التغيير وترنح المشروع الصهيوني

بين مفعول النكبات وسلوك طريق التحرير

<تحليل – مشكلتنا الأكبر مع أنفسنا والتردد عن تحويل الشعارات إلى ثقافة نهوض وجهود وأفعال ورؤية لآفاق المستقبل

53

تحليل

ما نزال نتحدث عن النكبة بدلا من التحرير وعن مخاطر التطبيع أكثر من حصيلة المقاومة، ونتساءل عن مصير المشروع الصهيوأمريكي، أكثر ممّا نتساءل عن صناعة مشروع تحرير ونهوض. ولن نتجاوز -إذا بقينا على هذه الحال- حدود ما صنعت أو لم تصنع الأغاني الحماسية، والأناشيد الإسلامية، والتقلبات النخبوية، لا سيما وأننا نُغرق أنفسنا بأنفسنا في نكبات جديدة، يساهم المشروع الصهيوأمريكي في بعضها، ونصنع جلّها بأيدينا، وننتظر عساه ينتهي من خلال انهياره ذاتيا، ولن ينتهي ما دمنا نمكنه من البقاء عبر استمرار انهيارنا الذاتي الداخلي.

حالنا كحال من أصابته في نكبة ١٩٤٨م ضربة على رأسه، فاستساغ الصداع والدوار، لا يريد الشفاء والنهوض، وكلما فتح عينيه ورأى ما حوله، أغمضهما من جديد، بانتظار أن يحدث تغيير، أي تغيير، دون أن يصنع من أجل التغيير شيئا. 

الحلم الصهيوني العتيق تحت شعار من الفرات إلى النيل أصبح كابوسا على أصحابه، بعد أن اكتشفوا أن دروب كامب ديفيد ومدريد وأوسلو تصنع أوراقا وترسم خرائط طريق ولا تكسر حاجزا نفسيا بين المعتدي والمعتدى عليه، ولا تثبت باطلا على أرض كان فيها ميلاد أنبياء الحق والعدالة والسلام، مثلما اكتشفوا أن آلة القتل والتدمير قد اضمحل مفعولها الإجرامي الهمجي في مواجهة أبناء جيل جديد وبناته، داخل الأرض المحتلة وخارجها. 

والحلم الأمريكي العتيق، المندمج في الحلم الصهيوني، والمتعدد الشعارات من أجل الهيمنة المطلقة، استفاق أيضا بعد كوابيس فييتنام وأفغانستان والعراق، على إدراك استحالة أن يواجه أبناء جيل جديد وبناته، الذين صنعت القيم العقدية والحضارية والإنسانية منهم ما لا يمكن أن تغتاله همجية إجرام لا مثيل له، يرتكبه صناع هيروشيما وأبو غريب وجوانتانامو وما سبقهما ولحق بهما.

المفكرون والمؤرخون، والكتاب والإعلاميون، والسياسيون والعسكريون، والعامة والمتخصصون، من داخل المشروع الصهيوأمريكي، من الإسرائيليين والأمريكيين تخصيصا، يفكرون ويحللون ويطرحون مخاوفهم من انهيار ذلك المشروع، ويبحثون عما يمكن أن يعيد إليه الحياة، ويسعون لذلك بكل سبيل، ويعلمون أنه استعمار استيطاني محض، وحالهم حال من فكر وقدّر، فقُتل كيف قدّر، ثم قتل كيف قدّر.  

ويوجد من داخل صفوفنا أيضا من يرصدون ويحللون ويفكرون منذ فترة، ويرون رأي العين أن آخر الانتصارات العسكرية الصهيوأمريكية -ويستحيل أن يستمر المشروع الصهيوأمريكي العدواني إلا عسكريا- قد كان قبل جيل كامل وانقطع، فلم يعد احتلال غزة نزهة، ولا أسفر احتلال العراق عن إحياء ما اندثر مع عصر الاستعمار التقليدي وذيوله، ولا حقق الإرهاب تقتيلا وتشريدا في الداخل الفلسطيني كسرا للإرادة، أو كسرا للمقاومة، أو ترسيخا للسيطرة. 

ولكن بين ظهرانينا أيضا من يريد البقاء شاكيا متألما، فلا يرصد سوى فريق ممن دجّنهم المشروع الصهيوأمريكي من داخل صفوفنا، فهم يفعلون الأفاعيل، لتحقيق أغراضه، عجزا أو خوفا أو تخليا عن القيم والمقدسات، سيان؛ فالحصيلة واحدة، ولكن ألا ينبغي أن نرصد أيضا أن من نشأ في محاضن ذلك الفريق، جيلٌ جديد يأبى أن يواصل مسيرته، أو أن يقبل به وبأفاعيله!

لقد بدأ العدّ العكسي للمشروع الصهيوأمريكي، وما يزال كثير منا لا يريد أن يستفيق من مفعول صدمة نكبة كبرى وقعت قبل جيلين وأكثر فإلى متى؟ 

ومن يفكر الآن بما سيأتي بعد نهاية ذلك المشروع الاستعماري الاستيطاني، وكيف سينتهي، وما عليه أن يفعل كي ينتهي، بدلا من الاستمرار على اجترار الماضي التياعا، أو انتظار المستقبل تمنيا، دون أن يكون لنا وجود حقيقي فعال، الآن، في عالمنا الحاضر القائم من حولنا! 

مشكلتنا الأكبر لم تكن في الماضي، ولا هي اليوم، مع المشروع الصهيوأمريكي، قدر ما هي مشكلتنا نحن مع أنفسنا، مع من لا يزال مترددا عن تحويل شعارات التغيير إلى ثقافة وجهود وأفعال، ومع من لا يزال منشغلا بالحديث عن نكبات الماضي دون أن يوظف ذلك في الحديث عن أهداف المستقبل. 

ومشكلتنا مع فريق من داخل صفوفنا، لا يزال يعمل لتوظيف بقايا قوته في حربه على مشروع تحرير وتوحيد ونهوض، ومحاولة اغتيال كل بذرة وشتلة على طريقه، بدءا باغتيال المستقبل عبر تغيير مناهج تربية الأطفال والناشئة، مرورا باغتيال المقاومة عبر حصار من شب عن طوق التخذيل ومارس المقاومة ومن ناصرها ويناصرها، انتهاء بمحاولة اغتيال إرادة الأمة عبر الاعتقالات والتعذيب، والفقر والبطر، قهرا للرجال وعزيمتهم، وتنكيلا بأهلهم وذويهم. 

ومشكلتنا أيضا مشكلة الاعتياد على السؤال مرة بعد مرة متى نصنع البديل، متى نصنع مشروعا شاملا للمقاومة والنهوض، ونكرر السؤال، سيان هل سمعنا جوابا أم لم نسمع، وهل أبصرنا من يعطي الجواب العملي في صناعة واقع جديد من حوله بحسب إمكاناته أم لم نبصر، فالإدمان على السؤال يفقدنا القدرة على استيعاب الجواب، وهو بين أيدينا. 

في أيدينا نحن أن نصنع البديل من أجل المستقبل، فبقاء المشروع الصهيوأمريكي على قيد الحياة، راهن وما يزال يراهن على أن يستمر قعودنا دون صنع البديل لأنفسنا وللبشرية من حولنا، ولهذا لا يفيد أن نرصد في عام بعد عام كيف ينهار ذلك المشروع من داخله، إنما يفيد شيء واحد، أن ننزع أنفسنا من مفعول نكبة ١٩٤٨م وما تلاها من نكبات، ونتطلع إلى طريق صناعة المستقبل.

نعلم أن ظاهر أوضاعنا يحتوي على ما لا ينضب من أسباب التيئيس نتيجة مفعول النكبات، ولكن في أوضاعنا أيضا ما لا ينضب من أسباب الأمل، ومعطيات التحرك والنهوض.

كم رددنا من دروس استخلصناها من هزيمة بعد هزيمة، ونكبة بعد نكبة، وما نزال ننبش أحداث الماضي القريب، لاستخلاص المزيد من الدروس والعبر، حتى كاد ذلك يتحول إلى هواية قائمة بذاتها، ولا يُوظف كما ينبغي ليكون سبيلا من سبل التوعية والتعلم، كي نضاعف الجهد ونصوّب الخطأ ونتابع الطريق.

وكم رددنا أن انتصار الحق على الباطل سنة تاريخية حتمية، لا تحتاج إلى برهان، ولكن لا نكاد ننقطع عن نبش بطون التاريخ بحثا عن أمثلة وأدلة نحاول إخراج أصحابها من قبورهم، لإثبات تلك الحتمية، وهي تنتظر أن نصنع الانتصار في أنفسنا والبديل في عالمنا وعصرنا وليس في أبراج المجد الماضي دون أن نتحرك بموجب ما تقتضيه.

وحولنا اليوم وليس في أعماق التاريخ ألف دليل ودليل من واقع المقاومة وما تحققه بالقليل من الإمكانات ضد ألف عدو و”صديق”، فإذا أفحَمَنا ما قدمت وتقدم، سارعنا إلى التلويح تخذيلا بما تسدده شعوبنا من ثمن، والثمن هو التضحيات الجسيمة، ونعلم أنها تضحيات، وأنها جسيمة، ونتألم من أعمق أعماقنا مع دمعة كل فرد تصيبه بقسط منها، ونرجو أن يتوقف مسلسلها، ولكن بعضنا لا يريد اعتبارها تضحيات صنعها العمل بعد القعود، ومن شأنها أن تعبّد الطريق، وأن تدفع إلى المزيد من العمل، إنما يريد اعتبارها ثمنا لا نطيق تحمله، فلنقعد إذن عن متابعة الطريق، ولننتظر مزيدا من النكبات ومزيدا من المعاناة!

مشكلتنا مع أنفسنا في الدرجة الأولى، وليست في صنيع عدو لن يتبدل صنيعه من تلقاء نفسه؛ هي مشكلة تعاملنا نحن مع أنفسنا والواقع من حولنا، وليس هذا الحديث موجها لفرد دون آخر، أو مجموعة دون أخرى، فالطفل والشاب، والرجل والمرأة، والمعلم والمتعلم، والمقاتل والمناصر، والحاكم والمحكوم، واليساري واليميني، والعلماني والإسلامي، سيان ما يختار أحدنا لنفسه من صفة وموقع، هو المطالَب أولا ألا يكون عقبة في الطريق، والمطالَب ثانيا بأن يبدل في نفسه وفي موقعه كل ما من شأنه أن يمنعه من التحرك على طريق التحرير والنهوض. 

لن يقدم أحد منا للآخرين قوالب جاهزة للعمل وكيف يكون، إنما يحدد طريقَ العمل ويسلكه كلُّ فرد وكل فريق على حسب طاقاته وظروفه وموقعه وإمكاناته، وآنذاك يتلاقى الجميع في ساحة العمل وعلى طريق النهوض، ولن يتلاقى معهم أحد لا يريد التحرك أصلا بذريعة أن أحدا لم يقل له ماذا يعمل، فهو آنذاك دون مستوى التحرك أصلا، وسيبقى على ما هو عليه، أسيرا دون أغلال، سوى ما اعتاد من رسف قيود النكبات.  

وكما أصاب مفعول النكبات الجميع دون تمييز، جيلا بعد جيل، يمكن أن ينال الجميع نصيبهم من حصيلة طريق التحرير والنهوض، وأن يصلوا معا إلى القمة، باستثناء من أبى لنفسه إلا أن يبقى في الحضيض، أو أن يجعل من نفسه عقبة، وآنذاك ستتجاوزه أقدام السائرين، وسينشغل طوال عمره بالحذر أن تدوسه أقدام السائرين. 

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب