تحليل – قضية المرأة هي قضية الإنسان

المرأة في وعينا المعرفي جزء عضوي من المجتمع أصلا، وهي مكرّمة عبر تكريم الإسلام لجنس الإنسان، نساء ورجالا على السواء

41

أوّل محور لصناعة إنسان التغيير هو محور نشأة فتياتنا وشبابنا في منظومة الأسرة نشأة قويمة متوازنة لا تنطع فيها ولا تسييب، فقد اندلعت الثورات الشعبية العربية، الشبابية في الدرجة الأولى، في لحظة تاريخية سجلت نهاية تصورات كانت واسعة الانتشار حول أن جيل الشبيبة قد حُرم لعشرات السنين من مختلف أسباب الرؤية المستقبلية، والتربية والتوعية، وإعداد الكفاءات، والإبداع في العطاءات، ناهيك عن الاستعداد للتضحية بلا حدود من أجل بناء مجتمع الحرية والكرامة والعدالة، فكان لا بد من التساؤل: أين تكوّن هذا الجيل؟ ولا جواب على ذلك سوى: الحاضنة الأسروية.

ونحمل اليوم مسؤولية تحريك عجلة التغيير عبر ما يدعم الحاضنة الأسروية، اعتمادا على رؤية تضع حدا لجدل طويل تركز على المرأة ومكانتها وقضيتها وحقوقها، وعلى توهمنا أن هذه قضية قوالب مستغربة مستوردة للتعامل معها.

كلا.. إن المرأة في وعينا المعرفي جزء عضوي من المجتمع أصلا، وهي مكرّمة عبر تكريم الإسلام لجنس الإنسان، نساء ورجالا على السواء.

 

قضية المرأة هي قضية الإنسان

نحن مقصرون في حق المرأة في مجتمعاتنا.. مقصرون في حقها ربّة بيت أو عاملة، ناشطة في المجتمع أو منزوية على نفسها، مقيّدة دون مبرّر أو رائدة في شتى المجالات.. وغافلون عن أن جميع ما يضيرها يضير المجتمع، كما أنّ ما يضير المجتمع يضيرها، فهو قائم عليها وعلى الرجل معا.

ليس صحيحا أنّ الظلم الأكبر الواقع على المرأة هو ظلمها في ميدان حقوق سياسي أو ميادين عمل، بل الظلم الحقيقي هو ألاّ يجد صاحب الحق حقه، أيّاً كان موقعه وأيّاً كان الحق الذي استُلب منه، ومثل هذا الكلام يسري على الرجل كما يسري على المرأة، فلا ينبغي تمييزها عنه ولا تمييزه عنها.. 

ومن المنطلق الإسلامي أصبح فينا من تتحوّل كلمات القرآن الكريم لديه إلى المعنى الذي يهوى، لا المعنى الظاهر في اللفظ، الثابت في التفسير، المعروف عند الأصوليين.. فنتلو يا أيها الناس.. يا أيها الذين آمنوا.. يا أيها الإنسان.. يا بني آدم.. ونتداول ذلك في أحاديثنا ومواقفنا وكتاباتنا –قاصدين أو غير قاصدين- وكأنّنا قرأنا أو سمعنا: يا أيها الرجال، فقط!

لا يسوغ هذا فكلام الله تعالى مطلق غير مقيد، عام غير مخصص، فلا تقييد إلاّ بنص شرعي ولا تخصيص دون قرينة بيّنة، أمّا أن نعكس القواعد الأصولية ونجعل الكلام مقيدا مخصصا وفق أهوائنا فهذا يخالف النصوص وقواعد الاستنباط، ويدخلنا في سبل التأويل المتشعّبة وأنفاق التنطّع المظلمة. 

لا يصحّ تشنّج أدعياء الدفاع عن المرأة وهم يتحدّثون عن حرمانها من حقوقها، ولا تشنّج من يزعم أنّ الإسلام يحرّم عليها ذلك تخصيصا، كما لو أن النصوص تقصد المرأة دون الرجل في تحريم الخبائث أو تحريم الاختلاط -إذا استوفى شروط التحريم- أو تحريم الغش، أو عند المطالبة بإتقان العمل، وسوى ذلك من فروض وواجبات والتزامات حيثما غابت قرينة من نص شرعي يخصص حكما من الأحكام بالمرأة أو يخصصه بالرجل.

ومن أخطر ما ذهبت إليه "حركات نسوية" منحرفة واستدرجت به خصومها إلى أخطاء جسيمة هو ما كان تحت عنوان "تحرير المرأة"، وقد تركز على فوضى العلاقات بين الجنسين، بدعوى مواجهة "الكبت الجنسي".. بينما تشهد الأرقام الرسمية على ارتفاع نسب الاعتداءات الجنسية بجميع درجاتها بعد انتشار الإباحية الجنسية، جنبا إلى جنب مع تقويض كيان "الأسرة" كحجر أساس في بناء المجتمعات، حتى بدأت تلك المجتمعات تنقرض سكانيا عاما بعد عام.

 

التكافؤ.. مبدأ شامل لجنس الإنسان

كل من يتصدى بفكره أو عمله لا سيما في مؤسسات تأهيل إنسان التغيير أو يتصدى من موقعه في صناعة القرار، لبناء إنسان التغيير في واقع مجتمعاتنا الحالي، مسؤول عن الانطلاق في قضية المرأة باعتبارها جزءا من قضية الإنسان وتنمية قدراته فردا، وقدراته كلبنة من لبنات المجتمع، وأن يعمل على اعتماد مبدأ التكافؤ، وهو أرقى من مبدأ المساواة بمراحل، شريطة مراعاة اختلاف القدرات الفعلية بين رجل ورجل، وبين امرأة وامرأة، وبين رجل وامرأة، أي بين جميع الأفراد، على حسب مؤهلاتهم الذاتية والمكتسبة والظروف المتقلّبة حولهم، دون تمييز تعميمي ما بين فئة وفئة.

إنّ تضييع مبدأ التكافؤ هو في صلب مشكلات عدم تحقيق المساواة في ظلّ حضارة قائمة على "الصراع"، حيث تضيع الحقوق رغم تثبيتها نظريا وتقنينها، بسبب عدم امتلاك أسباب القوة لتحصيلها.

بالمقابل لا ينبغي أن تغيب "المساواة" في المنظومة القيمية للمجتمعات، وهذا ما عرفناه فيما رسّخه القرآن الكريم أصولا تشريعية ثابتة، ممّا لم يسبق أن أخذت به تشريعات وضعية، شكلا ولا مضمونا، ومن ذلك المساواة في الكرامة الإنسانية وفي المسؤولية الفردية، فالإنسان -ذكرا أو أنثى- آتيه يوم القيامة فردا.. والمساواة في الحقوق المادية أو "العطاء الرباني" وفق الصيغة الشاملة الواردة في سورة الإسراء، وبالتالي رفض أي تشريع قانوني يمنع شيئا من ذلك عن أي إنسان، إناثا وذكورا.

لا يفيد ولا يكفي تكرار الإنكار أو التنديد بما صنع "الآخرون" حتى وصلت مجتمعاتهم إلى انتشار الأمراض الاجتماعية والنفسانية في "جيل مستقبلهم"، إنما المطلوب في بناء إنسان التغيير في مجتمعاتنا أن نتخلّص من أساليب الاعتذار بظروفنا الآنيّة لتعطيل أحكام شرعية بذرائع لا تصح مضمونا ولا استنتاجا، ومنها الزعم أن ظروف المجتمع المسلم الأول كانت "أفضل" للمرأة تحديدا وأن أخطار الإساءة إليها اليوم أكبر، فما انتشر بهذه الذريعة من تأويلات للنصوص الشرعية يتناقض مباشرة مع تطبيقها النبوي، فمحمد صلى الله عليه وسلم:

– لم يتردّد عن استشارة المرأة أم سلمة، والأخذ برأيها في قضية سياسية كبرى، كقضية التعامل مع "المواطنين" في صلح الحديبية، وكانت في لحظة أزمة تاريخية..

– ولم يمنع المرأة نسيبة من أداء دورها في ساحة الحرب يوم كان قائد المعركة في غزوة أحد يتلفت يمنة ويسرة فلا يرى سواها تذود عنه بسيفها، ولم يقل إنها "جوهرة مصونة" وكأنها ليست إنسانا بل مجرد "قطعة للزينة"..

– كما أشاد بدور المرأة سميّة، في مرحلة كانت "معارَضة السلطة" فيها تسبب الاعتقال والتعذيب والقهر والقتل..

– وائتمن المرأة أسماء الفتاة الشابة ذات النطاقين على "سرّ طريق الهجرة"، وعلى تأمين الزاد وإن تسبّب ذلك ما سببه من أذى أبي جهل..

– ولم يشرّع "حبس المرأة في بيتها" بسبب ما تعرّضت له إحدى الصحابيات من أذى يهود في المدينة المنورة..

ولا نغفل عن نموذج المرأة المجادلة علنا، ونموذج الفتاة المعترضة علنا على تزويج أبيها لها دون استشارتها، بينما نشهد حاليا كيف أصبح تطبيق "سدّ الذرائع" تطبيقا خاطئا، بابا من أبواب نشر الوهم بأن تلك الممارسات النبوية تصلح لزمان دون زمان.. فهذا ما يعنيه مثلا زعم من يقول إنّ في المؤسسات السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها من ميادين العمل في عالمنا وعصرنا مهاترات لا تليق بالمرأة المسلمة –فهل تليق بالرجل فقط- ولتبق في بيتها إذن وليتحرّك سواها من غير الملتزمات، أو لنشرع دون علم أو هدى ما يتعارض مع وصف "المؤمنين والمؤمنات" بشأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله..

كلا لن نكون عبر التشدّد والتنطّع أحرص على المرأة المسلمة، أو أي امرأة مواطنة في بلد إسلامي، أكثر من حرص الإسلام وأحكامه السويّة عليها!

نبيل شبيب