تحليل – الاستفتاء على التعديل الدستوري في تركيا
الشعب في تركيا سيد قراره، ولا ينبغي أن يصل الاعتراض الخارجي إلى درجة "الخصومة" ولا التأييد إلى درجة "المبالغة والتسليم"
لا يوجد تطور في بلد من البلدان بما في ذلك أي تعديل دستوري، يمكن وصفه بالإيجابي فقط أو بالسلبي فقط، وغالبا ما تظهر النتائج الفعلية بعد ردح من الزمن، وهذا ما يسري على التعديل الدستوري موضوع الاستفتاء الشعبي في تركيا ساعة كتابة هذه السطور (١٦/ ٤/ ٢٠١٧م). ولا ينبغي التحدث عنه بصياغة إطلاق الأحكام، لا سيما إذا كانت "مسبقة" لا تنطلق من النظر في مضمون الحدث والظروف الموضوعية المتعلقة به، بقدر ما تنطلق من موقف مسبق، سلبي أو إيجابي، تجاه الطرف الذي يريد تحقيق التعديل، وهو في هذه الحالة حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوجان وبتأييد من جانب الحزب القومي في تركيا.
اعتراضات المعترضين
من أراد الوصول إلى موقف موضوعي لا بد أن يخرج أولا من دوامة الضجيج الذي صنعته مواقف أطراف عديدة تعارض ما صنعته الفترة الماضية على السلطة الحالية، سيان ما تفعل، رغم عدم إنكار أنه كان إيجابيا على وجه الإجمال، لا سيما من الناحية الاقتصادية والمعيشية.
١- من الناقدين إلى درجة أشبه بإعلان العداء، فريق ممن يطالبون بحكم الشريعة، وبغض النظر عما تعنيه كلمة "حكم" اصطلاحا (لا سيما أنها لم تستخدم في القرآن الكريم بمعنى "السلطة" مثل كلمة ملك وسلطان والعزيز وأشباهها) فالمفروض على الأقل المقارنة بين طريق التدرج التي اتبعها حزب العدالة والتنمية مع اعتماد إرادة الشعب مرجعية للتغيير، وبين طريق ذلك الفريق الذي يروج للمستحيل واقعيا، أي فرض حكم الشريعة هكذا جملة واحدة بين ليلة وضحاها، ودون مرجعية شعبية، وبتعبير أصح: فرض "تصوّره هو "لحكم الشريعة" بالإكراه والتغلب، فكيف تكون نتائج المقارنة؟ كأنهم لا يرون من أعطى نموذجا بالغ السلبية والتنفير عبر تصرفه بسلطات محدودة جغرافيا وموضوعيا حيثما تمكن من ذلك، وهو نموذج مصغر خطير لما يمكن صنعه في حال استلام السلطة بالإكراه والتغلب مع التصور المنحرف، في "بلد" يعيش فيه عشرات الملايين من البشر من انتماءات وتوجهات وتصورات ينبغي تطبيق "تعارفوا" وتطبيق "لا تظالموا" فيما بينها.
٢- ومن الناقدين من منطلق "قومي كردي" وهم يمثلون فريقا من الأكراد وليس جميع الأكراد، ولا حتى غالبيتهم العظمى، لا في تركيا ولا سواها، ويعللون رفضهم بأن النظام الرئاسي سيكون موضع استغلال من جانب "شخص" إردوجان تحديدا لزيادة الضغوط عليهم ولحرمانهم من حقوقهم المشروعة، ويتغافلون عن حقيقة ممارسة تلك الضغوط وفرض ذلك الحرمان لعشرات السنين في تركيا وسواها، فلم يتغير شيء في اتجاه إيجابي ولو جزئيا، كاحترام الحقوق في ميادين اللغة والثقافة والتعليم والإعلام وسوى ذلك، إلا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب، ثم لم تنقطع هذه المسيرة الإيجابية التدريجية لإعادة الحقوق إلى نصابها المشروع، إلا بعد انطلاقة ثورات الربيع العربي، وانحيازهم هم، أي ذلك الفريق من الأكراد، لصالح سلطات استبدادية (محلية) وقوى هيمنة دولية، تتحرك لوأد إرادة الشعوب الثائرة، بل واستخدام السلاح والتهجير لهذا الغرض، فما مدى مصداقيتهم هم في انتحال صفة "تحرير الشعب الكردي" والمخاوف عليه من نظام رئاسي دستوري في تركيا!
٣- ومن الناقدين جهات دولية لا سيما الاتحاد الأوروبي، وجهات تميل (إن لم تتبع وترتبط وتنحاز) إلى منظومة قيم علمانية ومادية تتحكّم بممارسة السلطة، مع عدم التهوين من شأن عنصر "الديمقراطية وتطبيقاتها" في السلطة، ولكن يعلم هؤلاء أن تركيا لم تشهد طوال فترة ما قبل حزب العدالة والتنمية، سوى حكم استبدادي عسكري، مباشرة بالانقلابات، أو عبر "مواد دستورية شاذة" فيما بين الانقلابات، بما يحفظ للعسكر دوما السيادة على صناعة القرار وتنفيذه، فأين منطق الناقدين المعترضين على نظام "رئاسي ديمقراطي دستوري" يريده حزب وصل إلى السلطة انتخابا، ويريد التعديل الدستور باستفتاء شعبي، بعد تمكنه خلال أعوام معدودة من تحرير تركيا من كوابيس الاستبداد العسكري وموبقاته، ثم لم يتحرك في تعديلات دستورية ولا سواها إلا وفق النظام الديمقراطي الذي يتحدث أولئك الناقدون باسمه، وهم لا يرون بأسا في أن يكون (خارج تركيا) نيابيا أو رئاسيا، بسلطات فردية واسعة أو محدودة.
٤- ومن الناقدين أيضا من يرفض كل شيء بسبب ودون سبب، وبتعليل ودون تعليل، وبغض النظر عن الجهة التي يستهدفها بانتقاده، وعند سؤاله عما يريد لا تجد جوابا.. والأفضل عدم سؤاله أو مناقشته.
مبالغات التأييد
إذا قررت الغالبية في تركيا التعديلات الدستورية المطروحة فالشعب سيد قراره، وإن رفضت فالشعب سيد قراره، وفي الحالتين لا ينبغي أن يصل الاعتراض إلى درجة "الخصومة" ولا التأييد إلى درجة "المبالغة والتعميم والتسليم"، ما دام من يؤيد أو يعترض خارج تلك الدائرة الشعبية التركية، حتى وإن اعتبر الشعوب الإسلامية أمة واحدة، فطريق استعادة هذا العنوان في العلاقات بين البشر وجماعاتهم ممن ينتمون إلى الإسلام عقيدة أو ينتمون إلى الحضارة الإسلامية تاريخا ومستقبلا ودعوة إنسانية للبشرية كافة، هو طريق الوصول إلى "هدف بعيد" نقدّره، وقد يعمل العقلاء من أجله، ولكن لا يستقيم عملهم دون أن يكون من خلال خطوات تغييرية مدروسة تنطلق من واقع قائم نعيش فيه، وهو حاليا واقع "دول وأوطان وحدود" بغض النظر عن "تأييد" بقائها أو تأييد "تعديله" نحو الأفضل.
في تركيا يجري العمل من جانب حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوجان ورفاق دربه، من أجل تغيير إيجابي وفق رؤيتهم لمستقبل تركيا، دون الغفلة عن تأثير ذلك إقليميا ودوليا، ولا يفيد أحدا من خارج تركيا الدولة والوطن والشعب، أن يؤيد جميع ذلك معصوب العينين ومعطل العقل، لا سيما إذا كان لا يتحرك هو بنفسه لخدمة قضيته المباشرة، في الدائرة التي يملك إمكانات التأثير فيها، كالثورة في سورية، أو المقاومة التحريرية في فلسطين، أو ما شابه ذلك في أي بلد آخر.
لا ينبغي لأحدنا أن يسلّم دون تفكير بأن كل ما تصنعه السلطة الحالية في تركيا هو الحق والصواب والمفيد مصلحيا، إنما لن يملك التأييد الهادف المتوازن إلا بقدر ما يكون له موقف ذاتي في قضيته أيضا، فيتحرك من منطلق الخشية أن يكون في هذه الخطوة أو تلك ما قد يعود بالضرر على إخوته من أهل تركيا نفسها، أو على قضيته التي تتأثر بواقع تركيا وسياساتها.
. . .
وقد يسأل سائل: وما موقف كاتب هذه السطور بعد كل هذا الكلام؟ وهو ببساطة:
١- تأييد حزب العدالة والتنمية بزعامته الحالية في معظم ما حققه إيجابيا لتركيا وإقليميا وعلى الساحة الدولية، لا سيما لقضايا المنطقة العربية والإسلامية..
٢- أما التغيير الدستوري فالفوارق بين النظام النيابي الحالي والنظام الرئاسي المحتمل محدودة نسبيا، تسهّل صناعة القرار ولكن لا تحوله إلى قرار "استبدادي فردي" كما يروّج لذلك أعداء تركيا.. وأعداء تحرير الإرادة الشعبية فيها وفي سواها..
٣- ولعل من سلبيات التعديل المحتمل حصول رئيس الدولة (الآن ومن بعد أيضا!) على صلاحيات إضافية (وإن لم تكن مطلقة) تجاه جهاز القضاء، أي السلطة الأهم في تكوين الدولة، ثم عدم وجود ما يكفي من التوازن بين تقليص صلاحيات السلطة التشريعية وتوسيع صلاحيات السلطة التنفيذية.
٤- أما ما يتجاوز ذلك فهو رهن الممارسات السياسية والإدارية الفعلية، فهنا تحسن دعوة أهلنا في تركيا، إلى التعامل بقدر كبير من الحرص على الإنصاف والتحقّق والتوثق والشفافية والانفتاح، وهذا قبل التعديل الدستوري المحتمل ومن بعده، فبعض الإجراءات مؤخرا كانت وليدة المبالغة في المخاوف من أفاعيل جهات منتشرة سابقا في أجهزة الإعلام والتعليم خاصة وتجد دعما أجنبيا خطيرا وواسع النطاق، ومن تلك الجهات ما قد يفضل "الهيمنة الأجنبية" وربما "العسكرية" على سلطة دستورية ما دامت تحمل اقتناعات إسلامية عقدية وحضارية، مهما كان ذلك وازعا وضامنا لها ألّا تمارس استبدادا أو إكراها أو تضليلا وخداعا.
نبيل شبيب