استراحة – أشواق في الغربة
بوح وتنهيدة بطعم الغربة
أهي قسوة الغربة.. أم سحر الوطن؟ أم مزيج من هذا وذاك؟
قرأت في منتدى السقيفة الحواري الشبكي كلمات بقلم فتاة تسمّي نفسها (قطر الندى) عن الشوق، فأثارت في القلم أشواقا عبّرَ عنها ببضع سطور، وسرعان ما أتى الجواب بقلم فتاة أخرى باسم (الأبية)، فكانت هذه الدردشة:
قطر الندى:
شوق
ثلاثة أحرف أبجدية.. تعني الكثير في قاموس من يحب..
فمن يشتاق.. يحرص على أن يلتقي.. ومن يشتاق.. يبذل كل سبب..
ويتحين كل فرصة.. وكل بادرة توصله.. لمن اشتاق إليه..
يعمل.. ودمعة شوقه تعبر عن صدقه.. وهمته تعبر عن شوقه.. وهجرته تعبر عن شوقه.. وخلوته تعبر عن شوقه..
اسمعتم عن مشتاق يهجر.. ومشتاق يعرض.. ومشتاق ينام..
هلا فكّرنا في أشواقنا.. ولمن نشتاق.. وكيف نشتاق..
نبيل شبيب:
كنت أشتاق يوما إلى زاوية في بيت..
كنت أعبث فيها طفلا..
كنت أقرأ فيها يافعا..
كنت أدبّر فيها المكائد لإخوتي..
وحرمتني الغربة من أنفاس البيت وأهله
كنت أشتاق للرصيف في شارع نشأت فيه..
أشتاق لخطوات صديق يسير عليه إلى جانبي..
أشتاق لصوت بائع “الذرة” ينادي على الأطفال..
أشتاق لشجرة الياسمين تفوح بعطرها في أرجاء المكان..
أشتاق للبشر.. والحجر..
وحرمتني الغربة من صخب الطريق وهدأة ليله..
كنت أشتاق لمقعد خشبي في مدرسة “عمر بن عبد العزيز..”
لعبث التلاميذ.. و”عصا” الأستاذ حسين..
للقلق في العيون أيام الامتحان
للبسمة على الشفاه.. بعد الامتحان..
أشتاق للباحة الفسيحة تضيق بأطفالها..
لأوراق الشجر تطلّ عليها..
وحرمتني الغربة من براءة الطفولة في مدرستي
وطالت الغربة..
وصرت أشتاق إلى أشواقي
وأحنّ إلى أيام حنيني
وأضيق بشغلي وانشغالي..
وأتساءل في جنح الليل قبل غفوتي..
متى.. متى تنتهي غربتي
الأبية:
حركت في النفس أشجانا.. وأشواقا!
أحيانا يخيل إلي.. أنه ليس في هذا الكون الواسع مهجّرون سواهم! وليس في الأرض مغتربون إلاّ هم!
أبناء ذلك الوطن المنهَك!
أعجب منه.. يذوب أبناؤه شوقا إليه.. وهو يمعن في الهجر.. والحرمان!
إن لم يَرض بهؤلاء (العاشقين..).. فمن يُرضيه يا ترى؟
وبأي حقّ يصير وطنا.. وهو يطرد أبناءه..
يصيح بهم: ابتعدوا.. سيحوا في أصقاع الأرض.. لكن.. إياكم أن تقتربوا!!!
ورغم كل ذلك الجفاء والقسوة.. لا يزداد أبناؤه إلا شوقا..
ولا تحمل قلوبهم إلا الحبّ.. ولا شيء سوى الحبّ! ليتني أعرف سر هذا الحب!
أهي قسوة الغربة.. أم سحر الوطن؟ أم مزيج من هذا وذاك؟
عندما يقطع الوطن كل حبال الوصل.. ولا يُبقي لك إلا بضع أوراق!!
تُضَم إلى بعضها.. لتؤلّف جواز سفر!
أيّ نفع في هذا الجواز.. إن لم يُجِز لك عبور الحدود.. وتجاوز السدود!
بل في أكثر الأحيان.. يشتطّ الوطن في الحرمان.. فيأبى أن تنتسب إليه.. حتى بجواز سفر!
لكنّك رغم كلّ هذا.. إن سُئلت عن هويتك.. قلت: إنني من (الوطن!)
أيُّ وطن؟!
أرقبه.. يسأل القادم عن الساحة القديمة! والسوق الجديد! ومسجد ابن الوليد!
والحديقة! وإخوته! وبيت العائلة! وبيت فلان! والدكان! والشيخ عدنان!
يستحضر المدينة.. شبرا شبرا! بيتا بيتا! فردا فردا!
وكأنّه بالأمس غادرها! بل كأنّه ما غادرها!
وهي..
كلّ شجرة.. تذكّرها كرم العنب!
كلّ نسمة.. تسافر بها إلى شطّ النهر!
كلّ قادم.. يذكّرها الأهل والأحباب!
كلّ مسافر.. تُحمِّله أشواقها وتحنانها!
ما تفتأ تقصّ على أولادها.. حكايات الطفولة والصبا.. مدرستها.. جامعتها.. طالباتها..
لا يكتمل حاضرها.. إلاّ بماضيها..
وكأنّها تخاف من غربتها.. أن تسطو على ذكرياتها وصورها.. فتعبث بها.. أو تسرقها!
اثنتان وعشرون سنة..
كلّ ما فيها تغيّر.. تحرّك! الناس.. الحارة.. البيت.. حتى النجم والقمر..
وحده ذاك الغريب.. لم يبرح ذلك الركن المظلم.. يندب فيه غربته!
اثنتان وعشرون سنة..
حُفر على جدرانها تاريخ طويل.. يفيض شوقا وحنينا.. وأملا بعودة في يوم ما!
لا تسأله متى؟ فلن يجيبك إلاّ رجع الصدى!
إنّما سيظل يردد مع الشاعر العطّار:
نحيا على البعد أشواقا مؤرقة..
لا الوصل يدنو.. ولا الأيام تُسلينا!
إنّني أعشق وطنا مجهولا..
أشتاق إلى خيال! لا أذكر أرضه.. أسهل هي.. أم جبال ووديان؟!
والسماء.. أهي زرقاء صافية.. أم ملبّدة غائمة!
أنقب في ذاكرتي عن ومضات.. عن بقايا صور عتيقة!
عن بيتنا! عن وجه الخال! عن طيف العمة!
لكنّني لا أجد أثرا!
وأيّ أثر ستحمله ذاكرة طفلة! تخطو خطواتها الأولى!
لقد غادرته.. دون حقيبة الذكريات!
مهلا.. هناك أثر واحد! هواء بلدي العليل..
كان أوّل أنفاس حياتي.. وكفى به من أثر!
أعتذر عن هذا السيل من الكلمات..
لكنّها نسمة هبّت من أرض الوطن.. ففجرت البركان!
قطر الندى ونبيل شبيب والأبية