رأي – تفاهم أمريكي روسي مرجّح حول سورية

السقوط خطير وقريب.. والبديل هو الانطلاق من الأولوية لمصلحة الشعب ومرجعية إرادته، وهو سيد الثورة

47

كل احتمال يُطرح حول تطور التعامل الدولي مع قضية سورية، هو ضرب من التكهنات، وترتفع قيمتها بقدر استيعاب طبيعة العلاقات الدولية وبقدر استنادها إلى متابعة مستجدات ومؤشرات بصددها، مع تجنب اعتبارها توقعات مؤكدة لغياب الدليل والبرهان بطبيعة الحال، أما المستجدات، فأبرز معطياتها للعيان حاليا: تصعيد حجم التدخل الروسي المباشر، وتبدّل السلطة الرئاسية الأمريكية، بالتزامن مع مشكلات متفاقمة في الاتحاد الأوروبي، وتبدل نسبي في سياسات تركيا المستهدفة مباشرة مع "ثورات الربيع العربي"، واستنزاف الدول الخليجية في مصر واليمن وفي خلافات بينية.

 

أرضية العلاقات الدولية

نرصد الكثير ويبالغ بعضنا في متابعة ما يطرح بلغة مثيرة ضمن حوار صاخب بين موسكو وواشنطون، ولكن الأهم من "الصراخ غير الديبلوماسي" -وإن رافقته خطوات عدائية محدودة- هو "العنصر الثابت" منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل، ويتمثل في أن العلاقات بين القوى الدولية المهيمنة عالميا لا تعرف توافقا مطلقا ولا خلافا مطلقا، وهذا ما تشهد عليه عشرات السنين من الحرب الباردة ثم الانفراج بين الشرق والغرب، ولا تخرج الفترة الحالية عن هذا الإطار، وفيه ما يشبه الخطوط الحمر التي يلتزم بها الجميع تجاه بعضهم بعضا وعالميا، أهمها وأولها تجنب نشوب حرب مباشرة رغم كثرة الصدامات والحروب غير المباشرة وخطورتها، مما سمّي صراعا على النفوذ أو حروبا بالوكالة، ومن أهمها أيضا حظر بلوغ القوة العسكرية وغير العسكرية لأي دولة أو مجموعة دول من خارج إطار المنظومة المهيمنة -أي عبر تحرر إرادة الشعوب- درجة متقدمة تمكّنها من خلخلة معادلة الهيمنة والتبعية.

في هذا الإطار يمكن رصد مؤشرات مبدئية على تفاهم أمريكي روسي للتعامل مع قضية سورية بالتوازي مع تضارب المصالح، وليس هذا جديدا في العلاقات الدولية، فمن الأمثلة على ذلك الاحتضان الروسي والصيني لإيران أو كوريا الشمالية، فهو فعال في صيغة "ورقة" لها تأثيرها على تقلّب العلاقات مع الغرب الأمريكي والأوروبي، ولكن يستحيل أن يصل إلى مستوى احتضان تحوّل إحداهما إلى دولة مسلّحة نوويا بدرجة تهدّد خرق الحظر الجماعي المذكور، وهذا ما ينعكس في قرارات مشتركة في مجلس الأمن الدولي تشمل موافقة الجميع على درجات متفاوتة من الحصار والإجراءات المضادة الموصوفة بالعقوبات (وكأنهم إدارة في مدرسة من مدارس العصر الوسيط الأوروبي يعاقبون أطفالا مشاغبين).

قضية سورية جزء من ثورات شعبية أسموها من البداية "الربيع العربي" للإيحاء بأنها جميعا مجرد موسم عابر وينتهي دون تغيير تاريخي، ولكن ثورة سورية فرضت معطيات متميزة إضافية على المحور المشترك مع أخواتها، أي انعتاق الإرادة الشعبية من موازين معادلة التبعية والهيمنة، المرتكزة على "أنظمة محلية" من مهامها المحورية ترويض الشعوب على التبعية سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا وأخلاقيا وثقافيا.. إلى آخره.

هذا المحور "الشعبي" المستجدّ في المنطقة العربية الإسلامية واجه تحركا دوليا مضادا للثورات حقق بالفعل أهدافا أولية، أهمها "تمكين بديل هزيل من استئناف وظيفة سلفه المهترئ الساقط" في البلدان الثائرة، فالمهم هو عدم الخروج على جوهر معادلة الهيمنة والتبعية، وهذه مرحلة في مسار "ربيع" الثورات الشعبية، ويمكن أن يتبدل اتجاهها لاحقا.. وليس هذا موضوع الحديث هنا، إنما المهم أن حالة الثورة الشعبية في سورية تخصيصا تميزت بعدم العثور على "بديل مناسب دوليا" حتى الآن.

 

مؤشرات جديدة

على أرض الواقع طرأت معطيات ومستجدات عديدة منها إقليمية ليست موضع الحديث، ومنها دولية أهمها:

١- تصعيد حجم التدخل المباشر من جانب موسكو سبّب تحجيما جزئيا لانفراد إيران بصناعة القرار والحدث في سورية بعد اهتراء النظام التبعي المحلي.. ولكن لم يحقق الهدف الأهم من حيث بسط السيطرة الروسية الحاسمة على صناعة القرار والحدث في مسار الثورة.. مع استئصال قوتها الذاتية.

٢- تزامن ذلك مع إخفاق سياسة "حصار الثورة" الذي مارسته الرئاسة الأمريكية السابقة، وصحيح أنها عرقلت مسارها نحو أهدافها فعلا، ولكن لم تنجح في صناعة بديل عن نظام فاقد للشرعية منذ ولادته، وفاقد -منذ اندلاع الثورة- لصلاحيته دوليا كبيدق في معادلة الهيمنة والتبعية.

٣- انفلات مشروع الهيمنة الإقليمي الإيراني وتجاوز الخطوط الحمر الدولية كما في نقاط التماس والصراع الإقليمي على النفوذ مع مشروع الهيمنة الصهيوني.

٤- إلى جانب توجيه ما يسمّي "رصاصة الرحمة" إلى إرث أوباما، تمت زراعة الوتد الأول لمعادلة تالية عبر ردة الفعل المباشرة على جريمة استخدام السلاح الكيمياوي في خان شيخون، بغض النظر عن مدى التورط الروسي في ارتكاب الجريمة.

ومن المستجدات على خلفية ما سبق:

٥- تبادل الاتهامات بأسلوب يتجاوز المعتاد "ديبلوماسيا" بين موسكو والعواصم الغربية، دون اتخاذ خطوات مباشرة تمنع الحوار السياسي الديبلوماسي نفسه.

٦- ظهور تعديلات أولية في صياغة مطالب الطرفين تجاه بعضهما بعضا، وهو المؤشر الفعلي (وسط الصخب) لاحتمال تفاهم ثنائي على مرحلة تالية في التعامل مع قضية سورية.

٧- من ذلك عبارات رسمية وأخبار رسمية تشير إلى أن الموقف الروسي في مجلس الأمن لا يعني التشبّث ببقاء شخص الأسد.. وتزامنت معها عبارات رسمية وأخبار رسمية تشير إلى أن الموقف الأمريكي لا يعني عدم الاستعداد للتفاهم على مرحلة ما بعد الأسد دون الإصرار على تغييبه مسبقا.

٨- في ذلك تمهيد للصيغة الجديدة للتلاقي في "منتصف الطريق".

٩- وتوجد "تفاهمات أخرى غير معلنة" وهو ما تكشف عنه وتؤكده تحركات مباشرة على الأرض، منها ما كان في "حي الوعر" وما سمّي اتفاق المدن الأربعة (متابعة التهجير والتوطين لتغيير "ديموجرافي") وكذلك استمرارية التحرك الميداني في الجنوب (على حدود الأردن والجولان) وفي الشمال الشرقي (على حدود العراق وتركيا)، والأرجح أن يتضاعف عنف التصعيد في استهداف الأحياء الشرقية الدمشقية ومنطقة الغوطة الشرقية.

. . .

يستخلص مما سبق بعض معالم محتملة للتفاهم الأمريكي الروسي:

١- ليس ممكنا في هذه المرحلة القضاء على الثورة الشعبية عبر إيجاد "بديل مستقر" يرث دور النظام المهترئ الساقط.. ولكن يبقى الهدف "الدولي" كما هو، وتتركز الجهود الحالية على إيجاد معطيات جديدة لتحقيقه، ميدانيا على الأرض في التعامل مع الفصائل الثورية وسياسيا في التعامل مع من يتصدر "تمثيل الثورة سياسيا".

٢- ينطوي ذلك على قبول موسكو بالتخلّي عن شخص الأسد وبعض المرتبطين مصيريا معه، واستبقاء ما يمكن استبقاؤه من الأجهزة الأخطبوطية المستشرية في البلاد نتيجة نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد خلال نصف قرن.

٣- وينطوي ذلك أيضا على قبول واشنطون ومن ورائها الاتحاد الأوروبي ببقاء شخص الأسد خلال جولات تالية من مفاوضات جنيف، بانتظار صناعة ظروف جديدة تسمح بالقضاء على وجوده دون حملة مباشرة ودون محاكمات دولية (لتخفيف حجم الإهانة لموسكو وتجنب إعطاء دليل جديد على مدى استهانة القوى المهيمنة بأتباعها عند اهتراء صلاحية خدماتهم لها).

٥- يضاف إلى ذلك دور روسي لا يتناقض مع أهداف موسكو بشأن الحد من النفوذ الإيراني تدريجيا.

 

القرار الثوري

كما سبقت الإشارة.. هذه تكهنات (ويوجد كثير سواها) تعتمد على مؤشرات عديدة من الأسابيع القليلة الماضية، وهي عرضة للاستكمال والتعديل، من خلال متابعة مزيد من المستجدات، المتوقعة والمفاجئة.

انتظار ما يصنع الآخرون يعني الموت.. وأهم شروط أيّ تحرك هو عنصر الزمن، وبالتالي لا ينبغي طرح الاحتمالات المذكورة حول الموقف الدولي أو طرح سواها دون السؤال المحوري المصيري في مسار الثورة الشعبية في سورية ومستقبل التغيير الجوهري المطلوب من خلالها:

هل ستبقى قيادات الفصائل الثورية على الأرض، والتجمعات السياسية في أروقة التواصل مع صناع القرار الإقليمي والدولي، متشبثة بالأساليب التي اتبعتها في السنوات الماضية.. ومنها ما يحمل مسؤولية مباشرة عن زيادة قدرة القوى المعادية على التحكم بمفاصل صناعة القرار والحدث في قضية سورية؟

هذه إن بقي الوضع على حاله سياسة عقيمة خطيرة.. البديل هو أداء الواجب الفوري والمصيري، ثوريا وإسلاميا وعربيا ووطنيا وقوميا وإنسانيا وحضاريا:

أن تخطو القيادات الميدانية والتجمعات السياسية خطوات عملية كي تنفذ الآن فعلا لا كلاما هدف توحيد  الصفوف الذي تقول به ويقول به آخرون من خارج نطاقها، ابتداء بتحويل لغة النزاعات والمزاودات والاتهامات والتفرقة إلى تفاهمات تتراكم نتائجها لإعادة الحياة من جديد في آليات صناعة القرار الثوري المستقل، انتهاء بترسيخ الأولوية لمصلحة الشعب، وهو سيد الثورة وجميع من ينتسب إليها، ولمصلحة الوطن وهو الوعاء الفعلي لوجودنا ولدائرة تحركنا بحكم الواقع القائم في هذه الحقبة التاريخية، وذلك من فوق كل اتجاه وتيار واجتهاد ورؤية متعصبة للذات.. مما بات يقوّض أهم دعائم الثورة.. على حسابنا جميعا وحساب الأجيال التالية من بعدنا.

نبيل شبيب