تحليل – أخطبوط الفوضى الهدّامة ومواجهتها (١ من ٢)

صناعة الإنسان الفوضوي الهدّام هي المطلوبة هدفا والمؤثرة تنفيذا، إذ يتولى من داخل صفوفنا مهمة تحقيق أغراض الفوضى الهدامة

46

نبحث عن طريق النهوض من الحضيض، ونحن في قاع ما تصنعه الفوضى الهدّامة في بلادنا ومجتمعاتنا بجميع شرائحها، فلا بد من نظرة تمحيص في مرتكزات ما وصلت إليه، قبل البحث في حلقة تالية عن المرتكز الأول للنهوض، رغم هذا الذي وصلت إليه. 

الفوضى الهدامة التي يصفها صانعوها بالخلاقة بدأ نشرها في بلادنا من قبل سايكس بيكو وليس أيام التصريح بذلك على الألسنة الأمريكية أثناء احتلال العراق، وما زال نشرها مستمرا في تصعيد نوعي وجغرافي، ووصل إلى استهداف تركيا منذ فترة وقطر حديثا، فلا يقف صنّاعها عند حدود من حافظ على درجة عالية من التحالف مع الغرب، وهذا ما ينبغي أن يستوعبه حلفاء آخرون يشاركون بأنفسهم في نشر الفوضى الهدّامة التي ستطالهم بنتائجها، آجلا أو عاجلا.

. . .

النظر في أخطبوط انتشار الفوضى الهدامة منذ أكثر من قرن حتى الآن يتطلب "مجلدات" من الدراسات، وهذا شأن المؤرخين والباحثين، إنما المطلوب هنا رؤية ما وراء "عناوين الأحداث" وتصنيفه من حيث أعماق تأثيرها ونتائجها، من أجل رؤية أعمق في البحث عن كيفية التصدي لها وقد بلغت درجة المحرقة.

الفوضى الهدامة تستهدف آليات النهوض

المقصود: التدمير المباشر لما نشأ من صناعات متقدمة واغتيال العلماء صنّاع النهضة، المثال الأبرز تاريخيا ما صنعه الاحتلال الإنجليزي لمصر بعد إنجازات عهد محمد علي باشا.. والمثال الأقرب تاريخيا ما صنعه الاحتلال الأمريكي للعراق كحملة اغتيال العلماء.

الفوضى الهدّامة تستهدف الوحدة الرسمية الجغرافية

أبرز الأمثلة سايكس بيكو وآخرها العمل حاليا لتخريب منظومة دول الخليج العربية من داخلها، ومن الأمثلة أيضا "تفتيت المفتّت" كما يوصف ما يُصنع بسورية جوابا على ثورة شعبها.

الفوضى الهدّامة تستهدف العمق التاريخي لبناء المستقبل

من ذلك بوضوح ما أصاب تركيا بمعاول العلمانية بعد إسقاط الدولة العثمانية وما تعرّضت له مناهج التعليم والتربية في كافة بلادنا مع تعزيز القطرية على حساب الروابط والقواسم المشتركة

الفوضى الهدّامة تستهدف الطاقات العسكرية وأسباب القوة

من وسائلها حروب عدوانية خارجية، وحروب إقليمية ونزاعات قطرية داخلية علاوة على تحويل القوى العسكرية نفسها إلى أوكار فساد وتسلّط وقمع إلى جانب ما أنشئ باسم أجهزة أمنية مزعومة.

الفوضى الهدّامة تستهدف بذور التنمية لا سيما الأمن الغذائي

من أخطر أشكالها القضاء على ازدهار زراعة القمح والقطن في مصر تبعا لمستشارين أمريكيين وإسرائيليين، وشبيه ذلك ما أوقف مشروع زراعة الحبوب في السعودية، وكذلك تجميد مشاريع عنوانها "السودان سلة الغذاء العربية".

الفوضى الهدّامة تستهدف الأجهزة الإعلامية وتحررها

من الحصيلة ما نشهده من مستوى متدنّي متدهور في مصر رغم الحجم الكبير للإعلام فيها، ومن الأمثلة استهداف شبكة الجزيرة تخصيصا بعد أن شقت طريقا غير مسبوق في ميدان تقنيات الإعلام وحرفيته وبذور تحريره.

. . .

هذا غيض من فيض.. والاسترسال لا ينتهي إذا نظرنا في ميادين التربية والتعليم، والأدب والفن، والأنشطة الاجتماعية والحقوقية، فضلا عن تفخيخ الاستبداد والفساد لعلاقات كافة الأنظمة بالشعوب، والفئات المجتمعية والشعبية ببعضها وتحويل تلك العلاقات إلى عدوات وأحقاد واتهامات وثارات، يجرى تضخيمها أفقيا وتوارثها شاقوليا.

بدلا من الاسترسال نبحث عن قاسم مشترك أو نقطة ارتكاز أو محور جوهري بين كافة تجليات الفوضى الهدّامة وموبقاتها، وسنجده في استهداف الإنسان، ليكون من مرتكزاتها المحلية أو من غثاء لا يكاد يستوعب ما هي الفوضى الهدّامة ناهيك عن مواجهتها.

إن قلب أخطبوط الفوضى الهدامة هو مسخ شخصية الإنسان واستنساخه لتجنيده في تنفيذ أغراضها على حساب إنسانيته وسائر انتماءاته الذاتية، العقدية والعرقية والوطنية والثقافية والسياسية وغيرها.

استهداف إنسان هذه المنطقة هو ما لم ينقطع العمل له منذ أكثر من مائة سنة، حملة بعد حملة، استشراقية وتغريبية، إباحية وأخلاقية، تربيوية وتعليمية، بمختلف الوسائل كالأفلام والكتب والمهرجانات، وكذلك ضغوط الفقر ومغريات البطر، وانحراف فلسفي وتشدّد ديني، عبر اصطناع أسباب العداء وممارسة العداء بين أهل الوطن الواحد أو البلدة الواحدة.

المطلوب إنسان يعمل في نشر الفوضى الهدامة، عالما أو جاهلا بما يصنع، مستخدما شعارات براقة ومقولات مخادعة أو أطروحات تنتحل لنفسها صفة الموضوعية والمنهجية، ولا يهمّ بعد ذلك ما هو موقعه أو منصبه، وما هي مؤهلاته وأنشطته، بل لا يهمّ أيضا انتماؤه الاسمي الشكلي، معتقدا أو اتجاه أو تنظيما.

سيان من هو، فما دام يؤدي دوره لا ينقطع عنه مفعول "الحماية" من القوة المهيمنة على أخطبوط الفوضى الهدامة، حتى ولو تعرض للتهجم والعداء ظاهريا، أما إن حاد عن ذلك الدور نتيجة وعي ذاتي، أو تحت ضغوط حدث ما، أو حتى بدافع مصلحي.. سيّان، فسوف يبدأ عداؤه الحقيقي ويستشرى، وسيبدأ العمل للتخلص منه وإحلال بديل عنه.

إن صناعة الإنسان الفوضوي الهدّام هي المطلوبة هدفا والمؤثرة تنفيذا، وغالبا ما يقتصر دور القوة المهيمنة على إشعال فتيل حدث تخريبي أو صدام محلي.. فيتفاقم محليا دون مزيد من التدخل، إذ يحقق ذلك الإنسان المصاب من داخل صفوفنا أغراض الفوضى الهدّامة ولا يحقق أي هدف ذاتي مستدام.

على هذه الخلفية انتشرت الفوضى الهدّامة ما بين المحيطات الثلاث إلا قليلا، وبلغت جهود عدائية عبر أكثر من مائة عام معظم أهدافها، وأصبحنا بين خيارات:

إما التسليم لموات طويل الأمد لا تنقطع خلاله موجات المعاناة بمختلف أشكالها..

أو مواصلة خوض مواجهات متفرقة دون توازن القوى في أي منها على حدة..

أو تركيز الرؤى والجهود والإمكانات المتوافرة على صناعة الإنسان المتوازن البنّاء.

نبيل شبيب