مقالة – الزعماء الراحلون.. لا يقودون الأحياء من جيل المستقبل
الزعامة الحقيقية لا يصنعها الرثاء في المناسبات، ولا يرتفع بها النحيب على الأطلال، ولا ينهض بتبعاتها أموات يبكون على أموات!
بقدر ما يمكن فهم الحنين إلى الماضي والإشادة بما كان فيه، بقدر ما ينبغي الحذر من أن يتحول الحنين إلى مادة للتخدير الفكري والعملي في واقعنا الحاضر.
يسري هذا على كل فرد يحرص على طرح كل ما يستطيع طرحه من تاريخ مجيد، وحول زعماء ذوي هامات سامقة صنعوا أحداث التاريخ، فمن الأمانة عند ذكرهم التأكيد، أنهم حملوا الأمانة ومضوا عن هذه الدنيا، وأن للحديث عنهم ضوابط ومعايير ليؤدي مهمة محددة، فإن كان القصد هو القدوة الحسنة، فعمادها السعي لصنع شبيه ما صنعوا في عصر مضى، سعيا يتلاءم مضمونا وحجما مع احتياجاتنا واحتياجات البشرية في الوقت الحاضر، فإن سقط ذلك ضحية المبالغات، أو نتيجة القصور عن استخراج المناهج العملية الصالحة في واقعنا الحاضر، تحوّل الحديث إلى ضرب من ضروب التخدير القاتل، ولا نجهل أن سير هؤلاء جميعا محفوظة في التاريخ، فاستخراج صور منها وعرضها في الخطب واللقاءات والكتابات الحديثة، أمر يسير من حيث الأساس، أما قيمته الحقيقية فمرتبطة بتوظيف هذا الجهد لأداء مهمة معاصرة.
قوم ماتوا ورحلوا
ما يسري على صعيد التعامل مع الشخصيات التاريخية، يسري على سواها بقدر أكبر بكثير، وإننا نعايش في الوقت الحاضر الاستغراق إلى درجة تخدير الوعي الذاتي والجماعي، في الوقوف على أطلال ذكريات شخصيات تاريخية ومناسبات تاريخية من العهود التاريخية القريبة، وبين أيدينا رحيل من ظهروا في مواقع الزعامة حديثا.. ورحلوا كسواهم، مثل ياسر عرفات وصدام حسين وجمال عبد الناصر، ومن يرغب في المزيد فلينظر أيضا فيما يتردد عن جيفارا عند عشاقه، ولينين عند أتباعه، وأمثالهما عند أمثالهم، وحتى المستغرقون في استنباط الحلول السحرية لمشكلات واقعنا المتفاقمة، من عالم الفلسفة الواسع، يستغرقون في العودة بما يقولون -بحق ودون حق- إلى شخصيات أدت ما عليها ورحلت عن الدنيا قبل مئات السنين، بدءا بابن رشد انتهاء بمحمد عبده، ناهيك عمن يعودون إليه من أساطنة الفلسفات الغربية الأقدمين والمحدثين.
سيان ما مدى التزام نهج قويم أو السقوط في انحراف عقيم، عند الحديث عن أولئك الراحلين، عبر تصويرهم وكأنهم قد صنعوا المعجزات، والتغافل عما ارتكبوا من أخطاء.. لأنهم بشر كغيرهم من البشر، يبقى العنصر الحاسم من بعدما ماتوا كامنا في كلمة واحدة: رحلوا، ويبقى من بعد ذلك سؤال حاسم واحد: ماذا نصنع الآن؟
إن بلادنا وشعوبنا وقضايانا وأهدافنا في حاجة إلى زعماء أفذاذ.. أحياء!
وإن أحزابنا وجماعاتنا وحركاتنا وتياراتنا في حاجة إلى قادة كبار.. أحياء!
وإن أنظمتنا وحكامنا ومؤسسات صناعة القرار بين أيدينا ومن وراء ظهورنا، في حاجة إلى إبداع الأحياء وعطاء الأحياء وإنجازات الأحياء.. من حكماء ومفكرين، وكتاب وباحثين، وحاشية وناصحين، ومعارضة ومؤيدين!
هل نصنع هؤلاء من داخل صفوفنا عبر أولئك الذين ماتوا ورحلوا عن دنيانا؟
تقديس عقيم
إذا سلمنا بأن بعض من ذكرت أسماؤهم كانوا زعماء بررة في مرحلة ماضية، لم تصنع زعامتَهم بياناتٌ ومنشورات وذكريات واحتفالات وندوات ومؤتمرات ومواقع شبكية، تعيش على اجترار إنجازاتهم من جانب أنصارهم الأحياء من بعدهم، المتغافلين عن كل شيء سواها!
بغض النظر عن البر والفجور في الطريق الذي سلكه زعماء مرحلة قريبة ماضية، وانطلاقا من قول من يقول إنهم كانوا صادقين في السعي لخدمة شعوبهم وقضاياهم وفق رؤاهم، يبقى ثابتا أن أحدا منهم لم يصل إلى موقع الزعامة إلا من خلال عمل دائب طويل، وجهد متواصل، فلم يُعرف اسم أحدهم إلا عبر إنجاز ما، ولم يجد أنصارا أثناء حياته إلا بقدر ما أقنع -أو ما أوهم- به من كانوا يعيشون في عهده بأن الطريق التي يدعو إليها توصل إلى تحقيق أهداف ما، ولم يكونوا ممن يبحث عن زعماء لنفسه في قبور الراحلين، ولا ممن يملؤون عالم الكتابة الحقيقي والافتراضي بسيل لا ينقطع من كلمات التمجيد والتبجيل والتقديس لبشر من البشر أصابوا وأخطؤوا، وأحسنوا وأساؤوا، ليعيش على فتات ما خلفوا، فإن لم يكن فيه ما يسد رمقا، عكف على تجميله وتزويقه بمختلف السبل.
لندع تقويم حقيقة إنجازات حقيقية أو مزعومة للتاريخ ولنتساءل:
أين أنصار ياسر عرفات من تحقيق نسبة مئوية ضئيلة من المنجزات التي يعددونها له؟
اين أنصار صدام حسين من سلوك الطريق التي يقول ورثته إنها كانت طريقا عتيدة؟
أين أنصار جمال عبد الناصر من البناء الذي أقامه وفق عشاقه من إقامة البناء من بعده؟
أمّا أن يقول بعض هؤلاء ويكتبون، إن ما يمنعهم عن تبعات الزعامة، هو ما يجدونه اليوم من عقبات وعراقيل، من هيمنة أجنبية أو استبدادية محلية، أو انحرافات وفساد وخيانات، ففيه إساءة أكبر وأشدّ لمن يحبون ويعشقون، ويمجدون ويقدسون، فكأنهم يقولون: لقد حققوا ما حققوه بسبب عدم وجود مثل تلك العقبات والعراقيل، عندما كانوا أحياء يرزقون.. فأين تكمن إذن ميزات تلك "الزعامات الفذة" التي يتحدثون عنها؟
عقبة في طريق جيل المستقبل
إن الإنجاز الحقيقي المطلوب الآن، هو الإنجاز الذي يتحقق رغم ما يُصنع للحيلولة دونه، وليس هو إنجازا بقيمة حقيقية إذا كان تحقيقه مشروطا بتوقف "الخصوم والأعداء" عن التحرك المضاد وفق خصومتهم وعداوتهم!
وإن الزعامة الحقيقية المفتقدة الآن، هي الزعامة التي تصل إلى الأهداف الكبيرة الجليلة فوق الصعوبات الجسام ورغم وعورة الطريق.
هذه الزعامة لا يصنعها الرثاء في المناسبات، ولا يرتفع بها النحيب على الأطلال، ولا ينهض بتبعاتها أموات يبكون على أموات!
مهما قيل عن زعماء رحلوا من جيل مضى، فإن حصيلة زعاماتهم هو ما نحن فيه الآن، مع جيلنا المعاصر، وسيان هل نبجل أم ننتقد، وهل نتذكر أو ننسى، وهل نقوّم ما صنعوه بحق أم نهذر عن زعاماتهم دون حق، فإن حصيلة ما نصنع الآن، هي حصيلة ما نعمل وليس ما نقول، وحصيلة ما نبني وليس ما نتوهّم، وحصيلة ما يجمع التيارات والتوجهات المتفرقة المتنازعة، وليس ما يزيدها فرقة وتنازعا.
إن الزعامة التي نحتاج إليها في قضايا فلسطين وسورية ومصر والعراق وليبيا واليمن.. وغيرها من
سائر قضايانا ما بين الشاشان وأفغانستان والصومال، والتي نحتاج إليها في قضية النهوض والتقدم، والعلم والتقنية، والإبداع والعطاء، والوحدة والتحرر، والعدالة والشورى، وفي كل قضية كبيرة وصغيرة، أصبحت يتيمة أو مهجورة، وورقة على مائدة قمار الادعاءات أو سلعة في متاجر المساومات، إنما هي الزعامة التي يصنعها الأحرار قلبا وقالبا، العاملون المخلصون المجاهدون سرا وعلانية، الذين يرون "البرج العاجي" في أكواخ المحرومين وليس في "جوائز" المترفين، ويتحركون على خطى الشعوب وحداء نبضها فيعبرون في كل كلمة يكتبون، أو إبداع يقدمون، أو مؤتمر يعقدون، بل يعبرون بمخططاتهم، وبأعمالهم وتضحياتهم في مقدمة الصفوف، عن إرادتها وتطلعاتها، ويعتبرون زعامتهم رهنا بقدراتهم الذاتية هم، الآن.. في عالمنا وعصرنا، وفي واقع حياتنا، على بيان ما لا يظهر من معالم طريق العمل لتحقيق الأهداف الجليلة العزيزة، وعلى قيادة من يسيرون الآن على هذا الطريق.. قيادة حية واعية راشدة أمينة مخلصة عاملة مجاهدة.
وليكن أنصار من مضى وما مضى صادقين مع أنفسهم، إن الزعامة التي نحتاج إليها لن يصنعوها هم، مهما نبشوا من التراب، بل سيصنعها جيل المستقبل من داخل صفوفه، ومن قلب معاناته، ومن أعماق جهوده وإنجازاته، ذكورا وإناثا، طلابا وعمالا، علماء ومبدعين، وما دمنا عاجزين عن زعامته الحية وقيادته المستنيرة على دربه العتيد، فلا أقل من أن نكفّ عما يساهم في تخديره وقعوده، وأن نمنع أنفسنا من أن نكون جزءا من العقبات على طريقه، وجزءا من جرّه إلى الماضي، المجيد أو غير المجيد، على حساب تطلعه إلى مستقبل مجيد.
نبيل شبيب