تحليل – الخروج من موبقات معضلة الفوضى الهدامة
"غرباء" يشذون عن مسار الانحناء لموبقات الفوضى الهدامة، لأنهم يضعون أنفسهم وطاقاتهم وأطروحاتهم في خدمة الحق والعدل والإنسان
نواجه عبر اللعبة الدولية الدموية عل محور محاربة الإرهاب ومكافحة دعمه وتحت عناوين حقوق الإنسان والدفاع عنه، ما وصل إلى مستوى نشر الفوضى الهدّامة الحافلة بالتقتيل والتشريد والتعذيب والتدمير واستهداف الدول والمجتمعات والإنسان الفرد، دون رقابة ولا محاسبة، بأبشع الصور وعلى أوسع نطاق، لا سيما ما بين المحيطات الثلاث في المنطقة الإسلامية، وبما يهدف حاليا على وجه التخصيص إلى الحيلولة دون سلوك طريق تغيير يكتب صفحات حقبة حضارية قويمة في خدمة الإنسان والبشرية، بعد أن أطلقت الانتفاضات الفلسطينية والثورات الشعبية العربية مؤشرات ولادتها.
أين يكمن العنصر الحاسم في هذا التطوّر الفوضوي البالغ الخطورة؟
كيف يجري تسويق الإرهاب بدعوى مكافحته، والتقتيل إلى درجة الإبادة بدعوى محاربته، وتقويض أسس حماية حقوق الإنسان بدعوى الدفاع عنها؟
. . .
لم يعد مجهولا أن "النظام العالمي" قام منذ الحرب العالمية الثانية على معادلة "الهيمنة والتبعية" فرسّخ شرعة الغاب في واقع العالم المعاصر، إنما بدأت تظهر معالم انهيار دعائم هذه المعادلة منذ نهاية "الحرب الباردة"، ومنذ ذلك الحين تصاعدت الممارسات العدوانية الدولية لمنع هذا الانهيار حتى تحولت إلى استماتة إجرامية علنية لا مواربة فيها ولا حياء، وبات معظم تلك الممارسات يحمل عناوين تضليلية، أبرزها للعيان "حماية حقوق الإنسان والأقليات عبر انتهاك سيادة الدول" وعنوان "الحرب على الإرهاب ودعمه".
مثال مبدئي من البلقان:
في البلقان اصطُنعت "سابقة قانونية دولية" لطرح الدفاع عن حقوق الإنسان دافعا مشروعا لانتهاك سيادة الدولة على النقيض ممّا تقرره المواثيق الدولية.. والحجة "منطقية ومغرية" ظاهريا إنما التطبيق تمهيدا للاستغلال "الفوضوي" لها ناجم عن غياب توافق دولي على:
تحديد معالم ثابتة للمبرر، أي واقعة انتهاك حقوق الإنسان، وبالتالي متى تستدعي التدخل
وتحديد شروط ملزمة للآلية، أي من يقرر ومن ينفذ ومن يحاسب
وتحديد قواعد بينة للحد المقبول من انتهاك سيادة الدول دون تجاوز ما يحقق الهدف المشروع
رغم غياب ذلك كله بررت دول ومنظمات وكتابات "إسلامية" آنذاك التدخل العسكري دون ضوابط، استنادا إلى حقيقة أن معظم الضحايا في البوسنه والهرسك ثم في كوسوفا هم من "المسلمين". وهؤلاء لا يزالون إلى اليوم إما تحت الحصار أو تحت الوصاية، بينما أصبح بعض الدول والجهات المؤيدة للتدخل هي نفسها عرضة لانتهاك سيادتها وفق "سابقة قانونية دولية" مصطنعة في البلقان!
المثال الأوضح للعيان حاليا هو توظيف الإرهاب والحرب عليه أداة لنشر الفوضى الهدامة كركيزة لاستعادة مفعول معادلة الهيمنة والتبعية، على حساب الإنسان والدول والحضارة البشرية معا.. أما الأسلوب فمشابه لما كان في البلقان.
في الربع الأخير من القرن الميلادي العشرين كانت عمليات إرهابية من جانب منظمات بعينها ذريعة لحروب عدوانية دمرت دولا وسببت قتل الملايين حربا أو حصارا، وكان ذلك بمشاركة دول اعتبرت الحرب على المنظمات -وإن كانت عابرة للحدود وانتهكت سيادة الدول- حربا مشروعة بسبب "تهمة الإرهاب". وافتقر جميع ذلك إلى توافق على تعريف اصطلاحي عالمي لكلمة الإرهاب، فأصبح استخدام هذه الذريعة حكرا على من يريد استغلالها لتحقيق هدف الهيمنة فحسب.. وبذلك كان لا بد أن تفتح الأبواب على مصراعيها أمام نشر "فوضى" هدّامة لا تخدم سوى من يملك قوة البطش أكثر من سواه، أي سيادة شرعة الغاب.
في هذه الأثناء أصبحت "تهمة الإرهاب ودعمه" نفسها تطال دولا ومنظمات وتستهدفها في أصل وجودها، بعد أن شاركت هي بنفسها في الحرب الفوضوية على الإرهاب، وشاركت في الحرب الفوضوية على تمويل الإرهاب، ومثال ذلك "قانون جاستا" الأمريكي الذي يستهدف السعودية، وكذلك مثال ما وصل إليه استهداف قطر مع منطقة الخليج من داخلها، واستهداف حصيلة الثورات العربية ومسار قضية فلسطين مجسدا في المقاومة، بل لا يستبعد على ضوء ما سبق وبعد استكمال معركة الرقة في سورية أن تصبح أداة "وحدات حماية الشعب" مستهدفة أيضا بتهمة ممارسة أعمال إرهابية، أو أن تستخدم الأداة نفسها لأغراض أخرى تنشر الفوضى الهدامة على حساب الأكراد والأتراك والعرب دون تمييز.
. . .
إن حقوق الإنسان أهم من سيادة الدول في عالمنا المعاصر، حيث يسود الاستبداد على مستوى الدول محليا وعلى مستوى العالم دوليا، ولكن الأخطر من ذلك غياب الضوابط الثابتة الموثقة التي تمنع أن يصبح انتهاك تلك السيادة مدخلا لفظائع أكبر على حساب الإنسان وحقوقه.
وإن الإرهاب والعمليات الإرهابية من أخطر ما تعرفه الأسرة البشرية منذ عشرات السنين، ولكن الأخطر منه اتخاذه ذريعة لتقويض دول ومجتمعات ومنظمات وشنّ حروب عدوانية شاملة وإبادة الشعوب بغالبيتها وأقلياتها، وما يسببه ذلك من دمار لا يقاس ومن ضحايا بأضعاف أضعاف ما يسببه الإرهاب.
. . .
هي معضلة والتاريخ حافل بالمعضلات، ولم يفتح مسار الخروج منها قط عبر دول أو منظمات تشارك فيها إما بسبب انتهازية رخيصة تنقلب على من يمارسها، أو نتيجة جهل مطبق يتجسد في خطوات انتحارية.
الشواهد التاريخية تؤكد أن الخروج من معضلات الانهيار يبدأ بأفراد ينفصلون بما يطرحون عن المشهد الطاغي الذي يحيط بهم ويستهدفونه بالتغيير، بعد استيعاب تفاصيله، ورؤية دعائمه وثغراته، فآنذاك يتلاقون بأطروحاتهم من وراء الحدود والعقبات، ويتحول ما يطرحون إلى تيار، والتيار إلى عمل، والعمل إلى قوى دافعة للتغيير، وهؤلاء لن نجدهم هذه الأيام بين من يعمد من النخب إلى الاصطفاف ما بين مؤيد ومعارض لهذه "الجبهة" أو تلك، إنما نجدهم بين "غرباء" يشذون عن مسار الانحناء لموبقات الفوضى الهدامة، لأنهم يضعون أنفسهم وطاقاتهم وأطروحاتهم في خدمة الحق والعدل والإنسان.
قد آن الأوان أن يدفع مخاض الآلام عبر التحرك المضاد لمسيرة الثورات الشعبية، إلى ظهور من يعملون حقا لتجديد المسيرة خارج قضبان الفوضى الهدامة، ومن منطلق خدمة الحق والعدل والإنسان.
نبيل شبيب