رأي- مبادرة تحرير طاغية اليمن ٢٠١١م
المبادرة الخليجية وليدة سياسات أمريكية وغربية وخليجية ومخاوف من ثورات شعبية، ووليدة التواطؤ على وأد تحرّر الإرادة العربية
(ما نشهده من المآسي في أرض اليمن، ليس وليد الانقلاب الحوثي بمشاركة رئيس مخلوع فحسب، فهذه محطة من محطات ضرب اليمن وثورته وشعبه، أما المحطة الأولى التي كانت هي المنطلق إلى ذلك فكانت يوم التوقيع على ما سمّي مبادرة مجلس التعاون الخليجي عندما وصلت "ثورة شباب التغيير" الشعبية إلى مداها وأصبح بقاء طاغية اليمن مستحيلا.. والسطور التالية حررت يومذاك)
من أشد ما يستفزّ العقل والوجدان أثناء رصد عملية التوقيع على "المبادرة الخليجية" بشأن ثورة شعب اليمن على الطاغوت المستبدّ فيه، أن يُستشهد بآيات من كتاب الله عزّ وجلّ في التمويه على مخالفة ما يأمر به الله عزّ وجل.
من ذلك مثلا الاستشهاد بمطلع الآية١٠ من سورة الحجرات {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} وربما لم يكن مقصودا عدم تكملة الآية {واتقوا الله لعلكم ترحمون}.. ولكن هل من تقوى الله تعالى القول بتطبيق هذه الآية دون الآية ٩ السابقة لها مباشرة في سورة الحجرات {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}.
لئن كانت السياسة شكلا من أشكال "القتال".. فقد قاتل كثيرون إلى جانب الطرف الباغي ضدّ الطرف الضحية، واتخذت هذه المبادرة مكانها في تلك الجبهة الباغية من القتال؟
ولئن قلنا تجاوزاً إن ثورة شعب اليمن السلمية البطولية على العصابات الطاغية المسلّحة هي مجرّد اقتتال بين طائفتين، أَوَليس من "البغي" الذي يستحق نصرة الضحية ضدّ "الفئة الباغية" ما كان من تقتيل للأطفال والنساء والشباب والشيوخ، لا لشيء إلا لأنهم قاموا لينتصروا لأنفسهم من بعدما ظلموا.. أم أنّه لا ينبغي هنا الاستشهاد بقول الله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} -الشورى: ٤١-
أم أنّ التعامل "السياسي.. والإنساني" -ناهيك عن الإسلامي الواجب- مع استكبار الطاغية بارتكابه ما ارتكب من ظلم حرّمه ربّ العزة على نفسه وعلى عباده وفق الحديث القدسي.. كان يستدعي من العاملين لإنقاذه وعائلة الفساد التي حكم من خلالها، أن يطلبوا من شعب اليمن المؤمن الأبيّ، أن يخالف أيضا أمر رب العزة فيخضع للظلم والجور والفساد ولا يستشعر ما يعنيه التحذير من النار {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تُنصرون} -هود: ١١٣-
لقد اعتمد تمرير المبادرة والوصول بها إلى لحظة التوقيع في "احتفال مهيب" على إعطاء الطرف الباغي القاتل المسلّح الفرصة لشهور عديدة ليتابع ممارسة القتل في الشوارع والساحات، بالرشاشات والمدفعية والطيران، بهدف تركيع شعب ثائر لم يركع، أو على الأقلّ لانتزاع موافقته على ترك المجرم دون قصاص، ولم يفعل، وذاك ما لم يجد سبيله في "حفل التوقيع" إلى الاستشهاد بآية من كتاب الله عزّ وجلّ تخاطب أولي الألباب تحديدا وتقول: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} -البقرة: ١٧٩-
. . .
كلا.. لا علاقة لهذه المبادرة وما يراد منها بالقرآن الكريم، وبما يقرّره من أحكام، ولا بالإسلام العظيم، وما يوجبه من عدل بين الناس، وأمانة في الحكم، وتحريم للظلم، وتحرير لعبادة الله من جميع أشكال الاسترقاق والاستغلال والإذلال والطغيان.. ولجميع ذلك آيات وأحاديث لمن يريد الاستشهاد بها إذا توافر الحرص على عباد الله، وطاعة ربّ العباد فيما يصلح لشؤون العباد، ولا يصلح لهم وجود حاكم رغم إرادتهم، ولا مجرم يوزّع السلاح والمناصب على أفراد عائلته وأتباعه لحراسة تسلّطه وتقتيل الشعب الذي تعرّض لبغيه وفجوره في نهب ثرواته، وتمزيق عرى وحدته، وتسخير أرضه لخدمة مطامع أعدائه.
لا علاقة لهذه المبادرة بآيات الله تعالى، وكان الأولى بهم أن يستشهدوا بسياسات أمريكية وغربية، وبسياسات خليجية وإقليمية، وبمخاوف من ثورات شعبية، وبالتواطؤ على وأد ربيع تحرّر الإرادة العربية، الشعبية والسياسية.. ولا أهمية لديهم بعد ذلك للشهداء وذويهم، والجرحى وآلامهم، والحرمان لعشرات السنين من مختلف أسباب المعيشة الكريمة، والحقوق المعنوية والمادية، والحريات الثابتة الأصيلة.
ولا ينبغي اتهام من وضع المبادرة وسعى لفرضها وهو يعلم أنّ شعب اليمن الثائر يرفضها، ومرّر التوقيع عليها متزامنا مع استمرار أعمال القمع والتقتيل والتدمير في أرض اليمن.. لا ينبغي اتهامهم بالجهل بحقيقة استمرار ثورة الشعب الرافض لإفلات مرتكب الجرائم من العقاب، والرافض لتسليم السلطة إلا لمن يختاره الشعب ويطمئنّ إليه، وكأنّهم يضعون في حسابهم أن يخوضوا مباشرة أو من خلال الدعم من وراء ستار، جولة تالية من جولات قمع الثورة بالحديد والنار، ليتولّوا هم -بعد سقوط رأس الطغيان- جبهة مواجهة الشعب الثائر في كل مدينة وقرية، وكل حيّ وساحة.
ولا توجد فرصة لنجاح محاولة جديدة لإجهاض الثورة، وإن تمّ تزيينها بإبعاد رأس الفتنة "جغرافيا" مقابل إفلاته من العقاب، بل ومقابل الإبقاء على أسلحته ومن يستخدمونها في مواقع التقتيل والتدمير كما كانت.. وكأنّ بقاءها -ولو حينا من الزمن- هو الضمان في نظرهم لفرض تنفيذ بنود المبادرة بالقوّة، وإيجاد بنية هيكلية جديدة لاستمرار الظلم القديم برداء جديد.
. . .
ليس ثوار اليمن في حاجة إلى من يبصرّهم ويوعّيهم ويرشدهم، فقد أثبتوا خلال عشرة شهور مضت على إطلاق شعلة التحرّر في بلدهم، أنّهم هم الذين يتمتّعون، رجالا ونساء، شبابا وشيبا، بدرجة عالية من الوعي واليقظة والبصيرة والحكمة البالغة، وهم الذين تجاوزوا العقبات، والمطبات، والاستفزازات، والإغراءات، والمرهبات، ومضوا على طريق التحرّر بثورتهم، وبتلاقيهم من أقصى البلاد إلى أقصاها على طريق هذه الثورة.. ولسوف نشهد مثل ما شهدنا يوما بعد يوم حتى الآن:
– ثوار اليمن ماضون وإن طال الطريق وعظمت التضحيات.. حتى يتحقق هدف إسقاط النظام بقضه وقضيضه وبجميع ما يرتبط به وينتمي إليه.. ثم هدف إقامة الدولة التي تحكم فيها إرادة الشعب.. وهذا ما تفرضه آيات الله عزّ وجل.
– ماضون.. حتى تقع قبضتهم على أعناق من ارتكب الجرائم بحق شعب اليمن، ويحاكمهم بالعدل كما أمر الله، فلا أحد يملك "العفو" عن المجرم، إلا الضحايا من شعب اليمن.. وهذا ما تفرضه آيات الله عزّ وجل.
– ماضون.. على طريقهم، واعين بما يجري حولهم دأخل أرضهم وخارجها، وما يحاك لهم ولبلدهم وللمنطقة بأسرها.. وهذا ما تفرضه آيات الله عزّ وجل.
– ماضون.. يدا واحدة، ولن ينزلق فريق منهم إلى القبول بمغريات أو الخشية من مرهبات، فتمزيق الصفوف في مقدّمة أهداف التحركات الجارية على حساب الثورة في المرحلة الراهنة، وتمزيق الصفوف هو المدخل الأخطر للقضاء على فريق بعد فريق، لدى من يتوّهمون إمكانية إجهاض الثورة "بالتقسيط" بعد عجزهم لعشرة شهور عن قمعها وإخمادها دفعة واحدة.. ووحدة الصفوف في مقدمة ما تفرضه آيات الله عزّ وجلّ.
– ماضون.. وهم يستشهدون بكتاب الله عزّ وجل:
{الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} -آل عمران: ١٧٢ و١٧٣-
نبيل شبيب