مقالة – حول الألغام الأرضية وضحاياها
ما الذي يخلّفه صنّاع الألغام وسواها من الأسلحة الفاجرة ويخلّفه المسؤولون عن استخدامها هذه الأيام لأجيال قادمة؟
يوضع اللغم تحت الأرض على مسافة قريبة من السطح، ويبقى قابلا للتفجير إلى أن يدوس أحد الأشخاص عليه مثلا، فيسبب انطلاق المادة المتفجرة فيه إلى الأعلى، مسافة متر ونصف المتر تقريبا، فإذا بلغت ذلك الارتفاع وقع الانفجار وانطلقت من اللغم المتفجر الشظايا والأجزاء المعدنية القاطعة في الاتجاهات الأربعة، فتصيب من تصادفه في طريقها إصابة قاتلة، أو تسبب له عاهة دائمة، وإن كتبت له النجاة فمع الجراح الدامية غالبا.
هذا وصف أحد الخبراء لأحد أنواع الألغام الأرضية المضادة للأشخاص، ويمثل جانبا واحدا من الجوانب المأساوية الواسعة النطاق لهذا الأسلوب من "القتل" باسم الحرب، والذي لا يستثني من لا علاقة له بها إطلاقا، فمن هذه الألغام الأرضية التي لا تكاد تحصى ما ينتظر منذ زراعته قبل عشرات السنين تنفيذ مهمة القتل الموكلة إليه من جانب صناع القرار "العسكري والسياسي" في عالمنا المعاصر.. وقد أصبح كثير منهم في دار الحساب، إنما لا يزال ما أرادوه من التقتيل يجد طريقه إلى التنفيذ ويقضي على أبرياء ولدوا بعد عدة عقود أو سنوات من زراعة تلك الألغام أثناء حروب نشبت ومضت وانتهت، بينما لا تزال حروب أخرى تضيف في أيامنا هذه أعدادا جديدة من الألغام يتجاوز أحيانا ما يتم نزعه وإبطال مفعوله في حملات دولية عديدة.
البداية لولادة فكرة الألغام التي تنطوي على "استهداف مجهولين" بعملية القتل كانت قبل اختراع البارود في الصين في القرن الثالث عشر الميلادي، فقد استُخدمت "الكمائن الأرضية" في الصيد واستهدفت الحيوانات، ثم انتقلت إلى الاستخدام العسكري من جانب الرومان في حروبهم، ولكن انتشرت بصيغتها الحديثة انتشارا واسعا بعد أن أصبح استخدام البارود وما بعده من أصناف "التفجير" واسع النطاق، وغدت الألغام فرعا ضخما من فروع الصناعات العسكرية الحديثة، وعلى رأس القائمة السوداء بهذا الصدد الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وباكستان والهند، وهي من بين بضع وثلاثين دولة لم تشارك حتى الآن في "الاتفاقية العالمية لحظر الألغام المضادة للأفراد".
تم توقيع هذه الاتفاقية في أوتاوا بكندا يوم ٤/ ١٢/ ١٩٩٧م، وكانت صياغتها الأخيرة في أوسلو في النرويج يوم ١٨/ ٩/ ١٩٩٧م، أما سريان مفعولها رسميا فكان يوم ١/ ٣/ ١٩٩٩م بعد تصديق ٤٠ دولة من بين ١٢١ دولة وقعت عليها، وقد ارتفع عدد الدول الموقعة في هذه الأثناء إلى أكثر من ١٦٠ دولة.
تحظر الاتفاقية إنتاج تلك الألغام، وتخزينها، ونشرها.. وتفرض على الدول المشاركة فيها إتلاف المخزون منها سابقا خلال ٤ أعوام بعد سريان مفعولها، وقبل الاتفاقية كان يوجد ميثاق دولي للحد من استخدام الألغام، ولكن كان مفعوله ضعيفا للغاية، ولم يمنع استمرار ارتفاع أعداد الضحايا باطّراد، فبقي مجرد ذريعة للامتناع عن بذل جهود رسمية إضافية باتجاه حظر الألغام.
كان الأفق الدولي بذلك مسدودا أو بدا كذلك، فصدرت المبادرة الحاسمة من جانب الدبلوماسي النمساوي فيرنر إيرليش بصفة شخصية، إذ انفرد باقتراح صياغة متكاملة، ولم يجد في البداية تجاوبا كافيا على المستوى الرسمي الدولي، ولكن الدعم العابر للحدود خارج الإطار الرسمي كان كبيرا، لا سيما من جانب منظمات غير حكومية كمنظمتي الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وكذلك من جانب منظمة يونيسيف الدولية لرعاية الأطفال، علاوة على جهود ترويج كبيرة على مستوى الرأي العام، بذلتها حملة انطلقت لهذا الغرض باسم "الحملة الدولية لحظر الألغام"، وقد حازت على جائزة نوبل للسلام عام ١٩٩٧م.
مع سريان مفعول الاتفاقية كان قد وصل عدد الألغام المنتشرة في أنحاء العالم إلى حوالي ١١٠ مليون لغم أرضي، ولا يقتصر الخطر على من يصاب عبر تفجيرها، وعلى سبيل المثال يكفي أن توجد بضعة ألغام في "حقل" من الحقول ليصبح خطرا فلا يصلح للزراعة ولا لعبوره من جانب العامّة.
وتعتبر مصر من البلدان المهددة بخطر الألغام، ورغم ذلك لم تكن بين الدول التي شاركت في التوقيع على الاتفاقية، وتقول التقديرات الرسمية إن فيها حوالي ١٧ مليون لغم أرضي منذ الحرب العالمية الثانية ما بين منطقة العَلَمين والحدود مع ليبيا، وهذا ما يعادل ٢٠ في المائة من مجموع مخلفات تلك الحرب من الألغام. كما يقدر عدد الألغام الأرضية المنتشرة في البوسنه والهرسك بحوالي ١٢٠ ألفا بعد مضي زهاء ربع قرن على نهاية حرب البلقان الأخيرة، ويسري شبيه ذلك على أفغانستان.
وكان مجموع عدد الدول المصنفة "تحت الخطر" بسبب ارتفاع نسبة انتشار الألغام فيها ٨٨ دولة، وهبط هذا العدد إلى ٦٦ دولة خلال ١٠ أعوام تالية لتصديق الاتفاقية وتنفيذ حملات نزع الألغام عالميا، كما هبط عدد الضحايا تبعا لذلك، وهم من المدنيين بنسبة ٧٨ في المائة، وتبلغ نسبة الأطفال ٣٨ في المائة من الضحايا.
حتى عام ٢٠١٥م كان عدد الضحايا سنويا في انخفاض تدريجي، ولكن عاد إلى الارتفاع مجددا بنسب عالية بلغت ٧٥ في المائة، وهو ما يعود إلى انتشار زراعة الألغام في سورية وليبيا واليمن وأوكرانيا في الدرجة الأولى.. وهذا بعض ما يشير إلى بعض ما يخلّفه صنّاع الألغام وسواها من الأسلحة الفاجرة ويخلّفه المسؤولون عن استخدامها هذه الأيام لأجيال قادمة.
نبيل شبيب