تحليل – تركيا بين الجبهات.. فأين نحن؟
إن غالبنا من منطلق الثورة الشعبية في سورية وأوضاعها يتكلم عن "تركيا" وكأنها منظمة ناشئة، أو جماعة شاردة، أو فريق كروي رياضي
الساسة الأتراك يخطئون ويصيبون، ويمكن أن نتوقف عند الصواب مادحين وعند الخطأ قادحين.. وهذا ما يصنعه بعضنا بمنظور انفرادي، يسميه كل منا على حدة "منظورنا" الثوري في سورية تحديدا! ونادرا من نتساءل: ما الغرض من تعداد وجوه الخطأ والصواب؟
هل هو التوعية كما يقال أحيانا؟ إن كان كذلك، ما الهدف منها.. من يمارسها.. من المستهدف منها؟ ثم أين الخطوات التغييرية العملية المرتبطة بتلك التوعية.. أم أننا نمارس ما نسميه "توعية" كهواية فحسب؟
. . .
بين أيدينا ساعة كتابة هذه السطور آخر لقاء انعقد في أنقرة بين إردوجان وبوتين، وبين أيدينا ما جرى ويجري في ريف حماة وفي دير الزور وفي إدلب، وما صنعه الاستفتاء الكردي في الجوار التركي، وما وصلت إليه أزمة الخليج إقليميا ودوليا، وما بلغته مسيرة توليد ما يسمّى "صفقة القرن" في القضية المصيرية.
بين أيدينا أوضاع إقليمية ودولية ما بين تقلب السياسات الأمريكية والأوروبية والروسية والصينية، وما بين مسلسلات تطويع تونس وليبيا واليمن، وما بين إجراءات تقسيم العراق وسورية، وما بين ضحايا الاستبداد الإجرام في مصر وضحايا انعدام المروءة في بعض مكونات بلدنا في لبنان.. هذا ناهيك عن قضايا فلسطين وأفغانستان وباكستان.
تقويم خطوة سياسية منهجيا لا يكون دون أن يأخذ بالاعتبار المشهد متكاملا، والتوعية السياسية لا تتحقق دون ذلك أيضا.
أما بشأن لقاء أنقرة المشار إليه فيمكن أن نستفيض طويلا في الحديث عن صفقات تسلح تثير حفيظة الغرب، وعلاقات اقتصادية ونفطية تصب في مصلحة روسيا وإيران علاوة على تركيا، أو نستفيض في الحديث حول ترنّح مفعول مسار آستانا على إدلب وأخواتها، وحول الخلاف الروسي التركي بشأن مستقبل كردستان العراق.. ولكن من الذي يستفيض في الحديث، وأين يوظف الحصيلة، ومن أي منظور؟
إن غالبنا من منطلق الثورة الشعبية في سورية وأوضاعها يتكلم عن "تركيا" وكأنها منظمة ناشئة، أو جماعة شاردة، أو فريق كروي رياضي.. وليس كدولة لها حساباتها ومصالحها وسياساتها وأخطاؤها وإنجازاتها، وفيها شعب تحمل الحكومة المسؤولية عنه، ولها أرض معرضة للأخطار من الجهات الأربع.
تركيا تملك قدرات متميزة، ولكن ليس من بينها "عصا سحرية" ولا إمكانات غير محدودة، وهي بسياساتها تواجه أخطارا خارجية وداخلية، وخداع الحلفاء الأعداء، والأعداء الحلفاء، ولا ينبغي أن يزيد على ذلك كله جحودٌ منكر أو أخطاء فاحشة أو تشكيك متجدد أو مطالب خيالية من جانب ساسة أو ثوار أو ما شابه ذلك من سورية المنكوبة بجوارها القريب.
وينبغي أن نراعي أيضا أن اللقاء الأخير الذي انعقد في أنقرة لم يكن لقاء مع "حمامة سلام" أو "سياسي مستقيم"، بل كان مع بوتين المعروف بما هو عليه منذ عمله في المخابرات السوفييتية، ودوره في الشاشان وسواها، وبعد سيطرته على مقاليد سلطة قيصرية، ثم من خلال مشاركته في العدوان الهمجي الإجرامي على شعب سورية.. ولا يخفى جميع ذلك على الطرف التركي، ولكن رغم ذلك: ما الذي يمكن انتظاره من مثل هذا اللقاء وفق المعطيات الحالية دوليا وإقليميا ومحليا، ووفق عناوين أحداث جارية معروفة ما بين إدلب وأربيل، وآستانا وجنيف، وطهران ونيويورك، وواشنطون وبروكسل؟
في هذا الإطار هل يصح مثلا التنديد بالعجز التركي عن وقف مسلسل الإجرام الروسي؟
وبالنسبة إلى إدلب وأخواتها في سورية تخصيصا: هل يوجد ما يمكن أن تعتمد تركيا عليه من مواقف ثورية، حقيقية أو انتهازية، وجماعية أو انفرادية، ليمكن أن تواجه بقوة المنطق والسياسة وما يجري على أرض الواقع، تلك الذريعة الكاذبة المخادعة التي يردّدها الطرف الروسي الآن، ولطالما ردّدها من قبل مع كل نكوص عن تعهدات يعطيها، مرة بعد مرة، أثناء متابعة مراحل طريقه الإجرامي نحو أهداف إجرامية على حساب تركيا وشعب سورية معا؟
. . .
كذلك بمنظور العلاقات السياسية والاقتصادية وكيفية استخدامها في عالمنا المعاصر.. تملك تركيا الكثير من الإمكانات وتكاد تستنفذها أو استنفذت قسطا كبيرا منها في مواكبة السنوات الماضية من الثورة الشعبية في سورية، سواء بمواقفها وإجراءاتها تجاه الدول الغربية وطعناتها في الظهر التركي، أو محاولة توظيف مصالح مادية مغرية لانتزاع ما يمكن انتزاعه من روسيا وإيران.
ما الذي يعينه ذلك بالنسبة إلى الثورة في سورية؟
صحيح أن تركيا وحدها التي تؤوي حاليا السوريين، المشردين، والمهاجرين، وتشكيلاتهم المدنية والسياسية والعسكرية، وصحيح أيضا أن ما تحقق عبر السياسة التركية للوصول بالثورة الشعبية إلى أهدافها قليل، ويبقى أننا نرى التغيير قادم عبر جيل يتابع طريق التغيير بأدواته الأنجع مما كان حتى الآن، ولكن السؤال الحاسم الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا وليس على تركيا والساسة الأتراك:
على من يقع القسط الأعظم من المسؤولية في عدم الوصول إلا للقليل رغم التضحيات والبطولات والعطاءات والمعاناة بلا حدود؟
هل يقع على تركيا أم على من تحتاج سياسة تركيا إليهم ليحملوها وتحملهم؟
ألا تحتاج تركيا إلى سياستهم أن تكون على مستوى الثورة التغييرية التاريخية وشعبها، وإلى فكرهم وتخطيطهم أن يكونوا على مستوى متطلبات العالم والعصر، وإلى قياداتهم العسكرية أن يستوعبوا ما تعنيه مسؤولية القيادة ومواصفاتها وما تفرضه المواجهة العسكرية كتوحيد ألسنتها وصفوفها فضلا عن أسلحتها.. هذا ناهيك عمّا لا تحتاج إليه تركيا ولا الثورة وشعبها، وقد انتشر أكثر من سواه، من ملاسنات تزعم طلب الحق وإظهاره.. فلا تنقطع، واتهامات من كل مستوى بعلم أو دون علم.. فلا تغيب، ومهاترات لا يليق بمن يمارسها أن ينافسوا بمنحدر ما وصلوا إليه منحدرَ مهاترات العدو الهمجي!
لنرتفع إلى مستوى مسؤولياتنا وشعوبنا ومستوى ما تفرضه الأحداث في أرضنا وفي بلادنا وعالمنا وعصرنا، رؤية وأهدافا وتخطيطا وعملا وتواصلا منهجيا هادفا فيما بيننا ومع سوانا.. وآنذاك فقط نكون بعملنا وبمواقفنا وبتحليلاتنا أو عموم كتاباتنا، قوة داعمة لمن يحاول دعمنا جاهدا، كتركيا.. كما أننا سنشكر لها آنذاك أن تحرص وهي تتحرك في قضيتنا على البقاء في حدود تخفيف حدّة "الضربات" لمصالحها، فتلك ضربات تضعفها، ونحن نصنف قضية تركيا أنها من قضايانا أصلا، كما تضعف دورها في العمل لقضايانا الأخرى، لا سيما في سورية المجاورة.. فهل هذا ما يريده بعضنا؟
نبيل شبيب