ذاكرة ثورية – رسالة من ثائرة مرهقة وجواب
يا جيل التغيير.. لا تستهينوا بما تصنعون.. ولا بأنفسكم فأنتم قادرون على صناعة المزيد!
وصلتني عقب انتشار الثورة في سورية بفترة وجيزة، أثناء ما سمّي "المرحلة السلمية" رسالة من أخت شابة كريمة من سورية، تعيش كملايين السوريين خارج الوطن، وكانت قد لفتت نظري بذلك القدر الكبير من الجهد الذي تبذله، والذي تنوء بحمله عصبة من الرجال والنساء معا، وهي تتلقى من داخل سورية الثائرة ما تتلقاه من أخبار مكتوبة ومصوّرة، فتتابع نشره وتعميمه ليلا ونهارا، فأعجب من ظهور اسمها المستعار في كل مكان من العالم الافتراضي، كأنّها لا تريد أن تذوق طعم النوم إلا في أرض الوطن المحرّر من الاستبداد القمعي الفاجر..
وصلتني منها رسالة لم يفاجئني محتواها كثيرا، فما نعايشه مع هذه الثورة الشعبية البطولية الحافلة بالتضحيات والآلام، ثقيل.. ثقيل.. مؤلم.. مؤلم.. وكثير منّا يستشعر أن النصر الموعود قد تأخر بالموازين البشرية، مع أنّ كل تغيير جذري تاريخي ضخم كهذا الذي تصنعه البطولات والتضحيات الشعبية الجسيمة، يتطلّب زمنا.. إنّما هي النفس البشرية السويّة التي تستشعر الألم فتقول.. كما ورد في تلك الرسالة:
(عذرا لتطفلي عليك سيدي
ولكني للحظة أحسست أني بحاجة إلى مشورة أب
أتابع الثورة منذ اندلاعها
تحمست لها بكل ما أوتيت من قوة
اندفعت لمعرفة كل مايدور في سوريا وتابعت الحدث لحظة بلحظة
أنشأت مجموعات، وأضفت الكثير من الأصدقاء للمجموعات
سهرت أياما ولياليَ متواصلة حتى ألاحق الحدث، لحظة بلحظة، وأقوم بنشره بعدة مجموعات
بكيت الكثير.. وتألمت الكثير.. لكل ما يجري حولي من مشاهد ومأسٍ.. بتّ أراها بمنامي وصحوي
عِفت الدنيا وما فيها لأجل ثورة، واثقة من نصرتها بعون الله بقوة أبطالها على الأرض.. وليس هنا!
الآن وللحظة، وقفتُ قليلا مع نفسي
ماذا أفعل أنا وماذا أقدم؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أظن: لا شيء
كل ماهنالك أنّي أنقل خبرا من مكان لمكان فقط
أهذا يخدم ثورة!!!!!!!!!!!!!!!!!
إن كنت لا أستطيع أن أخدم بلادي على أرض الواقع، فلا داعي لوجودي هنا
بكل بساطه قررت الانسحاب
عذرا منك سيدي ولكن احتجت لأب أبثه مكنون نفسي
عذرا منك سامحني!)
. . .
كلمات.. دخلت في صميم القلب، من فتاة تبذل أقصى ما لديها.. ولا تكتفي.. وأطمئن القارئ قبل أن أسترسل.. فهذه الفتاة التي أُكبرها وأقدّر جهودها.. وأستحيي من نفسي أمام ما تصنع.. واصلت الطريق.. ولا أحسبها ستتوقف حتى النصر، وستنتصر.. فهذا الجيل لا بدّ أن ينتصر، والنصر يكتمل بالبناء بعد زوال ذلك الكابوس الاستبدادي الرهيب الجاثم منذ عقود.. على تراب الوطن وفوق ظهر الشعب..
وكتبت لها جوابا هذه الكلمات.. واستأذنتها في هذه الأثناء أن أنشرها.. عسى يجد سواها من أمثالها، من "أبطال هذا الجيل".. من الفتيات والشباب، ما قد يفيد في تجاوز لحظات.. من الطبيعي أن تساور كل إنسان أثناء العمل وما يعترضه من مصاعب.. فما يصنع من إنجاز أعظم وأجلّ من كل صعوبة يلقاها:
. . .
يا (ابنة سورية البارة) التي تعيش في نعمة كبرى: نعمة من لا يستطيع النسيان ولا التناسي، ولا يستطيع التجاهل ولا الغفلة، فيعمل.. ثم يعمل، لأنه مرتبط أولا وأخيرا بالله، وموقن أولا وأخيرا بأن النتائج بيد الله (ليس لك من الأمر شيء) قالها لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلّم.. ويقولها لكل إنسان مؤمن إلى يوم القيامة.
أقدّر من أسلوبك في الكتابة -أختي الكريمة- أنك والله أعلم أصغر عمرا من ابنتيّ.. وعندما قرأت كلماتك غمرني خليط من المشاعر مما لا أكاد أستطيع وصفه، بين الاعتزاز العميق أن أحوز على ثقتك، والخشية الأعمق أن أخفق في أن أقدّم ما تستحق، وحاولت الكتابة أكثر من مرة ليلا، وأخفقت فعلا، وعزوت ذلك إلى ما يطرأ على من في عمري من تعب بعد أداء بعض ما عليه من واجب.. وذكرت مع رؤية جيلكم بهذه الطاقة وهذا العطاء وهذا الإبداع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغتنم خمسا قبل خمس، وكان منها: شبابك قبل هرمك.
. . .
لستُ وأمثالي يا بنيّة من يصلح أن يكون مصدرا للتشجيع أو تجديد الأمل أو تخفيف الإحساس بشيء من القنوط -وذاك شأن كل إنسان من البشر لأنه بشر- فوالله الذي لا إله إلا هو أنّ هذا الجيل الذي تنتمين إليه قد أعاد الحياة لنا، بل الطمأنينة أن مستقبل أمتنا وبلادنا أصبح في أيدٍ أمينة.. وإن كانت النقلة بين الحاضر الذي نخلّفه لكم، والمستقبل الذي تبنونه بأنفسكم.. نقلة مليئة بآلام المخاض، التي تتحوّل في حياة الإنسان إلى طاقة من المحبة والعطاء والسعادة، لا يعادلها إلا أن تكون الجنة تحت أقدام من عانت منها.. ذاك في حياة الفرد، وهو أيضا في حياة الأمم.
هذه الثورة -في سورية وأخواتها- ليست إنجازا يتحمّس له المرء أو لا يتحمّس ويثني عليه أو لا يثني، بل تسري في جوانح الإنسان السوي سريان الدماء في عروقه، فلا يستطيع عنها فكاكا، ولا يمكن أن يجد طريقه بها ومعها وهو ممّن يصنعونها انسحابا أو نكوصا أو استقالة أو قعودا من جديد.. إنها لحظة التغيير، تغيير النفوس، والمجتمع، والتاريخ في وقت واحد، وعندما تبدأ تلك اللحظة.. لا تتوقف عجلة التغيير في النفوس وعلى أرض الواقع إلا بحصول التغيير.
. . .
لا أستطيع أن أقول لك: توقفي.. ولا أن أقول: استمري.. وإن قلت لنفسي أكثر من مرة كلما انتابتي بعض المشاعر العابرة من هذا القبيل: يجب أن أستمر في أداء ما أستطيع حيث قدّر الله لي أن أكون أثناء هذه الثورة التي ترعاها يد الله، فلا تتجلّى لنا حكمته في رؤية ما نرى ومعايشة ما نعايش.. إلا بعد حين، ولا نقول إلى ذلك الحين ومن بعد سوى: لك العتبى حتى ترضى، لك الحمد على ما قضيت.
بل أقول أيضا: لئن خبت شعلة هذه الثورة لسبب من الأسباب في لحظة من اللحظات -ولا أعتقد ذلك إطلاقا وفق تقدير موضوعي لمجراها- فلا يوجد لفرد من الأفراد مبرر أن يتوقف عن أداء ما يستطيع من الواجب.. طلبا لمرضاة الله، ولا بد أن يتحقق الهدف، فذاك وعد من رب العالمين، لا يساور المؤمنَ شكّ فيه إطلاقا.. لا سيما وأنه لا يمكن أن يجمع قلب المؤمن الإيمان واليأس قطّ.
. . .
لا أستطيع أن أقول استمري ولا توقفي.. فهذا أمر بينك وبين نفسك.. بينك وبين رب العالمين.
ولكن أستطيع أن أقول: إن المهمة التي تؤدّينها مع من يشاركك العمل من أمثالك، أعظم بكثير ممّا تصوّرنيها ببعض العبارات تحت تأثير بعض المشاعر العابرة.
وأستطيع أن أقول: ربّما تؤدّينها بجهد أكبر مما ينبغي.. فلا أعرف في جميع ما يصلني مما يشابه ما يصلني منكم، مما يمثل كمّاً من الجهد والعطاء، كذاك الذي أرصده عبر موقعكم، وربما يحسن التخفيف قليلا، ليس لعدم الفائدة، بل من باب تركيز الفائدة، من خلال عملية انتقاء وإعطاء الأولوية لبعض ما تنشرون على بعضه الآخر.
إنّما أعاتبك يا بنيّة أن تقولي ما يثير العبرات في عيني، إذ تبدئين بقولك: عذرا لتطفلي.. وتختمين بسامحني.
وأقسم برب العزة -ونادرا ما أقسم- لو وصلتني منك رسائل من هذه القبيل يوميا، لما شعرت لحظة واحدة بتطفل.. ولا إزعاج.. وإن شعرت بقصور من جانبي.
واسمحي لي أن أقول، إنني يعلم الله -كما أحب ابنتيّ- أحبك في الله ولا أعرف اسمك، مثلما أحب شباب هذا الجيل وفتياته، فقد كنت منذ عشرين سنة أعلق عليه الآمال، كان بعض من أعرف من أقراني يجد فيما كنت أكتب "مبالغة" ويتحدّثون عن جيل غرق في اللهو الحلال والحرام، وفور اندلاع ثورة مصر بعد تونس، كان بعضهم يتصل بي ليقول: لقد كنت محقا فيما تكتب!
إنكم جيل التغيير.. وستغيّرون، وجيل الحرية.. وستتحررون، وجيل الوحدة.. وستتوحدون، وجيل التقدم.. وستبنون المستقبل بعقولكم ووجدانكم وعطاءاتكم.. وهذا فقط ما بقي لنا في هذه الحياة الدنيا، عندما نرحل عنها مطمئنين إلى قادم الأيام في حياة أمتنا وبلادنا بل في واقع البشرية التي تحملون أيضا المسؤولية عنها.. ولقد وصلت الآثار الأولى لثورتكم إلى أعماق بلدان حكمتها المادية وحكمت العالم من خلالها لعدة قرون.
لا تستهينوا بما تصنعون.. ولا بأنفسكم فأنتم قادرون على صناعة المزيد. ومع ذلك أدعوك إلى حفظ التوازن فيما تشتغلين فيه، ولا أعلم هل تدرسين، أو تدرّسين، وهل لك أسرة وأطفال أم ليس بعد، إنّما يعطي التوازن -بإعطاء كل ذي حق حقه، كما ورد في الحديث الصحيح، طاقة كبرى على مزيد من العطاء.
لك كلّ تقديري من الأعماق.. وأسأل الله أن أعايش يوما أتعرف به عليك على أرض سورية المحررة بإذن الله.
والسلام عليك ورحمة الله.
نبيل شبيب