خواطر – خلل في تكويننا المعرفي

معذرة.. إن طال عليكم الكلام في هذا المقال المختصر

39

كانت الصحف والمجلات الورقية والمواقع الشبكية الإعلامية تذكر أرقاما بين ١٢٠٠ و١٥٠٠ كلمة لطول المقال التحليلي الصالح للنشر.. وبين أيدينا اليوم "تغريدات" لا ينبغي أن تزيد الواحدة منها على ١٤٠ إشارة (حروف وفراغات) أي ٥٠ – ٦٠ كلمة لتجد من يقرؤها، وكلما ظهر في بعض ما يوصف بوسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما "فيس بوك" مقال باللغة العربية يتجاوز ١٥٠ أو ٢٠٠ كلمة، جاء تعليق ينصح صاحبه بضرورة أن يكون المقال "قصيرا كي يقرأ أصلا.

من جوانب المشكلة.. أن مثل هذا القول "قد" يصح في وسيلة ما مثل "فيس بوك" ولكن يعمم دون قصد على مختلف وسائل النشر.

نعلم من البلاغة العربية بمقولة "البلاغة في الإيجاز"، ونعتبرها بدهية، مع أننا نعلم أيضا أننا نحتاج إلى سور البقرة وآل عمران والنساء مثلما نحتاج إلى المعوذتين والصمد من كتاب الله المعجز.

أين الخلل إذن في تعاملنا مع الكلمة في العالم الافتراضي، علما بأنه يضم – في أنحاء العالم وليس باللغة العربية فقط – مواقع يغلب عليها نشر المختصر الموجز وأخرى يغلب عليها نشر المطوّل مما يكتب، بما في ذلك الكتب؟
بداية ينبغي أن نستحضر أن "تحديد؛ عدد الكلمات والحروف في وسائل الإعلام التقليدية من قبل لا يعود إلى دعوة مقصودة لقراءة "القليل"، ولم يمنع استمرار انتشار الكتب والمجلات الورقية الرصينة، بل يعود في الدرجة الأولى إلى مقتضيات حدود المساحة المتاحة للطباعة، ويسري شبيه ذلك على وسائل النشر الشبكية، مراعاة للحد من حجم المساحة المطلوبة للتخزين "الإلكتروني".
المهم.. أننا نجد في العالم الافتراضي – عالميا – المطول والمختصر مما تخطه الأقلام وتجتهد العقول في إبداعه، ونجد أيضا ما يستحق القراءة من المطول.. ومن المختصر، مثلما نجد ما لا يستحق القراءة من المطول.. ومن المختصر. ولكن.. لا نكاد نرصد – إلا في العالم الافتراضي "العربي"- وجود من يحتج على المطول ويطالب بالاختصار أو توزيع المقالة الواحدة على فقرات عديدة منفصلة عن بعضها بعضا، لتنشر في بنود متتابعة منفصلة عن بعضها بعضا، بدلا من نشرها في بند واحد، وإن كانت تتناول موضوعا "واحدا" ومهما، يشمل بطبيعته جوانب متعددة يكمل بعضها بعضا، ويسيء للكتابة فيه "تفتيته" إلى أجزاء صغيرة. 
إن من يحترف الكتابة يعلم أنه توجد فعلا أفكار يحسن سبكها في عبارة واحدة أو بضع عبارات، مثلما يوجد ما لا يمكن أن يطرح طرحا جادّا هادفا ومفيدا إلا في بضع صفحات أو بضعة فصول في كتاب، وأحيانا في عدة مجلدات.

 

ليست مشكلتنا إذن مع "الأقلام" بل مع أعين القراء الكرام.
إن العزوف عن القراءة "مرض ثقافي فكري" قديم، نساهم بمقولات من قبيل "اختصر ما تكتب" في نشره بدلا من علاجه، فكأننا نقول "لا تقرأ إلا قليلا".. إمعانا في التأويل الفاسد لعبارة "نحن أمة أمية لا تقرأ"!

إن تكويننا المعرفي.. والعلمي.. والثقافي.. ومضاعفة وعينا السياسي والاجتماعي والقيمي.. وكذلك واجب تلاقينا على رؤى مشتركة ومناهج متكاملة للنهوض، يحتاج إلى العبارة الواحدة، وإلى الخبر، وإلى المقالة التحليلية، وإلى الدراسة، وإلى الكتاب.. يحتاج إلى المختصر وإلى المطول، دون أن يكون في المختصر نقص في عرض المطلوب، ولا في المطول زيادة من قبيل "حشو الكلام".
أما أن ننشر الدعوة إلى شيء من ذلك دون استكماله بسواه، فإننا نساهم من حيث لا نقصد غالبا، في نشأة ثغرات خطيرة في هذا التكوين الذاتي الضروري على المدى القريب والبعيد، ونساهم في ترسيخ "التخلف" المترتب على "العزوف عن القراءة" في عالم حقيقي.. وفي العالم الافتراضي على السواء، وقد لا يقصد بعضنا ذلك، ولكن العبرة في الانطباع الذي بات ينتشر ويتحول إلى "سلوك" في نطاق جيل المستقبل.. جيل التغيير.
وتكفي الإشارة من باب "الإيجاز" إلى ساعات طوال يقضيها الشباب والناشئة نتيجة الترويج والفراغ على ألعاب إلكترونية لا يمكن وصف أكثرها بالهادفة، ونحن نضنّ عليه، وأصبحنا ندعوه أن يضنّ على نفسه بساعة أو أقل يقضيها على قراءة مقال تحليلي.. ناهيك عن دراسة أو كتاب.

. . .

معذرة.. إن طال عليكم الكلام في هذا المقال المختصر.

نبيل شبيب