خواطر – دوامة المعاناة الإنسانية في مسار الثورة
الحرب بسلاح المعاناة الإنسانية هي الأشد خطورة، ويستخدمها أشقياء الاستبداد الفاسد وأعوانه الهمجيون مثله
يا إخوة الوطن والمعاناة والثورة..
هذا الخطاب لكم.. إنما عسى يسمعه بعض من يرون طريق الثورة قد طال، فتراجعت عطاءاتهم، خشية من أن ينقص ما بقي من طاقاتهم بين أيديهم.. وما نقص مال من "صدقة" ولا ينقص من "واجب مفروض" كالواجب المفروض عليهم هذه الأيام.
إن في مسار تاريخ التحول الكبير الجاري في سورية ومن خلالها عالميا قضية إنسانية كبيرة وخطيرة، ولكن لا تَدَعوا أحدا يحوّل قضية وطنكم وحاضركم ومستقبلكم وبلدكم وأهليكم وأبنائكم وبناتكم إلى "مجرد" قضية إنسانية.. بل هي قضية مصيرية، الواجب الإنساني في إطارها هو أحد الواجبات، وليس من يدفع شيئا من ماله كمن يدفع دمه وبعض أهله.
لقد فعلوها في فلسطين فجعلوها "قضية إنسانية" بين تشريد وحرمان وإيواء وغوث.. عبر بضع وستين سنة مضت، بعدما كانت قضية اغتصاب وتحرير.. ومعاناة، وترون أن مسخها إلى قضية مفاوضات هزلية عبثية لم يوصل إلا إلى مزيد من المعاناة المتفاقمة.
ولقد كان مما أنتجته النكبة الأولى بفلسطين على منحدر التراجع عن جوهر القضية هو تلك النظم الاستبدادية الفاسدة، وما تزال تنتج المزيد.. فتزيد من أسباب الآلام والمعاناة والتخلف والضياع، لنا جميعا، في فلسطين، وفي سائر ديار العرب والمسلمين.
يا إخوة الثورة.. ما أصعب أن يقول حامل القلم لحامل الراية: لن نكون -بإذن الله- ممّن يتحدث عنهم الأحفاد بعد جيلين -كما في قضية فلسطين- فيقولون إنهم تراجعوا في مسار ثورتهم التغييرية، وارتضوا اختزالها في "قضية معاناة إنسانية".. فأضاعوا القضية، وصنعوا مزيدا من المعاناة الإنسانية.
ويا أيها الإخوة "القادرين الداعمين".. لا تتركوا مسار الثورة يؤتى من قبلكم، فلن تسلموا آنذاك من تنديد أولادكم وأحفادكم بكم على مر السنين القادمة.
لقد بدأت المعاناة في سورية بوصول طغمة الفساد إلى السلطة، على أنقاض ما سبقها عبر عشرات السنين الفائتة، وبلغت المعاناة اليوم أقصى مداها.. ولكن لم نشهد من قبل مع المعاناة ما نشهده في هذه الأيام التي تعد بنصر قريب، وتعبّد بالآلام الطريق نحو عهد جديد.
الثمن كبير.. نعم، فسلعة التحرر غالية، وما هو بالتحرر من مجرد استبداد همجي فاسد فحسب، بل هو التحرر أيضا من جميع ما جعلنا نصنع الاستبداد الفاسد بأنفسنا ونغذّيه بأيدينا ونحمي بقاءه ونماءه واستمراره من خلال معايشة المعاناة اليومية صامتين، والمهانات المتكررة خاضعين، بسكوتنا على بعضنا بعضا عندما نشهد جميعا كيف يُسرق بعض أهلينا من أحضاننا ويساقون إلى المعتقلات، فإن خرجوا كانوا أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة.. ونحن نغض الطرف عجزا أو بدعوى أننا عاجزون، وكثير منا مشغول بنفسه وعمله وماله.
يا إخوة الوطن والمعاناة والثورة..
إن الحرب بسلاح المعاناة الإنسانية هي الأشد خطورة، ويستخدمها منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة أشقياء الاستبداد الفاسد وأعوانه الهمجيون مثله.
يدرك ذلك ويشهده أهل الأرض أجمعون، ومعظمهم ينتظر.. ماذا أنتم فاعلون!
هل تنكفئ الثورة ليستعيد الاستبداد الفاسد قدرته على الاستمرار بعد أن اهترأ؟
ألن يعود آنذاك التعامل الإقليمي والدولي معه إلى سابق عهده من قبل؟
وما كان التعامل معه يعبأ من قبل بما كان من أفاعيله وإجرامه منذ اللحظة الأولى لسيطرته الفاجرة على الوطن وأهله، بدءا بالغدر برفاق الدرب من طائفته وممّن والاه، مرورا بالغدر بفلسطين ولبنان، وصولا إلى المشاركة في فاتحة حروب تدمير العراق، وهو في جميع ذلك مع سدنة مشروع الهيمنة الإيراني على العرب والمسلمين منذ اللحظة الأولى لظهوره الحديث في بلادنا.
جميع ذلك كان معروفا من قبل.. وكان التعامل معه قائما، وهو معروف اليوم إن بقيت له باقية، فهل سيتبدل التعامل معه، من أجل "تحرر" إرادة شعب سورية من العبودية والاستغلال والمعاناة؟
إن جلّ ما تنحصر فيه أهداف بعض من يريدون أن يسقط هذا الاستبداد الفاسد، هو أن يأتي مكانه استبداد فاسد آخر يتعاملون معه، فليس سهلا على معظمهم أن يتصوروا حقا أن من مصلحتهم هم أن يتعاملوا -بدلا من ذلك- مع شعوب حرة عزيزة، في أوطان حرة مستقلة، ودول ذات سيادة تعمل من أجل أهداف إنسانية كريمة.
لهذا أصبحت التصريحات والنداءات والتقارير الدولية تغلب على الأفعال، وأصحابها يرون كيف يستخدم أشقياء الاستبداد الفاسد وأعوانه سلاح الحرب بالمعاناة الإنسانية تقتيلا فاجرا، وتشريدا غادرا، وحصارا همجيا، وتعذيبا شيطانيا.
ولكن ما يجب أن ندركه من قلب الثورة ومن يدعمها حقا، أن استخدام هذا السلاح لم يبلغ ما بلغه الآن، لولا أن الثورة تأخرت بضعة عقود.
ولئن لم تصل الثورة الآن إلى هدفها بعد كل ما كان في ثلاثة أعوام من بطولات وتضحيات وأخطاء وانتصارات، فلسوف تكون العقود القادمة أشد قتامة وسوادا، وتكون المعاناة أشد وطأة وأوسع انتشارا.
لم يعد بين بقايا النظام والميليشيات المستوردة وبين السقوط سوى "صبر ساعة"، هم يصبرون على جراحهم وآلامهم خوفا من مصيرهم المحتم في الدنيا والآخرة، والشعب الثائر يصبر على جراحه وآلامه متشبثا بتطلعه إلى نصر محتم موعود، وفوز في دار الخلود، وإلى التخلص الآن من تراكم المعاناة في حياتنا، جيلا بعد جيل.
وستنتصر الثورة بإذن الله، بنا جميعا.. إن اجتمعنا كما ينبغي، أو بقوم آخرين لا يتخلون عن العهد، ولا يفلت من بين أيديهم النصر بعد أن بات قاب قوسين من الصبر والعطاء والعمل.. أو أدنى.
نبيل شبيب