يوم العمال وواقع العمال عالميا

نشرت في جريدة الشرق القطرية يوم ٤ / ٥ / ١٩٩٩م

ورقة تحليلية – مظالم الإنسان العامل بين رأسمالية متشددة وشيوعية مندثرة

156

ورقة تحليلية

ميلاد الطبقية الرأسمالية – الطريق إلى الشيوعية – الرأسمالية المتشددة – ضحية العنصرية وفكر الصراع

في عام ١٨٨٩م عقدت الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، الحديثة التكوين نسبيا، مؤتمرها السنوي الدولي الثاني في باريس، وأصدرت نداء وجهته إلى العمال تدعوهم فيه إلى اعتبار الأول من أيار / مايو من كل عام يوما للنضال من أجل تحصيل حقوقهم، بأسلوب الإضراب والتظاهر والتجمعات. واختير هذا اليوم لأنه شهد قبل ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ، صدامات دموية بين الشرطة وعمال متظاهرين في شيكاغو، وكان العمال يطالبون بتحديد ساعات العمل اليومية بثماني ساعات فقط، فسقط منهم عشرات الضحايا من القتلى والجرحى. آنذاك دخلت مسيرة النضال لتحصيل حقوق العمال منعطفا تاريخيا مضى عليه ما مضى من الزمن، ويمكن القول إن هذه المسيرة تشهد في السنوات الحالية منعطفا تاريخيا آخر، لا يقل أهميّة عن الأول. فما الذي كانت عليه وما الذي آلت إليه أوضاع العمال على أرض الواقع، في ظل النظم الرأسمالية والشيوعية؟

ميلاد الطبقية الرأسمالية

في القرن الميلادي التاسع عشر، وبعد أن قطعت الثورة الصناعية أشواطا لا بأس بها، كان من المحتم على العمال ممارسة أساليب النضال لتحصيل بعض الحقوق، ففي عالم المادة لا أحد يعطي أحداً شيئاً عن طيبة نفس، ولا أحد على استعداد لرفع المظالم القائمة طواعية، وقد انتقلت المظالم المعروفة من عصر الإقطاع والاستبداد الكنسي، إلى عصر الرأسمالية الحديث، التي بدأت ترسخ دعائمها حول محور رئيسي هو تحقيق الأرباح المادية، وفق نظرية مفكرها الأول آدم سميث، الذي اعتبر تخفيض نفقات الإنتاج شرطا لزيادة أرباح أصحاب رؤوس المال، وبالتالي لرفع نسبة النمو الاقتصادي عن طريق مزيد من الاستثمارات. واعتبرت المدارس الرأسمالية أن الطريق الرئيسية إلى تخفيض نفقات الإنتاج هي تخفيض أجور العمال داخل البلدان الرأسمالية نفسها من جهة، إلى جانب ما تحققه حملة السلب الاستعمارية العالمية من جهة أخرى، لتأمين الخامات والطاقة بتكلفة رخيصة.

وما زالت هذه النظرة سـارية المفعول إلى اليوم، وتترك أضرارها وأخطارها على مستويات عديدة، وتشهد جولات من الصراع بين الأطراف المعنية، فيحسم القضاء فيها حينا، وتحسم القوة حينا آخر، والمشكلة في الوقت الحاضر، مشكلة تعدد أشكال القوة التي تُفرغ المنظومة القانونية والقضائية من مضمونها وتفقدها مفعولها.

أما في تلك الفترة قبل أكثر من قرن، والتي كانت حالكة السواد في تاريخ القانون والحقوق والقضاء في البلدان الغربية عموما، فلم تكن أبسط الحقوق الإنسانية قد وصلت إلى مرحلة التقنين أصلا، فضلا عن أن تكون موضع المراعاة، فكانت المظالم القائمة فاحشة بمعنى الكلمة، ومما يشير إليها نوعية مطالب العمال والنقابات العمالية على امتداد عشرات السنين التالية للتخلص منها، ومن ذلك مثلا:

– المطالبة باستصدار قوانين تحظر عمل الأطفال والنساء في المناجم.

– أو المطالبة بالرعاية الطبية لمن تصيبه الأمراض في أجواء العمل الخانقة.

وغير ذلك مما كان – على بداهته – لا يصل العمال إليه إلا انتزاعا بأسلوب النضال.

الطريق إلى الشيوعية

لم يكن أرباب العمل ومن ورائهم المسؤولون السياسيون في الدول الرأسمالية الناشئة على أنقاض الدول الإقطاعية والكنسية، يستجيبون لبعض تلك المطالب ومع كثير من المماطلة والتسويف، إلا على قدر ما يظهر من ضغوط إضافية، كالضغوط التي رافقت النقلات النوعية في الثورة الصناعية وأدت إلى الاحتياج المفاجئ نسبيا إلى مزيد من الأيدي العاملة، فهذا مما أعطى العمال موقعا أقوى من ذي قبل، أو كالضغوط التي نشأت في فترة لاحقة عن المخاوف الرأسمالية من انتشار الأفكار الشيوعية، وكانت هذه قد بدأت تطرح نفسها بالنسبة إلى العمل والعمال بنظرة صادرة عن أسلوب تفكير المجتمع الرأسمالي القائم نفسه، فالبداية كانت التعبير عن احتقار دور العامل والقول إنه صادر عن غريزة الملكية الفردية، فكان كارل ماركس يدعو إلى تشغيل العمال لحساب المجتمع عموما، وليس لتحقيق غايات أنانية من جانبهم. ولكن سرعان ما تلاءمت الأفكار الشيوعية الأولى مع معطيات الظروف التاريخية، ووجدت لنفسها منفذا للتغيير، فلم يعد العامل مستهدفا مع رأس المال، بل أصبح إنقاذه من مظالم الرأسمالية هو الهدف، وانتشرت الدعوات الشيوعية تحت عنوان الدفاع عن العمال، ثم تحركت الثورة البلشفية في روسيا باسم تقويض الرأسمالية، وإقامة نظام ديكتاتورية البروليتاريا أو حكم الطبقة العاملة وحدها، ورسخت منذ ذلك الحين دعائم العولمة للأفكار الشيوعية، بشعارات من مثل يا عمال العالم اتحدوا.

ونعلم أن العقود التالية من السنوات شهدت كيف بقيت الشعارات في واد وواقع النظام الشيوعي عقب استقراره في شرق أوروبا وشمال آسيا ووسطها في واد آخر. فقد تحولت الشيوعية من ديكتاتورية العمال إلى ديكتاتورية الحزب الواحد، وانتقلت الميزات المادية من طبقة الرأسماليين إلى طبقة كبار الحزبيين والعسكريين، وانعكست شعارات الدفاع عن حقوق الشعوب المهضومة الحقوق تحت وطأة الامبريالية إلى ممارسات قمعية للشعوب التي تأبى الخضوع لاستبداد الشيوعية، وأصبح عيد العمال مناسبة لاحتفال الحاكمين لا العمال في ظل أكذوبة كبرى أن العمال هم الحاكمون، وهي الأكذوبة التي انكشفت مرارا، ثم كان القضاء المبرم عليها في حركة نقابات التضامن البولندية، التي دخلت كتب التاريخ باعتبارها ثورة العمال على ديكتاتورية العمال المزعومة!

ولكن كان للشيوعية إيجابياتها أيضا، ومن أبرزها بالنسبة إلى العمال ميزة الضمانات الاجتماعية، كالتأمين ضدّ البطالة، والعلاج الصحي، والمعاشات التقاعدية، وما شابه ذلك مما استقطب الطبقات الفقيرة والمقهورة في ظل الرأسمالية، ومع ازدياد إغراء الشيوعية للعمال في الغرب تحرك الرأسماليون لتخفيف الضغوط بإيجاد شبكة من الضمانات الاجتماعية، ويلفت النظر عند المقارنة بين البلدان الرأسمالية، أن مستوى الضمانات الاجتماعية فيها كان يرتفع بصورة متناسبة طرديا مع قربها الجغرافي من حدود المعسكر الشيوعي، فبلغت مستويات عالية في الدول الاسكندنافية، واكتسب المنهج الاقتصادي التطبيقي وصف الرأسمالية الاجتماعية في ألمانيا الغربية، ولكن هذه الضمانات لم تصل قط إلى مستوى مرموق في بريطانيا أو في الولايات المتحدة الأمريكية الأبعد عن المعسكر الشيوعي جغرافيا، والأشد ارتباطا بالفكر الرأسمالي نفسه.

الرأسمالية المتشددة

لقد أصبحت الضمانات الاجتماعية لصالح العمال في البلدان الرأسمالية بمثابة إجراءات وقائية في حقبة الحرب الباردة، وهذا ما يتبين عند رصد سرعة الرجوع عن القليل والكثير منها على السواء، فور ظهور البوادر الأولى لتزعزع أركان المعسكر الشيوعي في الشرق، وكانت الخطوات الرئيسية الأولى للتراجع (حتى عن القليل من الضمانات الاجتماعية والنشاطات النقابية) في تلك البلدان الأبعد جغرافيا، في ظل ما مارسته حكومة رونالد ريجان الأمريكية ومارغريت تاتشر البريطانية، واشتهر بوصف الرأسمالية المتشددة، التي أصبحت لاحقا هي الوقود الرئيسي للعولمة على الصعيد الاقتصادي، وسرعان ما تضاعفت حدة الفروق الطبقية بين فئة محدودة العدد تزداد ثراء فاحشا، وفئات اجتماعية تشمل تدريجيا المزيد من عامة السكان وتزداد فقرا عاما بعد عام، وهو ما ينعكس بصورة صارخة في القوائم السنوية التي تنشرها المصادر الغربية عن أثرى الأثرياء وثرواتهم، وأضخم الشركات وميزانياتها، وجميع ذلك مما لا يمثل واحدا في المائة من السكان، مقابل عدد الفقراء المتزايد في الغرب الأمريكي والأوروبي، ونسبة البطالة، ونتائجها الاجتماعية على مختلف الأصعدة، حتى صارت نسبة الفقر تتأرجح ما بين الربع والثلث من السكان، وكانت قبل فترة وجيزة نسبيا دون ١٥ في المائة.

لقد فقدت النقابات العمالية في هذه الأثناء دورها في لعبة الصراع المادي داخل نطاق الأنظمة الرأسمالية، ولم يعد يوجد بمنظور العمال مفعول لجولات المفاوضات السنوية على الأجور، بل أصبحت النقابات تحت الضغوط، لتتراجع عن مطالبها الأساسية لتأمين قدر أكبر من الأرباح، لأصحاب الشركات لا العمال، كي يقتطعوا منها جزءا لاستثمارات جديدة، وآنذاك فقط قد يأتي دور العمال، عبر احتمال أن توجد الاستثمارات أماكن عمل جديدة.
ولكن ماذا عما تجمّع من أرباح وثروات ضخمة من قبل مع ارتفاع نسبة البطالة؟ ماذا عما يسميه أصحاب الشركات إيداعات مالية احتياطية وقد بلغ حجمها في معظم البلدان الرأسمالية مئات المليارات، بينما لا ينقطع تعليل الامتناع عن استثمارات جديدة بادّعاء عدم توافر ما يكفي من الأرباح؟

إن أصحاب المال والأعمال، الذين كانوا وما يزالون هم المحرك الأول والرئيسي في المرحلة الحالية من مسيرة العولمة، حصلوا من خلالها على سلاح إضافي، وأصبحوا قادرين على تنفيذ ما يهددون به العمال والنقابات على المستوى الوطني، وهو إغلاق المصانع الوطنية وفتح البديل عنها في بلدان أخرى فقيرة، حيث تتوافر الأيدي العاملة الرخيصة!

ومنذ سنوات يتردد أن هذه الضغوط المتصاعدة على العمال وأمثالهم من الطبقات الأفقر والأضعف في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، وبالتالي على القطاع الأكبر من السكان، أدّت عبر الأساليب الديمقراطية إلى سقوط أحزاب اليمين وصعود أحزاب اليسار، وأن هذا سيخفف الضغوط على العمال والفئات الأخرى في مثل أوضاعهم، وهذا صحيح من الناحية الشكلية المحضة، ولكن النتائج الواقعية تظهر عند التأمل في برامج ما كان يعرف باليسار التقليدي في البلدان الرأسمالية، كفرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد تحركت جميعا باتجاه اليمين إذا صح التعبير، وتخلت عن قسط كبير من التمسك بتلك الضمانات الاجتماعية التي كانت تميزها ولو قليلا كأحزاب يسارية، أو أحزاب اشتراكية وديمقراطية اشتراكية، بالمقارنة مع الأحزاب “الرأسمالية” الأخرى، وباتت النسبة العظمى من جميع الأحزاب الديمقراطية في المجتمعات الرأسمالية الغربية بعد انسياح الرأسمالية شرقا على أنقاض الشيوعية.. باتت عبارة عن أحزاب يمينية، بل وأقرب إلى الرأسمالية المتشددة وإن تفاوتت الدرجات، مع كل ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى العلاقة ما بين أصحاب المال والأعمال من جهة والعمال والنقابات من جهة أخرى.

ضحية العنصرية وفكر الصراع

بمنظور العمل والعمال لم يحقق وصـول تلك الأحزاب اليسارية عنوانا إلى السلطة أكثر من إسهامها في تمرير التطورات الجارية على حساب العمال وحقوقهم في الدرجة الأولى، وفي مقدمة الأمثلة على ذلك ما أسفر عنه وصول الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون الديمقراطي بعد الرئيسين الجمهوريين رونالد ريجان وجورج بوش إلى منصب الرئاسة، وهذا مع ما تضمنته المعركة الانتخابية آنذاك من دعوات باسم الضمانات الاجتماعية ومكافحة البطالة، ثم تركزت الأنظار قبل نهاية عهده على الإشادة بإيجاد تسعة ملايين مكان عمل خلال سبع سنوات، جنبا إلى جنب مع ارتفاع نسبة النمو الاقتصادي السنوية كالمعتاد، ولم ينقطع الحديث في المجتمعات الغربية عن اعتبار ذلك إنجازا ضخما، وبالتالي كان الطرف الأمريكي يطالب أقرانه في الدول الرأسمالية الأخرى أن يحذوا حذوه في مكافحة البطالة مع تعزيز النمو الاقتصادي.

والواقع هو أن النسبة الأكبر من تلك الأماكن نشأت عبر تخيير الفرد الأمريكي بين أمرين، إما البطالة المطلقة مع ما تعنيه في ظل انعدام الضمانات الاجتماعية من فقدان الحاجات المعيشية الضرورية القصوى، كالمأوى والطعام والدواء، وإما القبول بمكان عمل بأجر زهيد يكفي لسد الرمق، فيما يستحق وصف البطالة المقنعة!

قد يكون التخيير بين أهون الضررين مقبولا بشروط معينة، ولكن النظام الأمريكي قادر عند الالتزام بقيم العدالة والمساواة فعلا لا قولا وشعارا، على إيجاد خيارات أخرى، تشمل إيجاد مكان عمل كريم، بأجر كريم، لحياة كريمة. ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى تحقيق ذلك، بل غابت التطلعات إلى ذلك عن الأنظار وعن الاهتمام، وراء أخبار مثيرة عن موجة اتفاقات الاندماج الكبرى لتشكيل شركات ومصارف عملاقة تتناسب مع متطلبات العولمة في المرحلة التالية من مسيرتها. بل بدلا من ظهور مؤشرات لتصحيح الانحراف في التعامل مع العمال في النظام الرأسمالي الأمريكي، نرصد انتشار الانحراف نفسه على حساب العمال وحقوقهم، في بلدان رأسمالية أخرى، عن طريق الأحزاب اليسارية المنحرفة ذات اليمين، باسم تشكيل الوسط الجديد في ألمانيا، أو تجديد حزب العمال في بريطانيا على سبيل المثال.

لقد أصبح العمال الذين فقدوا الضمانات الاجتماعية في الشرق الشيوعي المنهار، وفقد كثير منهم أماكن عملهم بحجة الفترة الانتقالية للأخذ بالنظام الرأسمالي في الشرق، وأصبح العمال الذين فقدوا في الغرب مفعول أسـلحتهم القديمة تحت تأثير العولمة وسواها، أصبحوا مع ذويهم هم الضحية الأولى لفلسفة صنعت النظريات الرأسمالية والشيوعية من قبل، وقامت في الدرجة الأولى على ركيزتين خطيرتين، لم ينقطع وجودهما ولا تأثيرهما قطّ في المجتمع الغربي ونظمه الوضعية المختلفة عبر العصور وعلى تقلب الأشكال التطبيقية، وهما:

١- ركيزة الفكر العنصري، وينبغي التأكيد هنا، أن التمييز لا يقتصر على وجهه العنصري في ميدان لون البشرة، أو الانتماء القومي، إنما يشمل واقعيا التمييز بين فئة وفئة من الشعب الواحد، أو على المستوى البشري.

٢- ركيزة فكر الصراع، فهذا ما جعل التفكير بتحصيل الحقوق، في أي ميدان من الميادين، كميدان المرأة، أو الطفل، أو العمال، يتوجه تلقائيا إلى أسلوب النضال، ولا نستغرب ما يجري تسجيله عبر عشرات السنين من إخفاق مرة بعد أخرى، ففساد فلسفة الصراع وفكره في العلاقات الاجتماعية، لا يمكن أن يوجد إلا فسادا في التطبيق.

نرصد نتائج الفساد في التطبيق في واقع العمال، من عصر فرعون إلى اليوم، فالفكر العنصري وفكر الصراع معا، هما الأرضية التي تقوم عليها شرعة الغاب، ليحصل الطرف الأقوى على ما يريد تحصيله ولو تجاوز به حقوقه، وليفقد الطرف الأضعف ما يريد تحصيله ولو كان من صميم حقوقه، فإذا وجد هـذا وذاك إقرار المجتمع اقتناعا بفلسفة فكر الصراع، وتأثرا بروح عنصرية ظاهرة أو دفينة، لا بد أن تضيع الحقوق، وهذا ما يفرض التساؤل فرضا عن فلسفة أخرى، قد لا تعطي العمال عيدا سنويا باسم يوم العمال، ولكن تقرر للعمل والعمال منطلقات أخرى لتثبيت حصول كل ذي حق على حقه، في حالات الضعف والقوة على السواء.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب