ذاكرة شخصية – مخابرات (٣) جاسوس على المصلين

لا يمارس أولئك المخبرون المنحرفون التجسس المقيت إلا عبر استغفال الضحية.. فلا بد من الوعي والبصيرة

36

يقال: من رأى العبرة في غيره فليعتبر.. وأردت تطبيق هذه القاعدة، في التعامل مع أحد مخبري السفارات الذين كانوا يتردّدون على مصلانا الصغير في بون، عسى تكون في ذلك العبرة لسواه.

اخترت لهذا الغرض مخبرا ليبيا كان الأوقح من سواه في تجسسه على المصلين، إذ كان يقف بعد الصلاة بين من يختارهم ليكونوا الضحية التالية من بين أهل "بلده"، ومعظمهم من "المرضى" تحت العلاج، وربما لم يعرفوا بوجود مصلى آخر غير مصلانا، فليس مؤكدا أنهم كانوا يقصدونه تحديدا للاستماع لخطبة "سياسية"، وهي محرمة في عرف الطغيان في ليبيا – وأقرانه – آنذاك.. فالمسجد عندهم إما أن يكون ساحة لتمجيدهم الكاذب على ألسنة صنائعهم، والتضليل لتجنيد من ينخدعون بهم، وآنذاك لا يحظر الحديث السياسي في خطب الجمعة ولا سواها، وفيما عدا ذلك يجب في عرف الطغيان أن يقتصر الحديث في المسجد على أمور بعضها من الإسلام، ولكن رب العالمين لم يعطها إلا مكانة متأخرة بالمقارنة مع القضايا الكبرى للأمة والمجتمع والفرد، ومن ذلك تحريم الظلم والفساد، وواجب الجهر بالحق دون خوف ولا خشية من أحد من خلق الله، وهذا بعض ما يعنيه تأكيد مقام العلماء كورثة للأنبياء، فهو ليس للتبجيل والاحترام فقط، بل يأتي ذلك نتيجة لأداء الأمانة الكبرى وتبليغ رسالة الوحي الرباني؛ ولينظر من شاء في القصص القرآني ليعلم أين هو محور الرسالة وأين موقع تفاصيل الأحكام الفقهية من ذلك.

. . .

كان ذلك المخبر الوقح يعتمد على عامل الثقة الذي جمعه في مكان الصلاة بأولئك المصلين الليبيين العابرين تخصيصا، أي من المرضى تحت العلاج في بون، فيطلب ببساطة التعرف عليهم، ويسجل أسماءهم وأرقام هواتفهم وعناوينهم.. ليمارس ما يمارسه من فساد في تقارير يعلم الله ما يكتب فيها!

الأصل في المخابرات الدستورية: حماية الوطن من الأخطار، أما عناصر المخابرات المنحرفة، فعبيد لسادتهم، يفقدون فيها انتماءهم للوطن. ولا يحسّون بوخز الضمير عندما يتعمّدون إيذاء الأبرياء من أهل ذلك الوطن!

كان ذلك العنصر من هذا الفصيل.. فحذرته في حديث جانبي من مغبّة عمله، وأنذرته بلطف أن يكفّ عن ذلك، فأنكر أنه من المخابرات أصلا، فذكرت له اسمه ومسقط رأسه وقرابته العائلية مع القذافي المستبدّ، علاوة على قربه منه ومن أفاعيله، ولم يرتدع. 

. . .

بعد صلاة الجمعة التالية دخلت في حلقة جمعها حوله، وفيها من المصلين من المرضى الليبيين من فيها، فقلت أريد أن أعرّفكم ببعضكم بعضا، فلان طبيب يتخصص، وفلان طالب هندسة، وهذا مريض تحت العلاج لا أعرف اسمه… وجاء دوره فقلت: وفلان من البلدة الفلانية في ليبيا، وهو عنصر في المخابرات الليبية، يعمل حاليا في التجسس على المصلين من المرضى الليبيين في هذا المصلى الصغير في ألمانيا..

استشاط غضبا وأحدث ضجة، ولكن غاب بعد ذلك ولم يعد! 

لا يمارس أولئك المخبرون المنحرفون التجسس المقيت إلا عبر استغفال الضحية.. فلا بد من الوعي والبصيرة سلاحا يمنع الغفلة، كيلا يكون البريء ضحية للذئاب. 

. . .

قلت في نفسي سيلحق به الآخرون من صنائع بعض السفارات العربية في بون، فلم يفعلوا.. لا بدّ إذن من أسلوب آخر للتعامل معهم.

نبيل شبيب