسطين، بقيادة خالد بن الوليد، سنة ٦٣٦م.
لكنه يوم اتخذ أعيان العرب قرارهم، في منتصف الحرب الكبرى، بإعلان الثورة العربية ضد الدولة العثمانية استمر هو المدافع الصلب عن “الجامعة الإسلامية” وعن “الدولة العثمانية” التي كان يراها معقل الخلافة وصمام الأمان الذي يجب المحافظة عليه، درءاً للمخاطر التي تنتظر العرب على يد الاستعمار الأوروبي القادم.

وكتب أسعد داغر، في مذكراته، ما قاله أرسلان يوماً لمعارضيه:
لا أعتقد أن بينكم من هو عربي أكثر مني.. افتحوا عيونكم إلى ما يهدد البلاد العربية من خطر.. اقرؤوا الجرائد الأجنبية.. انظروا إلى المعاهدات التي أعلنت وإلى الاتفاقات التي أذيع خبر عقدها ولم تنشر.. ألا ترون أنها كلها ترمي إلى تقسيم الدولة وذهاب الأقطار العربية للإنكليز والفرنسيين.
كذلك روى الحاج أمين الحسيني عن أرسلان قوله:
“أنا أشد عربية منكم، ولكني أعلم أن الحلفاء سينكثون عهودهم، وستظهر الحقائق لكم”.
الواقع أن أرسلان رأى خطر الاستعمار القادم حتى قبل انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس (١٩١٣)، لِما لفرنسا من مطامح في سوريا، ورأى أنه لا يجوز أن يُعقد مؤتمر كهذا بينما الدولة منهمكة في الحرب “الطرابلسية” ضد الجيش الإيطالي الزاحف لاحتلال طرابلس الغرب.
بعد الحرب العالمية الأولى، كان أرسلان من أوائل الذين دعوا إلى إنشاء جامعة عربية، كما روى أحمد الشرباصي نقلاً عن حبيب جاماتي، وكان من أوائل الذين شرحوا معاني “الوحدة العربية” في محاضرة شهيرة له في النادي العربي بدمشق، بتاريخ ٢٠ / ٩ / ١٩٣٧ قال فيها:
“إن العرب فيهم النجابة والصلابة وخفة الحركة، وحدة الذهن، وتمام القابلية لكل ما يرقّي الأمم، وفيهم مع ذلك العدد الجم الذي يجعلهم من أكبر الأمم، إذ يبلغون في هذا العصر نحواً من سبعين مليون نسمة بين آسيا وإفريقيا”.
منذ سقوط الدولة العثمانية، عاش أرسلان نصيراً للقضايا الإسلامية والعربية، ويعتبره كبار المؤرخين المغاربة رائدهم، ففي الندوة الثقافية التي نظمتها جمعية تاريخ المغرب في مدينة فاس، بمناسبة الذكرى الثامنة والعشرين لوفاته، قال هاشم العلوي إنه “أول داعية مسلم ربط الشرق العربي بالمغرب العربي على المستوى السياسي والفكري في العصر الحديث”
أمّا المؤرخ المغربي محمد بن عبود، فقال:
“يتذكر المغاربة ما قدمه إليهم من خدمات ويذرفون دمعة حارة على الرجل الذي فكر فيهم وعمل لقضيتهم يوم نسي الكثيرون أن المغرب جزء لا يتجزأ من العالم العربي، ويوم لم يكن في الدنيا صوت يدافع عنه سوى صوت الأمير شكيب أرسلان”
ولعل موقف أرسلان من فلسطين والقدس بالذات، فيه المثال على الترابط بين الإسلام والعروبة في أعماقه، فهو من القلائل الذين وصفوا مشاعرهم إزاء سقوط القدس، يوم دخلها الجنرال اللنبي على رأس الحلفاء، بتاريخ ٩ / ١٢ / ١٩١٧ دخول “الظافرين” رافعاً رايات الجيوش الحليفة كلها، إلاّ الراية العربية فقال:
“كان سقوط القدس الشريف في يد الجيش الإنكليزي أثناء وجودي في برلين فبقيت أياماً لا أعي من الغم لذهاب هذا البلد المقدس من يد الإسلام بعد أن بذل المسلمون ما بذلوا من دماء وأموال حتى استخلصوه من أيدي الصليبيين”.
لمّا عاد أرسلان إلى وطنه الأصغر، لبنان، سنة ١٩٤٦ كان يعاني من المرض، وقد توفي بعد شهرين من عودته، وقد رُوي عنه أنه قال في ساعاته الأخيرة إنه لا يقلقه شيء وهو على وشك أن يلقى ربه كما يقلقه مصير فلسطين! أما بشأن “جامعة الدول العربية” الحديثة الولادة، فقال: “إن لا خير أبداً أن تكون بريطانيا هي الساعية في إيجاد الجامعة”.

لم يكتف أرسلان بنصرة الدولة العثمانية بالقلم والدعوة، بل نصرها في ساحات الحرب.. كانت المرة الأولى سنة ١٩١١ لمّا أغارت إيطاليا على طرابلس الغرب وبنغازي، فسارع إلى الدعوة للجهاد وجمع المتطوعين من المحاربين الأشداء من بني معروف، وإلى الاتصال بأصدقائه في مصر وفي الآستانة، بهدف إعانة المقاومة بالسلاح والأموال.
كانت رحلة أرسلان إلى طرابلس الغرب طويلة وشاقة، فهو غادر لبنان عن طريق دمشق ـ السلط ـ القدس ـ غزة، حيث انتظر توارد العساكر المتنكرة. لكن جاء الأمر للإنكليز بإعادته من العريش، فاضطر إلى العودة إلى يافا، ومنها ركب البحر إلى مصر، ومن الاسكندرية ركب القطار حتى المحطة الأخيرة، ثم ركب ومن معه من المتطوعين الخيل، وهم يسوقون ستمائة جمل محمل بالأرزاق إلى المجاهدين في الجبل الأخضر، وإلى البعثات الطبية المصرية.
التحق بمعسكر أنور باشا في درنة، حيث بقي خمسة أشهر، وحضر بعض المعارك الحربية، وبقي في أحد الأيام مع أنور ومصطفى كمال (أتاتورك)، جالسين وراء متراس، بينما الشظايا تتساقط من حولهم، ثم التحق شهرين بمعسكر عزيز علي المصري أمام مدينة بنغازي.
كان أرسلان يرى أن التساهل بقضية طرابلس الغرب، لا يكون سبباً فقط لذل المسلمين في طرابلس نفسها وإفريقيا فقط، بل يكون بداية لانهيار السلطنة العثمانية بأجمعها، وفاتحة حروب كل واحدة أعظم من التي سبقتها.

ولعل أروع ما قاله ملخصاً أهمية “الجامعة الإسلامية”:
“إن لم نقدر أن نحفظ صحاري طرابلس لن نقدر أن نحفظ جنان الشام”.  
ذهب في المرة الثانية للقتال، سنة ١٩١٦ من أجل حماية ترعة السويس، وكان الجيش العثماني بقيادة جمال باشا قد وصل إلى مصر من فلسطين وسيناء، ومن بعده وصل أرسلان على رأس قوة من المتطوعين، لكنه ما إن وصل برجاله، حتى علم أن المعركة قد انتهت بهزيمة الجيش العثماني أمام الإنكليز، فقد بادر العثمانيون بالضرب منذ وصولهم إلى الترعة، غير أن الإنكليز ردوا عليهم بعنف، وصدوهم.

لم يكن شكيب أرسلان رجلاً عسكرياً، لكنه كان مسلماً مؤمناً وعربياً صادقاً، كان مجاهداً مستعداً لحمل السلاح والدفاع عن دولة الإسلام، وعن المسلمين، في أي مكان، وقد سألوه يوماً عمّا يفعله فيما لو قضت الحال أن يسافر إلى أقصى بلاد العرب في سبيل الأمة، فأجاب من غير تردد: “أسافر في الحال راكباً ناقة”.

كانت لأرسلان مواقف سياسية مثيرة للجدل، أبرزها موقفه المساند لجمال باشا.. كان يرى في مساندته له مساندة للدولة العثمانية، وقد كتب مراراً كيف تمكن عبر العلاقة الوثيقة فيما بينهما، من الحد من جبروت الباشا ومن حمله على إصدار العفو عن كثيرين من المبعدين؛ وكان يروي قول جمال له “إن الجماعة الذين دائماً تتشفع لهم لديً منهم أناس كانوا يريدون قتلك”.
جمال باشا رجل مزيته أنه كان ماضياً في العمل مهاباً صارماً ذا نصيب من النجاح في الأمور العسكرية والعمرانية والإصلاحات التي تقتضي السرعة والإنجاز فأمّا السياسة فإنه مع شدة ذكائه لم يكن ممن يتغلب على أهوائه.
أمّا على الصعيد الدولي، فكان أبرز مواقفه موقفه الصلب من الدول الغربية الطامعة بالأقطار الإسلامية والعربية، والتي كانت “الثورة العربية” تعتبرها دولاً حليفة، وكأنه كان قارئ غيب بالنسبة لما يجري في عصرنا نحن، عصر الهيمنة المطلقة تحت ستار الديموقراطية، فهو من قال:
“ما أنزل بالإسلام والمسلمين وبالعروبة والعرب مثل هذا الهوان إلاّ الدول التي وسمت نفسها بالديموقراطية ولا استعبدهم إلاّ الزاعمون أنهم أنصار الحرية فعلى المسلمين عموماً والعرب خصوصاً إذا أرادوا الاستشفاء من مرضهم أن يحسنوا تشخيصه”.
وقف أرسلان خلال الحرب الكبرى، ضد محاولة إجبار الأرمن المسيحيين من قبل الأتراك العثمانيين على اعتناق الإسلام، ووقف الموقف نفسه حين تعرّض المسلمون في المغرب العربي للاضطهاد الديني بعد صدور “الظهير البربري” (١٦ / ٥ / ١٩٣٠) القاضي بتطبيق سياسة فرنسا الاستعمارية في تنصير البربر.
كان من كبار المجاهدين ضد هذا المرسوم الظالم، لا من المنطلق الديني، فحسب، بل أيضاً من المنطلق الإنساني، ومن المنطلق الوطني، مولياً جانب حرية الإنسان المكان الأول، وكتب في مقالة له في مجلة “العرب” المقدسية، في مايو/ أيار ١٩٣٣:
“إن بعض رؤساء البربر جاؤوا إلى الرباط يحتجون على إلغاء المحاكم الشرعية فأبقوهم في السجون وكان لبعض قواد البربر أولاد يقرؤون العربية في فاس فأنذروهم بإخراج أولادهم من المدارس العربية أو يقطعون رواتبهم.. ولنفرض أن البربر تنصّروا وهو أمر بعيد الوقوع فلن ينقلب البربري فرنسياً كما يظن بعض رجال فرنسا بل يبقون بربراً وطنيين متمسكين باستقلال بلادهم”.  
أمّا عن انتهاكات الطليان فكتب رسالة من جنيف إلى السيد رشيد رضا، بتاريخ ١٢/ ٤/ ١٩٣١ جاء فيها:
“أمّا الثمانون ألف عربي الذين اغتصبوا أراضيهم في الجبل الأخضر، وأجلوهم إلى فيافي سرت، فقد ماتت كل مواشيهم من قلة الماء والكلأ، فعينوا لكل عائلة في النهار فرنكين فقط، وهم يموتون جوعاً وبرداً لأنهم بالعراء، وكل مقصد الطليان هو محوهم، حتى لا يعودوا إلى الجبل الأخضر الذي يريدون إسكان المئات من الألوف فيه من الطليان.. ثم إنهم أخذوا جميع رجالهم من سن ١٥ إلى سن ٤٠ للعسكرية، والأولاد من سن ٣ إلى سن ١٤ أخذوهم جميعاً برغم والديهم إلى إيطاليا بحجة تعليمهم.. وكان لأخذ هؤلاء الأولاد رغماً عنهم صراخ ملأ الفضاء ومشهد يفتت الحجارة، وما من سامع”.
وكتب في مقالته “الحلفاء يموهون على الناس” في فبراير/ شباط ١٩٤٠ معدّداً فظائع فرنسا في المغرب العربي، من قمع التظاهرات، وإطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتلهم، والقبض على سبعة آلاف اتهموهم بالشغب وقال:
“حاكموا منهم ألفين وخمسمئة فحكموا على بعضهم بالحبس سنتين مع الأشغال الشاقة.. وساقوا إلى الصحراء نخبة أدباء فاس وتلاميذ جامع القرويين وهناك بحجة الأشغال الشاقة عذبوهم عذاباً نكراً وكانوا يضربونهم كل يوم ضرباً مبرحاً ويهينونهم ويشتمونهم واستمر عذابهم على هذه الحالة شهراً من الزمن إلى أن مات الأستاذ الشيخ محمد القري من شدة الضرب.. وكل هذا قام به ضباط فرنسيون بأمر الجنرال نوغيس نفسه”. هل من عجب بعد هذا أن يصرح ضابط فرنسي كبير بقوله:
“عندما تقع حرب أوروبية ينبغي قبل كل شيء أن يزحف الجيش الفرنسي إلى جنيف، ويقبض على شكيب أرسلان”.

يصعب الفصل في حياة شكيب أرسلان بين العناصر الثلاثة التي تحكمت في مسيرة حياته، وهي رحلاته، وصداقاته، وكتاباته، فهناك تداخل متواصل فيما بينها، إلى الحد الذي جعله يقول: “والمرء في التأليف كما في جميع حركاته في هذه الدنيا مسيّر غير مخيّر”.
كانت أولى رحلات شكيب أرسلان إلى مصر والآستانة في أول العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وقد نزل في مصر ضيفاً على الشيخ محمد عبده، الذي قال عنه: “وكان هو (الشيخ محمد عبده) يزورنا في بيتنا في الشويفات وبالاختصار رأينا في ذلك الرجل لا عالِماً فقط بل عالَماً (بفتح اللام) لم نعهد رؤية مثله من قبل”.
وفي منزل الشيخ تعرف على كبار رجالات مصر، كسعد زغلول وأحمد زكي؛ أمّا في الآستانة فكانت لقاءاته مع جمال الدين الأفغاني نهاية سعيدة للمراسلات السابقة بينهما، واستمرت صداقتهما حتى وفاة الأفغاني سنة ١٨٩٧ وكان من أفضل من كتب عن الأفغاني (في حاضر العالم الإسلامي) حيث كشف عن حقائق لم تكن تعرف من قبل.
كذلك استمرت صداقته مع محمد عبده حتى وفاته، سنة ١٩٠٥ ومع خليفته رشيد رضا، حتى وفاته سنة ١٩٣٢ وقد تبادلا معاً ما بين جنيف والقاهرة عشرات الرسائل، وكانت ثمرة الصداقة كتابه “السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة” (١٩٣٧). أما كتابه “شوقي أو صداقة أربعين سنة” (١٩٣٦) فكانت بدايته صداقة وطيدة بين الرجلين انطلقت من باريس لما قصدها أرسلان للاستشفاء سنة ١٨٩٢ وكان أحمد شوقي أول شهرته بالشعر، فلمّا أصبح “أمير الشعراء” ونشر ديوانه “الشوقيات” ذكر أن اسم الديوان كان اقترحه عليه أرسلان.

شملت رحلات أرسلان القسم الأكبر من الدول العربية، والعديد من الدول الغربية التي زار بعضها عدة مرات، وأقام في بعضها الآخر لمراحل، وكان من بين العواصم التي أقام فيها وتعلم لغتها برلين، التي كانت له فيها علاقات متينة مع كبار المسؤولين الألمان، والتي أسس فيها “جمعية الشعائر الإسلامية” وربما البيت الوحيد الذي اشتراه في حياته كان بيته في برلين.
وكانت له رحلات متعددة إلى بريطانيا، وروسيا، وإيطاليا، وأميركا الشمالية، وإسبانيا، وسويسرا التي أصبحت مقراً له.
في أعقاب الحرب الكبرى أخذت عدة دول تطارده من مكان إلى آخر، منها تركيا “الجديدة” لحملته ضدها بعد أن تنكرت للخلافة والإسلام، وإنكلترا لمحاربته لها كدولة مستعمرة، وفرنسا لدفاعه عن سوريا والمغرب العربي، كذلك منع من دخول لبنان وسوريا ومصر وفلسطين، لسنوات طويلة.

ليست مهمتنا البحث عن عبقرية المؤرخ والشاعر والكاتب في “أمير البيان” بل البحث عن الرجل الإنسان، وكتاباته كلها تنضح بالانسجام بين خواطره ومشاعره وإيمانه، وبين قلمه الباحث في أعماق التاريخ، وفي أصول الدين، وفي المظالم التي يجابهها المسلمون.
كانت كتاباته، في معظمها، تنبع من وحي الزمان أو المكان أو الإنسان. ونذكر أربعة أمثلة فقط، للدلالة على التوحد بين تجاربه، وجهاده، ومؤلفاته نذكر كتابه “الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف” الذي كتبه سنة ١٩٢٩ بينما كان في أيام النقاهة في مدينة الطائف، فكتب خواطره التاريخية والاجتماعية والعمرانية بأسلوبه الكشاف وتتبعه الأخاذ، وأحاط بمشروعات الحجاز ومشروعات التطور.
ونذكر كتابه “الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية” الذي كتب منه ثلاثة أجزاء.. “حج” إلى الأندلس سنة ١٩٣٠ فطاف فيها يتنقل بين أعاجيب الفن الإسلامي الرائع، ويبكي. كذلك كتب من وحي الأندلس كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟” (١٩٣٠)، أمّا فصوله وتعليقاته في “حاضر العالم الإسلامي” تأليف المؤرخ الأميركي لوثروب ستودارد (١٩٢٥)، فقد فاقت الكتاب الأصل، حجماً، وأهمية، سواء في تاريخ الإسلام والمسلمين، أو في حاضرهم وجهادهم ضد المستعمرين، وهو الذي كان واحداً من المجاهدين الكبار، وفي هذا كله ما يؤكد على أهمية “الثلاثية” في مسيرته في المرحلة التي تجلى فيها شكيب أرسلان، كانت أمته تجابه تحولات كبرى من “دولة الخلافة الإسلامية” إلى “دول القوميات” وما كان ممكناً لشخصية فذة كشخصيته، جمعت بين العقيدة الجبارة، والعقل الراجح، والرؤية المستقبلية، إلاّ أن تثير من حولها الجدل، ذلك أن شكيب أرسلان لم يكن من الذين يسبحون مع التيار، بل من الصفوة النادرة التي تصنع التيار في تاريخ الأمة، لا من أجل موقف مميز، ولا من أجل جاه، لكن بناء على القناعة العقلانية، والإيمان الصادق، والجرأة النادرة وبلغة العصر الذي نحياه، كان شكيب أرسلان مسلماً بلا حدود، وعربياً بلا حدود، وإنساناً بلا حدود.

وأخيراً لنستمع إلى أرسلان يتحدث عن المبدأ الأسمى لدى أرسلان، حين سمع بأن لورنس “صديق الأمير فيصل” وصف سياسته بأنها دينية، فرد عليه بقوله: “إن سياستي في الحقيقة مبنية على الإنسانية لا غير، وعندي أن الإنسانية هي رأس السياسة، وأن الذي يأخذ بسياستها لا يعثر، وأنه إن عثر مرة تسددت خطواته مراراً، وإن وافقت الإنسانية الدين، فالدين، وإن وافقت الدنيا فالدنيا.. هذا هو مشربي الحقيقي “وإنما يراني الناس مؤيداً للدين لأني أرى الدين ركناً للإنسانية، ولست أعتقد مجيء الأديان إلاّ خدمة للإنسانية وتقديساً لها، وإلاّ فإن الله غنىٌّ عن العالمين”.

بيان نويهض الحوت