تحليل – تفكيك بلادنا من الداخل
أصبح الخطر الأكبر داخل الحدود، ولا يكفي في مواجهة الخطر مجرد الحديث عنه، دون التصدي المشترك له
لم يكن مدخل الفوضى الهدّامة لصناعة خارطة إقليمية جديدة من ابتكار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا ينتهي العمل لذلك بنهاية وجودهم في السلطة، بل يتبدّل المظهر دون الجوهر، والتسميات والشخوص التنفيذية، وليس ثوابت الصيغة الشمولية / الاستراتيجية التي قامت وتقوم عليها مطامع الهيمنة العالمية، من جانب أيّ قوة دولية تحسب نفسها قادرة على الانفراد في فرض إرادتها في لحظة من لحظات التاريخ العابرة.
مضمون واحد متكرّر – العناصر الجوهرية للفوضى – عواقب واحتمالات مستقبلية
مضمون واحد متكرّر
ما يسمّى الفوضى الخلاّقة بمنظور أمريكي للنتائج المرجوّة منها لا يمكن وصفه إلاّ بالفوضى الهدّامة بمنظور محلّي. وتاريخيا كانت الفوضى الهدّامة تنفذ إقليميا ممّا خلّفته مثلا المشاركة العربية في القضاء على بقايا السلطنة العثمانية فأصبحت هي محضن الحقبة الاستعمارية التالية، ويسري شبيه ذلك على منطقة البلقان في حرب ١٩١٢ و١٩١٣م، وما زالت العواقب ممتدة إلى الوقت الحاضر فيما يُصنع بألبانيا وكوسوفا والبوسنه والهرسك تخصيصا.
النهج نفسه يتكرّر بصورة أو بأخرى في الوقت الحاضر، ويشغل جميع بلداننا دون استثناء، وتصيب نتائجه الجميع دون استثناء، مثلما كانت نتائج "سايكس بيكو" شاملة لمن شارك في الحرب على الدولة العثمانية ومن لم يشارك.
إن صناعة الفوضى من جانب قوّة دولية تعمل للهيمنة، تستهدف إيجاد وضع جديد يوجد فرصا مناسبة لخطوات تالية على طريق ترسيخ الهيمنة.. ولكن ما الذي يدفع جهات محلية للمشاركة في صنع الفوضى، وهي ممّن تصيبه عواقبها؟ هل يوجد منطق سياسي وراء الإسهام في إيجاد وضع فوضوي، هو هدف مرحلي لقوّة أجنبية، يصبح بدوره وسيلة لتحقيق هدف أبعد؟
العراق مثال معاصر، فالاحتلال العسكري الأمريكي لا يصل بالقوّة العدوانية الذاتية وحدها إلى وضع دولة مستعمرة لمطامع الهيمنة الأمريكية، ولكن استقر الهدف على الحيلولة دون قيام دولة مستقرة، ودون بقاء مقوّمات سياسية وعسكرية واقتصادية لدور عراقي إقليمي فعّال وإن انسحبت قوات الاحتلال، وتلك شروط تحقيق هدف خطير مستقبلي أبعد، أمّا وضع "الفوضى" مرحليا فهو ما رأيناه في اختلاط الحابل بالنابل، بين مقاومة وطنية، وعمليات إرهابية، وفتنة طائفية، وصراعات إقليمية، وأحزاب وحكومات وميليشيات متداخلة في بعضها بعضا، وجميع ذلك يمهّد لخطر أكبر في مرحلة تالية.
ويمكن أن نسترسل مع أمثلة أخرى من الصومال والسودان إضافة إلى قضية الأكراد وقابلية تفجيرها في أيّة لحظة، بل حتى الباكستان في الجوار الأفغاني، وجميعها أمثلة تبيّن النتيجة ذاتها.
ربّما حسبت دول أخرى نفسها آمنة، وقد تكون آمنة لفترة محدودة ما دامت تؤدّي دورا مطلوبا منها، يساهم في صنع الفوضى الهدّامة في أقطار أخرى، مباشرة أو غير مباشرة، ولكن هل يضمن أي مسؤول، في أي دولة من تلك الدول "الآمنة"، ألاّ تصل إليه عدوى صناعة الفوضى الهدّامة آجلا أو عاجلا؟
العناصر الجوهرية للفوضى
إنّ العنصر الظاهر للعيان من المنظور الوطني هو دور العدوّ، سواء كان أمريكيا أو صهيوأمريكيا، ووصفه بالعدوّ يعني أنّه لن ينقطع عن صنع ما يصنع حتى "يُرغَم" على سوى ذلك.. أمّا العنصر "الأهمّ" بكثير فهو بالمنظور الذاتي ما يجعل الفوضى الخلاّقة بمقياس الهيمنة العدوانية فوضى انتحارية وليس هدّامة فحسب، وهو عنصر المشاركة في صناعة الفوضى إقليميا من جانب من سيكون مستهدفا بها لاحقا.
إنّ كلّ ما يمكن صنعه انطلاقا من جانب "العدو" يستحيل تحقيقه دون ركائز محلية وقوى إقليمية، هي الأدوات التي لا غنى عنها لبلوغ هدفه.
وكلمة "لا غنى عنها" تعني كعنصر مشارك على الدوام، ولا تعني شخوصا ودولا ودويلات وقوى محلية بعينها، فالاستغناء عن هؤلاء أو بعضهم بعد اهتراء أدوارهم نتيجة ظهور بشاعة ارتباطهم التبعي أجنبيا، هو العنصر الثالث الأساسي في معادلة صنع الفوضى الهدّامة واستخدامها، فالاستقرار بحدّ ذاته نقيض "الفوضى" المطلوبة، ولهذا يصبح كلّ استقرار آنيّ لقوة / دولة محلية مرتبطة بقوّة خارجية، على شفا خطر، لأنّ دورها يتآكل تدريجيا، وسقوطها أو إسقاطها وتلميع سواها ودعمه جزء من عملية الفوضى الهدّامة نفسها، وعندما تساهم تلك القوة / الدولة في صناعة الفوضى لدى الجوار، تساهم واقعيا في إسقاط نفسها.. آجلا أو عاجلا، وذاك ما يعنيه وصف العملية بالانتحارية.
عواقب واحتمالات مستقبلية
ما الذي يمكن الاعتماد عليه في صناعة مستقبل منطقة بدأت أقطارها تفقد مقومات شكل الدولة ذات السيادة على أرض جغرافية موحّدة؟
إن الانحلال الذي أصاب مفاصل وجود العراق مثلا يستحيل أن تبقى آثاره وعواقبه محصورة داخل حدوده، وإن بقي قطرا موحّدا شكليا، ولم تتمّ تجزئته إلى أكثر من قطر. وهذه المظاهر للانحلال الداخلي، سواء بلغ مستوى دمويا أو اقتصر على مظاهر شكلية سياسية يستحيل أن تكون أرضية أو أن توجد إلى جانب الانحلال الداخلي أرضية منعزلة عن تأثيره، من أجل تقدّم اقتصادي، أو عمراني، أو سياسي، أو أمني، أو علمي، في أي بلد من بلدان المنطقة، ناهيك عن اغتيال أهداف التضامن والتكتّل والتعاون وقد وضعت في ثلاجات التيئيس والعجز المصنوع والفعلي.
وإنّ كلّ مشاركة مباشرة، علنية أو خفية، في قطاع أمني أو سياسي أو اقتصادي، من جانب أيّ قوة محلية، في أي جانب من جوانب صناعة الفوضى القطرية أو الإقليمية، إنّما هي في الوقت نفسه ضرب من ضروب الخيانة بالمعايير الوطنية، والقومية، والإسلامية، لا تخفف الذرائع الآنية من وطأتها، ولا تخفي سياسات المحاور سوأتها، ولا يمكن اعتبارها سياسة بمعنى كلمة السياسة، وبالمقارنة مع واقع الممارسات السياسية عالميا.
لا يمكن الخروج من الفوضى إلى الاستقرار بنشر مزيد من أسباب الفوضى، ولا يمكن تحقيق هدف قطري، دون وضعه في حاضنة إقليمية جامعة، ولا يمكن التعامل مع خارطة مستقبل نظام دولي انفرادي أو تعدّدي، إلا من خلال صيغة شمولية للمنطقة العربية والإسلامية، تكون للمصلحة العليا المشتركة فيها الأولوية على ما سواها، ولإرادة الشعوب المشروعية الحقيقية فوق كلّ شرعية مصطنعة سيّان من يعمل لفرضها عالميا أو إقليميا.
إنّ الخطر لم يعد خطرا قادما، بل هو داخل الحدود، والعواقب لم تعد عواقب محتملة بل ماثلة أمام الأعين وثقيلة على الصدور، ولا يكفي في مواجهة الخطر مجرد الحديث عنه، ولا ينجو منه أحد ما لم يشارك مشاركة مباشرة في التصدّي له بمختلف الوسائل الممكنة، وما يجب إيجاده من وسائل، كلّ حسب موقعه، بعيدا عن كلّ مظهر من مظاهر الأنانيات الذاتية أيا كانت مسوّغاتها الموهومة.
نبيل شبيب