الأكراد في المصيدة الأمريكية

نشرت في الجريدة الثورية السورية صدى الشام يوم ٣١ / ٥ / ٢٠١٦م

تحليل – واشنطون تستخدم فريقا من الأكراد لمطامع ذاتية وليس لخدمة حقوق الأكراد المشروعة

72
عبث عسكري بقضية الأكراد

تحليل

ليس ما يجري عن طريق فريق من الأكراد في الشمال الشرقي من سورية بمسمياته المعروفة، مجرد خلاف محلي على مستقبل سورية تحديدا، ولا هو مجرد حصيلة مؤامرة خارجية ضد الثورة الشعبية أو ضد المسار السياسي المتطور في تركيا، ولا يمكن تحميل المسؤولية على صانع القرار الأمريكي وحده، فالقضية أكثر تعقيدا وأعمق تأثيرا من حصرها في هذا المجال، دون إغفال أهميته أو التهوين من شأنه.

قبل مائة عام سقط العرب، بمعنى النسبة الأكبر من القادة والزعماء والمتغربين، في المصيدة البريطانية والفرنسية، والتي حملت لاحقا عنوان سايكس بيكو، وكان الطعم الذي أغواهم وعود التحرر والدولة العربية المستقلة، ولا يزال العرب جميعا، بمن فيهم الصامتون والمعارضون والأتباع، ولا يزال معهم أقوام آخرون في هذه المنطقة من عالمنا، يعانون من تلك السقطة التاريخية حتى اليوم، حضاريا وسياسيا وأمنيا واقتصاديا.

المفروض أن نتعلم من التاريخ القريب على الأقل، ولكن يكرر تلك السقطة التاريخية الآن فريق من الأكراد، سبق أن أقصوا في السنوات القليلة الماضية سواهم من إخوانهم الأكراد المخالفين في الرأي والاتجاه من مواقع التأثير وصناعة القرار، وبدأت المصيدة الأمريكية تفعل فعلها بالأسلوب الاستعماري ذاته، فالولايات المتحدة الأمريكية وريثة بريطانيا وفرنسا والاستعمار القديم، بل تفوقت في إرثها سياسة وسلوكا وهيمنة وتجبرا.

وليذكر إخواننا الأكراد ولا سيما المخلصون الواعون منهم:

إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت مصانعها ومصانع بعض الدول الأوروبية مصدر ٩٥ في المائة مما احتاجت إليه منشآت صناعة السموم الكيمياوية في عهد صدام في العراق، والتي كان من ضحاياها أهلنا في حلبجة وأخواتها.

إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت ترمي بثقلها إلى جانب الحكم العسكري العلماني المتشدد في تركيا أثناء الصراع المديد مع الأكراد، ولم يتبدل الموقع الأمريكي من الجبهات إلا حديثا بعد أن أصبحت تركيا في عهد حزب التنمية والعدالة مرشحة للتحرر إقليميا من الارتباط بإملاءات أجنبية.

إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي يقول المهيمنون على صناعة القرار فيها، إنه قرار المصلحة المنفعية الذاتية، فلم تتورع يوما عن التخلي عن حلفاء سابقين، كما كان في الفيليبين وإيران وباناما، ولن تتورع عن ذلك تجاه الأكراد في قادم الأيام.

إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت أثناء احتلال العراق مشوار هيمنتها الحالي في قضية الأكراد، ولا يمكن أن يؤمن جانبها تجاههم -كسواهم- ولو للحظة واحدة من لحظات التاريخ.

إنها تريد أن تستخدم الأكراد لا أن تخدمهم، وأن توظفهم لا أن تدعمهم، وأن تحصل عبر تحركاتهم وعلى حساب دمائهم واستقرار وجودهم الإقليمي على مطامعها الذاتية لا أن تمكنهم هم من تحصيل حقوقهم المشروعة.

تدخلت اليد الأمريكية في أوضاع الأكراد في العراق وساهمت مباشرة في تحويل العراق إلى مرتع عدوان إيراني متصاعد، يتضاءل معه حجم ما يحصل عليه الأكراد من سيطرة جزئية في الشمال، لا سيما إذا بقي وجودهم الحالي مرتبطا بدعم أجنبي مشروط.

وتدخلت اليد الأمريكية في صناعة القلاقل في تركيا ليتحول مسار المصالحة التاريخية بين الأتراك والأكراد في عهد حزب التنمية والعدالة إلى جولة حربية جديدة.

وتدخلت وتتدخل الآن في سورية مستخدمة فزاعة الإرهاب هنا أيضا، ليكتمل تحويل قضية الأكراد إقليميا إلى مرجل مشتعل، على حساب الأكراد ودمائهم وعلى حساب إخوانهم من شعوب المنطقة ودمائهم.

الخطر الأمريكي كبير يتطلب الوعي والمواجهة ولكنه ليس هو الخطر الأكبر علينا أكرادا وعربا وأتراكا، فقوى الهيمنة الأمريكية تتحرك من خلال فريق ما من أهل المنطقة، ولا تستطيع أن تتحرك بنفسها، فقد مضى عهد الاستعمار العسكري المباشر، وأصبح الاعتماد على أتباع إقليميين في ارتكاب الجريمة الأكبر، جريمة الهيمنة إلى درجة تخصيص الدعم بالسلاح للاقتتال الانتحاري مقابل منعه إذا وجد من يستخدمه لتحرير الشعوب، وجريمة الاستغلال والضغوط إلى درجة التجويع والإبادة.

الخطر الأكبر هو ما يصنعه فريق من الأكراد الآن وهم يقبلون لأنفسهم أن يكونوا رأس حربة ضد من يعمل من أجل تحرر المنطقة بلدانا وشعوبا، وليس ضد الإرهاب كما يزعمون، وهذا خطر انتحاري يعود بوباله على من يدخل بنفسه في المصيدة الأمريكية.

إنما لا يصح أن نرى أخطاء فريق من الأكراد ولا نرى أخطاء سواهم في التعامل معهم، ولقد كان النقص الفادح في مسار الثورة الشعبية في سورية غياب مشروع مستقبلي واضح المعالم، جليّ المقاصد، شامل لجميع مكونات الشعب، مقنع للقريب والبعيد بشموله وتوازنه، يجد فيه الأكراد منزلهم كسواهم، ولا يتعصب فيه فريق على حساب آخر، ولا قوم على قوم، ولا راية على راية.

لا عتب على عدو في عدائه وقد أصبحت الشواهد لا تعد ولا تحصى على العداء الإيراني والروسي والأمريكي والغربي ممن تتلاقى جهودهم سرا وعلنا على إجهاض ثورة الشعوب في سورية وأخواتها طلبا للحرية والكرامة والعدالة، ولا عتب على الأعداء أن يعملوا ليلا ونهارا على بذر بذور التفرقة بيننا في موطننا المشترك في سورية، وفي منطقتنا على المستوى الإقليمي، ولكن العتب الأكبر -كيلا نقول أكثر من ذلك- على الذين يختلفون إلى درجة الاقتتال على ما لا يملكون صنعه الآن وهو في غيب المستقبل، بدلا من التلاقي على القواسم المشتركة وهي كثيرة بين أيدينا في الوقت الحاضر، فآنذاك فقط يمكن أن يسدوا الأبواب أمام جهود الأعداء أن تنفذ إلينا عبر فريق في صفوفنا بعد فريق.

قضية الأكراد ليست قضية حقوقهم المشروعة، بل هي جزء من قضية حقوقنا المشروعة جميعا، وما دام كل فريق منا ينظر إلى القضية عبر حقوقه الذاتية نظرة أنانية، ولا يتجاوز ذلك إلى النظرة الشاملة لحقوقنا المشتركة جميعا، فسيوجد دوما من يستغل الخلاف والاقتتال لتحقيق مآربه العدوانية.

لا ينفي شيء مما سبق وجوب إدانة ما يصنعه فريق من الأكراد هذه الأيام وهم يوجهون سلاحهم ضد الثوار، ويضعون أنفسهم في مركب أمريكي أو روسي أو أي مركب أجنبي على حساب أهلهم وجيرانهم في المنطقة، وهم من كانوا وسيبقون أهلهم وجيرانهم فيها، وليس من مصلحة الأكراد أن يصنعوا الآن ما يشعل مزيدا من الصدامات والعداوات لأجيال قادمة، وفي صفوفهم من لا يتقبل الآن ولم يكن يتقبل من قبل المضي مع ذلك الفريق العدواني إلى حيث يمضي، ولا بد من إيجاد الوسائل الكفيلة للتواصل والتعاون لوضع حد لذلك الجنوح، جنبا إلى جنب مع إيجاد الوسائل الكفيلة برفض إنكار من ينكر على الأكراد حقوقهم المشروعة، وأن يكون لهم نصيبهم في صناعة القرار على مختلف المستويات، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فليست ثورات الشعوب العربية ثورات لتحرير إنسان عربي على حساب إنسان آخر، ولا يمكن أن تتحقق أهدافها في التحرر والكرامة والعدالة إلا بقدر ما تشمل هذه القيم وأمثالها كل إنسان، بغض النظر عن جميع الاعتبارات الأخرى، وكما أننا نرفض أن يؤخذ جميع العرب بجريرة ما يفعله السفهاء من موقع صناعة القرار السياسي أو سواه، كذلك نرفض بقوة ووضوح أن يؤخذ الآن جميع إخواننا الأكراد بجريرة ما يفعله السفهاء منهم على حساب الأكراد والعرب والأتراك وسائر المسلمين، بل وعلى حساب الإنسان، جنس الإنسان.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب