غرباء

ما الذي غلب عليه، الاكفهرار، الغضب، الانزعاج، الألم؟.. كلّ ذلك ومزيد عليه

113
مرآة مقعرة

ــــــــــ

– يا أخي العزيز.. أنت في مركز جيد، ودخلك ممتاز، وعملك مستقر، وأسرتك بخير.. لا أستطيع فهمك كيف تتخلّى عن ذلك كله دفعة واحدة؟
لم يرفع عبد الرحمن رأسه عن الأوراق التي يقلبها أمامه، فيرمي بعضها في سلة المهملات، ويوزع بعضها الآخر على عدد من المصنفات التي وضعها حوله فأحاطت به وبأوراقه، بينما جلس صديقه مصطفى على مقعد وثير اعتاد الجلوس عليه، يتحدث ويقلب برامج التلفاز عن بعد، وليست هذه هي المرة الأولى التي يطرح فيها هذا السؤال، ويتلقى الإجابة نفسها:
– كل هذا جيد وجميل.. ولكننا في غربة، وأنا ذاهب إلى بلدي وأهلي، فكيف لا تفهمني وأنت تعرفني منذ عشرين عاما وتعرف كيف أفكّر!
– بلدي وأهلي!  وإذا ذكرتك بأنك لست من أهل الخليج بل من فلسطين، جاء الجواب عينه ” كل بلد عربي أو إسلامي بلدي، وكل المسلمين أهلي”.. كفاك مثاليات، وانزل من برج أوهامك إلى الواقع.
– الواقع! الواقع عندي أنني جراح أتقن مهنتي، ويعلم كثير من أهل الخليج ذلك، وعلى الأقل مَن يأتيني منهم هنا كما يأتيك ويأتي إلى زملائنا بغرض العلاج في هذا البلد رغم النفقات الكبيرة، فعلام لا أذهب إليهم وأشتغل بينهم!
قال مصطفى وعيناه على الشاشة الصغيرة كمن يقدر أنه لا جدوى من الحديث على كل حال:
– لن يعترف أحد بقدراتك المهنية ببساطة، فلا تبنِ على الرمال قصور الأحلام..
توقف عبد الرحمن فجأة عن تقليب الأوراق، ورمى ببصره نحو صديقه الذي التفت إليه أيضا وقد اختلط شعاع أمل بنظرة التساؤل في عينيه، ولكن عبد الرحمن قال فجأة بلهجة حادة:
– أنت أناني!
وفغر مصطفى فاه مدهوشا:
– ماذا؟
وتابع عبد الرحمن قائلا باللهجة الحادة نفسها:
– لا تريدني أن أسافر كيلا تشتاق لي، لا أكثر ولا أقل!
ومضت لحظة أو لحظتان قبل أن ينفجر الصديقان ضاحكين.. مرة أخرى يقع مصطفى في المقلب، ولا يكتشف دعابة صـديقه إلا بعد فوات الأوان، وهو لا يغير أسلوبه واصطناعه الجد في هزله، وليست هذه وحدها الصفة التي تحببه فيه، فطيب معشره، وكريم أخلاقه، ورقة حديثه، واهتمامه بكل من يجالسه، جعلت منه حديث تلك العصبة من الأطباء العرب في مدينة بون، ومستشفاها الجامعي الشهير، ولم تنقطع جلساته معهم، ولا الزيارات المتبادلة، رغم وصوله دون سواه إلى منصب رئاسة قسم كبير في المستشفى الجراحي، ولم يكن له ذلك لولا دأبه على متابعة كل جديد في مهنته، ومشاركته في كل مؤتمر في اختصاصه، ومتابعته بحوثه إلى جانب مزاولته الجراحة، ولا غرابة في أن يكتسب احترام زملائه الألمان لمكانته وتفوقه في مهنته فحسب، بل وأن ينتزع ودهم أيضا ببشاشته وتواضعه للصغير والكبير منهم، حتى بدا أنهم أشد من زملائه العرب انزعاجا من خبر سفره القريب.
وقطع عبد الرحمن عليه حبل أفكاره بقوله:
– ما رأيك يا مصطفى، إذا ثبت أن تشاؤمك في غير مكانه، واستقر بي المقام، أن أسعى لتأتي وتعمل معي هناك؟
ولم يتردد مصطفى في الجواب:
– يعلم الله أنني أشد منك رغبة في الاستقرار في بلد عربي، فنحن هنا غرباء.. وسنبقى غرباء، ولكن أبقى عند رأيي، وأحسبك ستعود بعد شهور وربما سنة على الأكثر.
وابتسم عبد الرحمن ابتسامة الواثق من نفسه وأشار بيده إلى جيب سترته وقال متعمدا الإثارة:

– ولكن لدي عقد عمل لخمس سنوات قابلة للتجديد، وأنوي تجديدها، مرة ومرات.
وهم مصطفى بالجواب عندما قُرع الباب، فنظر إلى صديقه متسائلا إن كان ينتظر زائرا، فرأى في عينيه علامات التساؤل أيضا وهو يتوجه نحو باب المنزل، فيغيب عن الغرفة، ويطول غيابه، حتى بدأ الشك يساور مصطفى، وعاد أخيرا فدخل الغرفة بخطوات متثاقلة بطيئة تتنكر لقوة الشباب في جسده وتدفقه بالحيوية والنشاط، ووصل إلى مقعد قريب فجلس، أو ارتمى عليـه، ولم يملك مصطفى إلا أن يفغر فاه دهشة وهو يرى على وجه صديقه ما لم يره من قبل، فلا يدري ما الذي غلب عليه، الاكفهرار، الغضب، الانزعاج، الألم.. كل ذلك ومزيد عليه في خليط من رعشة على شفتيه، ونظرة زائغة في عينيه، ولمح مصطفى فجأة الورقة التي أمسك بها عبد الرحمن بكلتا يديه، وأوجس في نفسـه أنه تلقى خبرا بمصاب جلل، ولم يعرف كيف يواسيه، أو فيم يواسيه، وما عرفه في مثل هذه الحال قط من قبل، فالتزم الصمت لحظات ثم قال:
– عبد الرحمن..
وأمسك، ورفع عبد الرحمن رأسه وتوجه ببصره إليه ولكن مضت نظراته في الفراغ بعيدا عنه، وخشي مصطفى من سؤاله عما به، فبقي ينتظر حتى خرج بنفسه من ذهوله قائلا:
– هل تتصور ما جاء في هذه الرسالة المسجلة؟
وازداد تلهف مصطفى على معرفة الخبر ولكنه بقي صامتا ينتظر.
– إنها من مدير المستشفى.
وتنفس مصطفى الصعداء، لا مصاب إذن ولا ما يحزنون، بل قد يكون في الرسالة خبر سار له وإن لم يسر صديقه، وقال وفي صوته نبرة ارتياح أقرب إلى الشماتة:
– هل يخبرك بإلغاء العقد؟
– كلا، بالعكس، هي رسالة في غاية التهذيب، ويؤكد أنهم ينتظرون قدومي لاستلام العمل بعد أسبوعين.
وسيطر الاستغراب على مصطفى من جديد وقال بارتياب ظاهر:
– ما الذي يزعجك إذن؟
ونظر عبد الرحمن إلى صديقه وقد استعاد هدوءه، ولكن بدا في كلامه كأنه لا يصدق ما يقوله بنفسه:
– يقولون إنهم أخطؤوا في كتابة العقد، والقانون يلزمهم بتعديله.
وسكت مجددا فاستعجله صديقه بقوله:
– أخطؤوا؟ حسنا ما الذي أخطؤوا فيه؟
– بسبب جنسيتي الألمانية، اعتقدوا أنني ألماني الأصل، ثم لاحظوا أنني عربي حصلت على الجنسية الألمانية فحسب.
وتساءل مصطفى حائرا ومتهكما:
– وماذا بعد؟ هل يريدون جراحا متخصصا أم خبيرا لغويا؟
– كلا.. ولكن الأنظمة تقرر أن يكون راتب الطبيب العربي أقل من راتب الطبيب الأجنبي.
وأمعن مصطفى النظر في وجه عبد الرحمن حتى استوعب ما قال، ثم قال ممازحا:
– ما كنت أعرفك تحب المال إلى هذه الدرجة.
– أحب المال؟ لو كنت كذلك ما وقعت العقد أصلا، فأنت تعرف ما أحصل عليه هنا.
وتهللت أسارير مصطفى فجأة كمن اكتشف أمرا مفرحا وقال:
– لن تذهب إذن؟
وانتصب عبد الرحمن على قدميه ناظرا إلى المصنفات والأوراق المنتشرة على أرض الغرفة، ثم تمتم كمن يحدث نفسه:
– ليس هذا ما أفكر به، بل يشغلني هؤلاء القوم وكيف يفكرون ومتى يصبحون سادة أنفسهم ويخدمون أهل بلدهم.
نظر إليه مصطفى نظرة فاحصة غير عابئ بما يقول، وباحثا في وجهه عن جواب السؤال الآخر الذي يشغله، فردد مرة أخرى:
– المهم.. أخبرني، هل ستذهب أم ستبقى هنا؟

نبيل شبيب