تحليل – الإعلام المنحاز

لا يتحقق الحياد الإعلامي بالوقوف على مسافة واحدة بين والمجرم والضحية، والسجان والسجين، والهراوات والأجساد، والرصاص والجراح

56

 
(هذه مقالة نشرت في شبكة الجزيرة يوم ٢٣/ ٢/ ٢٠١١م مع انطلاقة ثورات الربيع العربي.. وما يزال محتواها يفرض نفسه يوميا، بدءا بالتأكيد أن ما بعد انطلاق ثورات الربيع العربي لن يكون كما كان قبله، انتهاء بأن مصداقية الإعلام مرتبطة بانحيازه إلى الشعوب، ويضاف إلى ذلك أن هذه المصداقية إذا تزعزعت ولو بسبب ظروف طارئة فلا يمكن اكتسابها مجددا بسهولة)

. . .

 

لئن وقعت تطورات كبيرة سابقة مثل الهجمة العسكرية الأمريكية أو معارك المقاومة المسلحة، فمهدت لمسار مرحلة "الثورات" الراهنة في المنطقة العربية والإسلامية، فلن يمنع ذلك المؤرخين على الأرجح من اعتبار ثورة شعب تونس نقطة انطلاق في مسلسل التاريخ الزمني لمرحلة الثورات، التي ستأخذ مكانها في سجل التاريخ باعتبارها "حقبة انتقالية قصيرة"، أصبح ما بعدها -ربما على امتداد قرون- مختلفا جذريا عما قبلها، مما استمر قرونا.

لا تتكون هذه المرحلة فقط من ثورات تاريخية كبرى تصنعها الشعوب على مستبدين، بل تنطوي كل ثورة بطبيعتها على "تحولات" متفرعة عديدة أشبه بثورات ميدانية أصغر، تتداخل في بعضها بعضا، وتؤدي أدوارها في جملة المشهد التاريخي، وإن صعب تمييزها منفردة أثناء معايشة الأحداث اليومية المتنوعة والمتتابعة للحدث الكبير الشامل لها، ومن ذلك ما نرصده من "معركة إعلامية" يستحيل فصلها عن مرحلة الثورات وطبيعتها.

 

بدهيات مغيّبة

لا يمكن اختزال الساحة الإعلامية لمرحلة الثورات الشعبية الجارية في حدود اتهامات عشوائية يجري تناقلها عبر وسائل الإعلام نفسها، التقليدية والحديثة، وفي مقدمتها كما بات معروفا: هذه فضائية تحريضية، وتلك مهنية، وهذه تشارك في صنع الثورة، وتلك حيادية، وهذا إعلام رسمي ميت، وذاك إعلام خاص، اسما فقط، إذ ينضوي تحت جناح الأنظمة، أو يتحرك ضمن القنوات التي صنعتها للإعلام. وكل وصف من قبيل إعلام حر، أو مستقل، أو منحاز، أو تحريضي، أو مهني، هو وصف نسبي بحد ذاته، وخاضع لرؤية الفرد أو الجهة التي تستخدم هذه التعابير وأمثالها، لأغراض.. لا علاقة لها بالإعلام نفسه غالبا.

لا بد لتخفيف نسبة الضباب -وليس التخلص منه كلية فهو أمر غير قابل للتحقيق- من العودة إلى بعض البدهيات الأساسية المغيّبة في الشأن الإعلامي، ومن ذلك باختصار شديد:

مضمون الإعلام: خبر ورأي، ودور الإعلام: تعبير عن الرأي العام ومشاركة في صناعته، ورسالة الإعلام: خدمة المصلحة العامة المرتبطة بالإرادة الشعبية، وواقع وسائل الإعلام، العربية وفي أنحاء العالم، خليط من هذا كله، وخليط من سواه، فبنية وسائل الإعلام وممارساتها مرتبطة ببلد المنشأ ونوعية الحكم فيه، وبالتمويل وتأثير مصادره، ثم في المرتبة الأخيرة -البالغة الأهمية أيضا- بالعاملين في وسائل الإعلام وكفاءاتهم وتوجهاتهم، إدارة عليا، وإدارة تحرير، ومنتجين للمادة الإعلامية من محررين ومصورين وسواهم.

 

ومن مصداقية الإعلام ألا يفقد الإعلامي وجدانه، لا سيما في الفضائيات، وقد يكون متميزا عندما يتمكن من مواراة تأثره أو دمعة في عينيه أو نبرة الغضب في صوته، وهو يعرض بين يدي من يشاهده، مشهدا من المشاهد المؤثرة إنسانيا، المثيرة عقديا أو وطنيا، وليس من مصداقيته ولا تميزه أن يظهر بمظهر صخرة صماء عديمة الإحساس بزعم "الحياد والمهنية".

ويتبين مما سبق ذكره -بإيجاز كبير- حجم "النسبية والتعميم" في الحديث عن إعلام حر مستقل نزيه موضوعي، وأنّه حديث مثالي في كثير من الأحيان، حتى وإن دار في حدود دراسة منهجية "أكاديمية"، فلواضع الدراسة رؤيته الذاتية المؤثرة على كيفية إعدادها وما تصل إليه من نتائج، وقد تتجاور دراستان قيّمتان مضمونا وأسلوبا ومنهجا ومتناقضتان نتيجة، إذ يسري على الإعلام ووسائله ما يسري على كافة ما يرتبط بالميادين التاريخية والإنسانية والسياسية والفكرية والثقافية، فهي تتعلق دوما بالخصائص الشخصية الفردية، وتختلف بذلك اختلافا أساسيا عما يسري على الميادين العلمية الطبيعية والرياضية، المتعلقة بخصائص المادة التي لا تشمل العقل والوجدان والثقافة وغيرها من عوامل التمييز بين شخص وآخر، ومنطلقات كل منهما، وبالتالي ما يصنع الفرد من دراسة أو يكتب من مقال أو يعبر عن موقف.

 

المهنية في الإعلام

للمهنية في الإعلام مواصفات عديدة، بدءا بالشمولية مع التخصص انتهاء بالتقنية والجمالية، ومنها ما يرتبط بوضوح الخط الرقيق الفاصل بين الخبر والرأي، بحيث يستطيع "المستهلك للإعلام" أن يميز بين معلومة تصل إليه، فيأخذ علما بها، ورأي يُعرَض عليه، فيقبله أو يرفضه، ويهبط مستوى المهنية بقدر ما تكون المعلومة بحد ذاتها ناقصة أو مجتزأة أو تقدم جزءا محدودا من الموضوع المرتبطة به، كما يهبط بقدر ما تكون الآراء المطروحة صادرة عن مشكاة واحدة دون سواها.

 

هذا جانب نظري.. فعلى أرض الواقع أصبحت المهنية في الإعلام في عصر الفضائيات ودورها الأوسع تأثيرا من سواها، مرتبطة في الأذهان بالقدرة على الإخراج، ثم في المرتبة الثانية بمضمون المادة الإعلامية.

هنا تكفي المقارنة بين "مقدمات" مصورة تسبق نشرات الأخبار في الفضائيات، لتقدير أن هذه الفضائية أقدر من تلك على قول ما تريد قوله ووضعه في إطار يؤثر على المشاهد والسامع. وعند التأمل في المشاهد والعناوين ضمن تلك المقدمات تأملا أعمق، يظهر للمتأمل أن العنصر الأهم في المهنية على هذا الصعيد، هو مدى ارتباط هذه الجزئية (المقدمات) من المادة الإعلامية بحقيقة الحدث.

 

ورغم الرغبة في تجنب الأمثلة لا بد لتوضيح المقصود من الإشارة إلى ما يعنيه هذا الجانب المهني الذي تجلى فيما اختارته فضائية الجزيرة من عناوين متتالية في مواكبة ثورة شعب مصر: مصر تتحدث عن نفسها، ثورة شعب، الشعب ينتصر، مصر الثورة.. مع المشاهد المعبرة عن ذلك، وبالتالي المعبرة عن المراحل التي قطعتها الثورة في ١٨ يوما حتى حقق الشعب هدفه الأول: الشعب يريد إسقاط النظام.

وليس من المهنية أن تربط مقولات كثيرة واكبت مجرى ثورة شعب مصر، وانتشرت في نطاق "المعركة الإعلامية"، ما بين المهنية الإعلامية وبين بقاء الفضائيات في إطار الحدود التي يتيحها واقع قائم لأداء المهمة الإعلامية، فهذا ربط يقلب معنى المهنية رأسا على عقب. إن الإعلام الذي يعجز عن التصرف مخترقا قيود الواقع المفروض في إطار نظام استبدادي.. ليس إعلاما، ناهيك أن يكون مهنيا.

القدرة على متابعة الحدث إعلاميا، بتفاصيله، لا سيما ما يشمل إعلام المستهلك.. أي الشعوب، بالمحظور اطلاعه عليه من جانب الاستبداد.. هذه القدرة هي أول عناصر الكفاءة المهنية في الإعلام المعاصر، ويقابلها أن تقبع وسيلة الإعلام في زاوية الحظر والمنع تطويعا أو الملاحقة والاعتداء والاعتقال رهبة وخوفا.

 

بل إن كثيرا من الجهات التي تنتقد وصول بعض الفضائيات (مثل بي بي سي العربية.. وليس الجزيرة فقط) إلى الكشف عما أراد النظام في مصر قبل سقوطه التعتيم عليه، هي ذاتها الجهات التي كانت تشيد بمهنية وسائل الإعلام الغربي وقدراتها، لأنها كشفت المحظور في فييتنام فساهمت في إنهاء حرب عدوانية مدمرة، أو المحظور في "قضية ووتر جيت" فأسقطت رئيسا يستغل منصبه، أو المحظور في حرب احتلال العراق -كشفا جزئيا- فبدلت منظور الرأي العام الغربي لصانعيها.. ناهيك عن متابعة تلك الجهات لدور وسائل الإعلام الغربية في الكشف عن فساد مسؤول فيسقط، أو تورطه في قضية أخلاقية فيُقال.. هل يمكن لمن يمارس هذه الازدواجية على حساب حق الشعوب العربية في إعلام مشابه على الأقل، أن يكتسب مصداقية عندما يتهم جهات غربية بالازدواجية في التعامل مع قضايا المنطقة العربية والإسلامية على سبيل المثال؟

إن اتهام بعض الفضائيات -تخصيصا الجزيرة- بأنها شاركت عبر أسلوبها الإعلامي في إسقاط نظام استبدادي -كما يقال عنها- من خلال الإسهام في الكشف عما كان يريد بقاءه "مستورا محظورا" طلبا لبقاء الاستبداد.. لا يمثل اتهاما، بقدر ما يمثل شهادة على مستوى المهنية الإعلامية العالية التي وصلت إليها في ظل ظروف خاصة بها وظروف عامة بالغة الشدة على رسالة الإعلام وعلى وجوب أن يكون في خدمة الشعوب وليس الاستبداد، كيلا يكون شعار "السلطة الرابعة".. مجرد شعار مزيف.

 

الإعلام التحريضي المنحاز

من الجوانب الهامة المرتبطة بموقع المضمون من الكفاءة المهنية الإعلامية، التمييز بين الخبر والرأي. وكل وسيلة إعلامية تقتصر فيما تنقله من "أخبار" على طرف دون طرف، أو على جزء من مضمون الخبر دون جزء آخر، تفقد مصداقيتها الإعلامية، وقد تضاعفت سرعة سقوط هذه المصداقية -شعبيا- في عصر بات فيه حجب "الخبر" أشبه بالمستحيل. على أن سقوط المصداقية مرتبط بما هو أهم من ذلك عندما يكون الحدث من قبيل ثورة شعب على نظام مستبد، فهنا بالذات تتمثل المهنية في نشر الخبر الصادر عن الجهة التي يحاول الاستبداد بوسائل غير مشروعة، أن يحول دونها ودون الوصول بما تريد إلى وسائل الإعلام.

ولا مصداقية -مهنية أو غير مهنية- لوسيلة إعلامية أيا كانت، عندما تقتصر كليا أو بنسبة عالية، على نشر "المباح".. بمعنى ما يقول به النظام فقط، أو يسمح بقوله، وهو الذي يملك ما يكفيه من وسائل الإعلام المؤتمرة بأمره لنشر ما يريد وإخفاء ما يريد.

هذا مما يفسر الإقبال على الجزيرة أكثر من سواها أثناء ثورة شعب مصر، ولم يقتصر هذا الإقبال على العرب والمسلمين، ويمكن لكاتب هذه السطور أن يشهد على أن من وسائل الإعلام الغربية (وعلى الأقل الألمانية.. وقد تابعتْ إحدى الفضائيات الناطقة بالألمانية ثورة مصر بتغطية مستمرة هي الأولى من نوعها عموما) تحولت بعد أيام الثورة الأولى إلى متابعة الجزيرة أكثر من سواها، نتيجة رصدها أنها كانت أقدر مهنيا على تنفيذ أحد الشعارات التي وضعتها لنفسها: الصورة كاملة.

الصورة كاملة من حيث تكامل الأخبار لتغطية المشهد، وتكامل الآراء من داخله وحوله، فالإعلام خبر ورأي، وكل ما يتعدى مضمون الخبر مجردا هو رأي إعلامي، وبالتالي فكل ادعاء يصدر عن وسيلة إعلامية أو عن العاملين فيها، بالاقتصار مهنيا على الجانب الخبري وحده، ادعاء غير صحيح ويستحيل أن يكون صحيحا بطبيعة الإعلام نفسه.

التمييز يرتبط بنوعية الآراء المطروحة، وكل مسؤول في وسيلة إعلامية يدرك تماما أنه منحاز على هذا الصعيد، والفارق كامن في السؤال: إلى أي جهة ينحاز، وفي مرحلة الثورات الشعبية يصبح السؤال: هل ينحاز إلى حق الشعوب أم باطل الاستبداد.

 

هذا التمييز بين إعلامي وإعلامي، ووسيلة إعلامية وأخرى، هو العنصر الحاسم في المصداقية الإعلامية في هذه المرحلة.. مرحلة تصنيف الإعلام تبعا لتصنيف طرفين نقيضين: مستبد مسيطر وشعب ثائر على السيطرة.

من هنا لا بد من القول بصورة واضحة مباشرة.. إن الإعلام الذي لا ينحاز إلى الشعوب هو الإعلام المنحاز للأنظمة، فإن كانت مستبدة فاسدة، فهو إعلام منحاز للاستبداد والفساد، ولا مجال هنا للتعليل القائل بضرورة التزام الحياد، فلا يتحقق الحياد بأي معيار قويم من خلال الوقوف على مسافة واحدة بين القاتل والقتيل، والمجرم والضحية، والسجان والسجين، والهراوات والأجساد، والرصاص والجراح.

 

كما لا يمكن توجيه الاتهام بالتحريض إلى أي وسيلة إعلامية تنشر مشاهد "ارتكاب جريمة استبدادية أو جريمة من جرائم الفساد" وتبدي الرأي المشروع الواجب إبداؤه بصددها، فالتحريض في هذه الحالة لا يصدر عن "ناقل المشهد" بل يصدر واقعيا عن مرتكب تلك الجريمة، وعن مواقفه المستفزة عندما يرفض أن "يفهم" في الوقت المناسب (والأصل أن يفهم قبل ممارسته الاستبداد وليس بعد الثورة عليه) أو عندما يرفض التصرف وفق إرادة الشعب وهو يعبر عنها عبر الاحتجاج أو التظاهر أو الثورة، بعد أن سد النظام الاستبدادي الفاسد في وجه الشعب وسائل التعبير الحر، الطبيعية في ظل نظام غير استبدادي يقوم على أسس قويمة، من بينها الحقوق والحريات.

 

إذا رسخ في بلد من البلدان العربية والإسلامية نظام حكم قويم، يصدر عن إرادة الشعب، ويمارس مهمته معبرا عن إرادة الشعب بالمقاييس القويمة المعروفة لذلك، ويطلق الحريات والحقوق كما ينبغي، ومنها حرية الإعلام، آنذاك يكون للحياد الإعلامي تعريف آخر، أما في هذه المرحلة بالذات، التي نعايش فيها ثورات شعبية سلمية على أنظمة مستبدة لا تتورع عن البطش الفاجر، فالحياد هو ما يتحقق من خلال الانحياز الإعلامي الواضح للعيان، لقضايا الشعوب المشروعة العادلة.

نبيل شبيب