تحليل – وللمجانين أعيادهم
علماء النفس: الفرد الألماني يفتقر افتقارا شديدا إلى المتعة وإلى الإحساس بالسرور في حياته اليومية المعتادة
مع حلول يوم الصيام وفق تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، ينتهي ما يُسمّى "الفصل الخامس" من فصول السنة! ويبدأ هذا الفصل رسميا في تمام الساعة (١١) والدقيقة (١١) في اليوم (١١) من الشهر (١١) من كلّ عام ميلادي، ويُعلن عن تلك البداية في تلك اللحظة في مدينة كولونيا، في حوض الراين بألمانيا، بالصخب والغناء والرقص والموسيقا، وهو الفصل الذي يطلقون عليه أيضا اسم فصل الجنون أو فصل المجانين، ويستمر هذا الفصل إلى أن يحين -كما سبقت الإشارة- يوم الصيام، الذي يصادف يوم أربعاء في النصف الثاني من شهر شباط/ فبراير غالبا.
خذوا الحكمة من أفواههم!
ليس استخدام تعبير "الجنون" هنا من قبيل توجيه تهمة أو إطلاق وصمة، وليس فيه افتراء على أحد كما قد يتبادر إلى أذهان من لا يحبّون أن يوصفوا بالجنون ولو كانوا مجانين فعلا، فأصحاب الشأن المعنيون بالحديث عن هذا الفصل الخامس هم الذين يصفون أنفسهم بذلك، ويحتفلون فيخطبون في بعضهم بعضا، فينادي خطيبهم في جموعهم بقوله: "أيتها المجنونات العزيزات.. أيها المجانين الأعزاء!".. فيصفقون ويبتهجون، وهكذا طوال فترة أعياد المجانين كما يسّمون هذا الفصل الخامس أيضا.. الذي يستمرّ ثلاثة شهور، كما هو الحال مع الفصول الأربعة التي يعرفها (العقلاء) ويسموّنها ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء.
في يوم ثلاثاء قبل يوم واحد من حلول الموعد الرسمي للصيام، تنطلق جموع من المجانين أو وفود تمثلهم، ليجوبوا شوارع مدينة كولونيا –كما هو الحال في مدن أخرى عديدة في ألمانيا وسواها- وليحرقوا عددا كبيرا من الدمى المزركشة، طالبين التوبة والصفح، عمّا صنعوه واقترفوه على مدى الأسابيع الماضية، وما بلغوا به المدى الأقصى في الأسبوع الأخير منها.. فهم يعلمون أنّه قد آن أوان الاستعداد للصيام، ومعروف أنّ صيامهم يعني الامتناع عن تناول اللحم، وكان ذلك في الماضي لمدة سبعة أسابيع تنتهي بعيد الفصح، واختُصرت المدّة مع مرور الزمن، وفق أوامر بابوية، فبقيت شكليا في حدود يومين، الأول والأخير، ورغم ذلك فربّما لا يلتزم بذلك الصوم المختصر إلاّ قليل جدا من أولئك الذين كانوا يحتفلون بوداع اللحوم واستقبال الصيام، وفق ما يعنيه اسم آخر يطلقونه على فترة الفصل الخامس، وهو الاسم الأكثر شيوعا من سواه، فكلمة "كرنفال" لاتينية الأصل، وتعني "وداعا أيها اللحم".. أمّا تعبير "فاسـت ناخت" المستخدم لوصف المناسبة نفسها، فتعني لغويا "ليلة الصيام"، إنّما يقول أهل اللغة إنّ أصلها الحقيقي هو كلمة "فاسلن" ومعناها ارتكاب أمور جنونية أو ممارسة تصرّفات معتوهة.. وذاك أقرب إلى الواقع المشهود في تلك الأيام، فالجنون خلالها هو العلامة المميّزة، وإن كان في ألمانيا بالذات "جنونا منظما" فقد حرص الألمان المشهورون بعشقهم للنظام، على تنظيم شؤون احتفالاتهم الجنونية أيضا تنظيما دقيقا، وعلى سبيل المثال، ففي مدينة كولونيا وحدها يوجد ١٦٠ مجموعة تعمل على مدار العام، لترتيب أمور حوالي ٥٠٠ احتفال وتجمّع ومسيرة، خلال تسعين يوما تقريبا من أيام "الفصل الخامس"، ويسري شبيه ذلك على معظم مدن حوض الراين، الألمانية وغير الألمانية.. ولكن الكرنفال لا يقتصر عليها، ولم تبدأ نشأته الأولى فيها.
يوم خميس النسوة..
يبدو أن تعبير الجنون كان يستخدم في وقت مبكّر عن قصد للتغطية على أمور أخرى، ففي إيطاليا، على مقربة من مقر الكنيسة البابوية، كانت البداية في القرن الثاني عشر الميلادي، على شكل تمرّد على سلطان الكنيسة، يوم كانت مسيطرة على البلاد والعباد سيطرة استبدادية مطلقة، فمن أعلن عن نفسه أنّه "متمرّد عاقل" كان مهدّدا بالقتل، ولكن المتمرّد معذور عندما يكون مجنونا أو معتوها، فليس من السهل إيقاع العقوبة بشخص يستخدم أسلوب مزاح ساخر في نقده، ولو كان لاذعا. على أنّ التمرّد لم يتجاوز في البداية حدود طلب المتعة، استعدادا للصوم.. إذ كان يتضمّن واقعيا تلبية التعاليم الكنسية، وبقي الأمر في حدود متعة احتفالات بسيطة وألعاب جماعية، اقترنت تدريجيا ببعض الأقاويل مثل الحديث عن دور الرقص في دفع برد الشتاء، ولمكافحة الخوف في ظلمة ليله الطويل، فضلا عن معتقدات خرافية عن التداوي من مرض لا يجد الفقراء خاصّة سبيلا لمواجهته سوى الخرافات.
ووصلت احتفالات الكرنفال إلى فلورنسا والبندقية، فانتشرت في القرن الميلادي الخامس عشر عادة ارتداء الألبسة المزركشة والتنكرية، ثمّ انتقلت من هناك إلى فرنسا، فأضافت أجواء الثورة الفرنسية على الاحتفالات طابع التمرّد السياسي، وانتشر أسلوب إلقاء الكلمات والخطب الناقدة اجتماعيا وسياسيا، جنبا إلى جنب مع اتساع نطاق ارتكاب الموبقات تحت تأثير الخمرة، كما كان معروفا عن المجتمع الفرنسي آنذاك عموما في فترة التحوّل من الملكية إلى الجمهورية.
وبلغ التمرّد المتمسّح بالجنون مستوى "الكمال" عندما وصل إلى ألمانيا، حيث اندلعت شرارته الأولى في بلدة بويل، التي أصبحت في هذه الأثناء من ضواحي بون، فهناك نشبت عام ١٨٢٤م ثورة "الغسّالات"، إذ جمعت عددا كبيرا من النسوة المتمرّدات على أزواجهن، وعلى الرجال عموما، فمنعن أيّ رجل من حضور اجتماعهنّ التآمري، ثم خرجن إلى دار مجلس البلدية فاستولين عليها تعزيزا لمطالبهن "العاقلة جدا".. فقد كان همّهن الرئيسي آنذاك هو أن يتخلّى الرجال عن الخصومة دون أسباب تستحقها. ومنذ ذلك الحين إلى اليوم.. لا يأتي يوم الخميس الأخير قبل فترة الصيام، وقد أصبح يحمل اسم "خميس النسوة"، إلاّ وتنطلق النساء في كل مكان لاحتلال مجالس البلديات والدوائر الحكومية وغرف رؤساء الشركات والمراكز التجارية وسوى ذلك من الدوائر والهيئات العامّة والخاصة.. وهو ما يبدأ أيضا في مثل ذلك الموعد "الغريب" من اليوم المذكور، أي في تمام الدقيقة الحادية عشرة من الساعة الحادية عشرة.. وليس يوم خميس النسوة يوم عطلة، بل قد يبدأ في ألمانيا كسواه، بجوّ من العمل الدائب، والنظام المتناهي، ولكن يلفت النظر أنّ امرأة ربّما ناهزت الستين وقد علّقت لنفسها ذيلا كبيرا تجرّه وراءها، وأخرى ترأس دائرة صغيرة حوّلت أنفها إلى أنف ضخم أحمر اللون، وثالثة زيّنت رأسها بقبعة مزركشة مزدانة بالريش.. ولا يشذ الرجال عن مثل ذلك وإن لم يكن هذا اليوم يومهم، فما إن يحين الموعد المذكور، حتى يتحوّل هؤلاء من العمل المنظم المعتاد، إلى حالة من الفوضى تجعل الدوائر الرسمية وغير الرسمية أشبه بأجنحة في مستشفى ضخم للمعتوهين، وقد استلموا إدارته ولا أطباء فيه!
.. ويوم إثنين الجرّة!
لم تعد المشاهد في يوم ثورة النساء هذا تقتصر على ما كان من تحرّكات رمزية باتجاه مجالس البلدية، أو ما استحدث من عادات مثل قصّ ربطة عنق من تصادفه المرأة من الرجال في الشوارع أو الأبنية أو أي مكان.. تعبيرا عن اغتصاب دور السيادة من الرجل.. بل تجاوزت هذه المشاهد شكليات الرموز إلى ما جعل التمرّد على الكنيسة تمرّدا على سائر الضوابط، وجزءا ممّا بدأ في أواخر ستينات القرن الميلادي العشرين وعرف بالثورة الجنسية، التي رافقت ثورة الطلبة، فما تصنعه النساء بدءا بفتيات المدارس داخل المدارس المختلطة، وانتهاء بالعضوات في مجلس نيابي أو الوزيرات في الحكومة، قد تحوّل -ولكن بدرجات متفاوتة- إلى طلب المتعة فحسب، بحثا عن مغامرة مقصودة يتجنبّها العقلاء في الفصول الأربعة، أو خروجا عن المألوف أو تحدّيا للزوج أو الصديق العشيق، دون أن يلوم أحد أحدا، فالجميع مندمجون في جنون إباحي، والجميع في جنونهم هذا سواء!
العلاقات الإباحية هذه من العلامات الثابتة في سائر احتفالات الكرنفال.. التي تقام في الحانات والبيوت وفي أماكن العمل وفي الشوارع، مقابل ما يسمّى "جلسات الكرنفال" التي تجد تنظيما خاصا يركّز على أسلوب النقد الساخر والاستعراضات المسرحية، وهو ما تنقله الشاشة الصغيرة أكثر من سواه، كما تنقل المسيرات الأشبه بمهرجان تنكري شعبي ضخم في يوم الاثنين، أو يوم المسيرات في مجموعات استعراضية وسلسلة من العربات المزيّنة المزركشة، التي يوزع راكبوها الورود والحلويات على المتفرجين، ومعظمهم في ألبسة مزركشة وتنكرية أيضا، ومن هنا كانت تسمية يوم الاثنين الأخير قبل الصيام، بيوم "اثنين الورود"، ويطلق عليه لسان العامّة وصف "يوم الاثنين الإباحي"، وعرف أيضا باسم "يوم الجرّة"، فقبل بدء الصيام كان وما يزال الحرص الأكبر على احتساء القدر الأعظم من أنواع الخمر والنبيذ حتى الثمالة، بينما عرف يوم خميس النسوة بوصف "اليوم القذر" أيضا، والمقصود بذلك قذارة الدهون التي تستخدم فيه بكثرة لإعداد أثقل وجبات الأطعمة، فبها يبدأ اليوم الأول من آخر أسابيع الاستعداد لوداع اللحم.. وقد يعود ذلك إلى صورة من صور التعبير عن التمرّد أيضا، فقد كان كبار رجال الكنيسة الأثرياء يخصّون أنفسهم في منطقة شفابن بمأدبة ضخمة يوم الأحد قبل الصوم بثلاثة أيام، فصار العامّة يصنعون ما يستطيعون صنعه من أطعمة لا يملكون لصنعها سوى "الدهون القذرة"!
الجنون فنون!
يبقى أن المحور الرئيسي لسائر المعاني الرمزية في الكرنفال هو التمرّد ومواراته وراء قناع الجنون، وإن اتخذ هذا صورا مختلفة ومتناقضة أحيانا، ما بين أمريكا الجنوبية حيث يغلب التمرّد الإباحي والاجتماعي في مجتمع سيطرت الكاثوليكية عليه بقوة في عهود الاستعمار الإسباني والبرتغالي، وحتى ألمانيا، حيث يتجاوز الكرنفال حدود حوض نهر الراين، إلى بافاريا مثلا، وهي معروفة أكثر من سواها كمجتمع كاثوليكي محافظ، ومن صور التمرد هناك تعليق الأجراس الأشبه بأجراس الكنيسة على ثياب بيضاء نقية، يرتديها أفراد يحمل الواحد منهم من تلك الأجراس ما يصل وزنه إلى ٣٥ كيلوجراما، فينطلقون بها وبأصواتهم في شوارع المدن الصغيرة.. وهذا ما يفعله "المجانين" في منطقة الآيفل غرب البلاد، ولكن بغرض طرد الأرواح الشريرة، كما انتشر في عادات البلاط الملكي في عهد الدوق آرنولد الثاني في بلدة "بلانكهايم" قبل مئات السنين.. وروح التمرّد تصبغ أيضا سلوك تلاميذ المدارس في منطقة كونستانس جنوب ألمانيا، فهناك يخرجون في ساعة مبكرة من يوم الأحد، ليوقظوا بصخبهم وضجيجهم أساتذتهم، ويعرّضونهم لألوان من الاضطهاد الرمزي!
وكما هو الحال مع كلّ تمرّد على السلطة، فقد حاولت الكنيسة كبت هذا التمرّد المجنون أيضا، وبذلت محاولات جادّة عديدة.. دون جدوى، فكان المزيد من الضغط يولّد مزيدا من السخرية والتهكّم والضحك.. ولعلّ أطرف ما أسفرت المعركة عنه، أنّ الكنيسة في منطقة ساكسونيا السفلى، أصدرت قرارا بتقديم موعد الاحتفالات الختامية، باعتبارها تمثّل ذروة التجاوزات الإباحية لتبتعد بذلك "السلوك المشين" وما يرافقه من فجور وخمور عن أيام الصيام التالية له مباشرة.. فما كان من "المجانين" إلاّ أن استجابوا للكنيسة فعلا، فبكّروا موعد احتفالاتهم الختامية، فهي تبدأ إلى الآن في ساكسونيا السفلى قبل المناطق الأخرى بأسبوع.. ولكنّها تستمرّ أسبوعين، إلى عشية موسم الصيام!
وإذا كان المثل الشعبي في بعض البلدان العربية يقول: الجنون فنون.. وأقلها ثمانون، فقد تجاوز مجانين الكرنفال هذا الرقم منذ زمن طويل، بما يصنعون وبحجم المشاركة الجماعية فيه، حتى أصبحت مسيرات يوم الاثنين فقط تضمّ عشرات ألوف المشاركين وملايين المشاهدين ومئات العربات والفرق الراقصة والعازفة، فضلا عن مئات التجمعات الناقدة الهزلية على مدار ثلاثة شهور، ثم أطنان من الحلويات التي توزع، ومثل ذلك من الخمور التي تحتسى.. ومن النتائج في ولاية رينانيا وستفاليا، الموطن الرئيسي لاحتفالات الكرنفال، أنّ الشرطة تستوقف في الأيام الأخيرة من الاحتفالات ما لا يقل عن ١٠٠ ألف سيارة، وغالبا ما يكون خُمس السائقين تقريبا، أي زهاء عشرين ألف سائق، تحت تأثير الخمرة، بدرجات متفاوتة.. ومعروف أنّ الخمرة تتصدّر مع السرعة أسباب حوادث. ومن النتائج أيضا في كولونيا التي يعلن فيها عن بداية الكرنفال واختتامه، أنّ بلدية المدينة تنفق زهاء ٤٠٠ ألف مارك (كانت تعادل ٢٠٠ ألف يورو) على تنظيف الشوارع عقب يوم الاحتفالات الأخير من أيام الكرنفال، فالقمامة التي تتجّمع يناهز حجمها ١٠٠٠ متر مكعب!
التمرّد.. على من؟
الأيام الأخيرة من فصل الجنون أو موسم الجنون هذا هي عند نسبة كبيرة من "العقلاء" من سكان حوض نهر الراين، أيام الهروب الاضطراري من مناطق الكرنفال لقضاء إجازة لبضعة أيام في أي منطقة هادئة أخرى، وهذا ما يسري على الحكومة نفسها، ولكنّها لا تستطيع التملّص تماما من أداء واجبها في عيد المجانين، فمنذ عام ١٩٥٦م أضاف هؤلاء إلى تقاليدهم تقليدا ثابتا، أن يقتحموا مبنى المستشار الألماني أيضا كما يصنعون مع مجالس البلديات، ويجري ذلك يوم الخميس، يوم تمرّد النسوة. ولم يكن المستشار السابق هلموت كول، يتردّد عن المشاركة الفعّالة في جنون الاحتفال، فهو من أبناء منطقة الراين العريقة، بينما بدأ التردّد يظهر منذ العام الأول في عهد خلفه المستشار جيرهارد شرودر، وهو من شمال ألمانيا الهادئ طوال فترة "الفصل الخامس".. وقد وجد شرودر صعوبة في التلاؤم مع العادة المسيطرة على بون، وهرب فعلا في العام الأوّل من حكمه إلى واشنطون، فجعل زيارته الرسمية لها في تلك الأيام بالذات، ولم يراوغ عندما سئل عن ذلك فأجاب: "نعم هذا هروب، من يوم النسوة، فلا أحد يعلم ما يمكن أن يصنعنه، وفي الحكومة عدد كبير منهنّ، أعرفهنّ فأنا أعي ما أقول، ويكفي أن حياتي معهن صعبة على كل حال".
على أي حال.. لا يخلو الكرنفال من النقد السياسي تجاه الدولة ورجالها وأحزابها، وعلى المستوى العالم وأحداثه وصانعي القرار فيه.. ولكن يبقى ذلك في حدود الدعابة الهادفة، ويبقى جزءا من الكرنفال، محدودا بالمقارنة مع الصور الأخرى المعبّرة عن التمرّد على ثوابت المجتمع، وقد فقدت الكنيسة سيطرتها عليه كما هو معروف، فعلى ماذا التمرّد الآن؟ وعلام يتجاوز البحث في كلّ عام عن مزيد من أشكال الجنون الجماعي لممارسته وتجاوز حدود ربّما وقف عندها في عام سابق؟
عالمة النفس جيرهيل فون مولر من كولونيا تقول إنّ هذه الفترة الجنونية أشبه بفترة "إجازة من الذات".. فالناس فيها يفرّون إلى "الأقنعة" رمزا للتخفي بما يصنعونه، ممّا يتجنّبون صنعه علنا في الأحوال العادية وفي معيشتهم اليومية الرتيبة.. كما أنّهم يفرّون إلى حالة "انعدام تميّز الفرد" من خلال المشاركة الجماعية في المتعة بالمحظور، ومن خلال امتناع الجميع عن حظر ما يشاركون بأنفسهم في صنعه!
ويمضي هايكو إرنست، عالم النفس ورئيس تحرير مجلة "علم النفس اليوم"، شوطا أبعد فيقول إن الفرد الألماني يعيش دوما تحت ضغط ثقيل من الرقابة الذاتية على نفسه، فهو يخشى إن تكلم أن تفلت منه كلمة تعبّر عن الغباء، وإن تحرّك أن ينزلق إلى تصرّف طائش، وهو في ضيق إن لم يجد سببا مباشرا له تكفي حالة الطقس لاصطناعه، أو يكفي ما تنقله وسائل الإعلام، أو سوى ذلك ممّا لا يملك تغييره، فيعزو له سبب الضيق الذي أدمنه.. وعندما يأتي الكرنفال يتمرّد على نفسه، من خلال تمرّده على سائر ما حوله من ضوابط، أو بقية باقية من الضوابط.
والألمان في حاجة إلى الخروج من همومهم، وهم يقولون عن أنفسهم إن في حياتهم من الجدية ما جعل الضحك ضيفا غريبا عليهم، ويقول عالم النفس كريستيان فان دير إنده، المتخصص في ظواهر التواصل البشري، إن الفرد الألماني يفتقر افتقارا شديدا إلى المتعة وإلى الإحساس بالسرور في حياته اليومية المعتادة.. ويسري هذا على من يعيشون على انفراد في وحشة مضاعفة، كما يسري على من يعيشون في أسرة من فردين أو أكثر.. بل أصبح "اصطناع الوجه الطليق عملا شاقا"، على حدّ تعبير الباحثة الاجتماعية مارياني هامرل من جامعة دوسلدورف، وهذه ظاهرة تنعكس في الامتناع عن الضحك وعن إبداء السرور والبهجة، بصورة متزايدة مع مرور الزمن بين عامة أفراد المجتمع، وكذلك مع تقدّم العمر، لا سيّما بعد بلوغ الأربعين. وبات الألمان يحاولون بصورة منظمة لا جنون فيها، مواجهة هذه السلبيات، فأصبحت دورات إعداد رجال الأعمال، تضمّ فقرات خاصة ليتعلم رجل الأعمال وفق منهج محدد "كيف يتصرّف مع من يحتكّ بهم ليثير البهجة لديه ولديهم".. وتقوم بعض الشركات باستدعاء فرق فنية وتمثيلية مع تحميلها مهمّة إدخال السرور والبهجة على العاملين والمستخدمين فيها، ولكن يبقى دواء "الجنون" في الفصل الخامس من السنة، هو الأوسع انتشارا والأكثر تعاطيا، وهو الأعرق تاريخيا والأشدّ مفعولا.. ومن يدري، فقد يتقرّر تمديده كما يذكرون في جلسات الكرنفال، ليشمل سائر العام تخلّصا من كآبة الفصول السنوية الأخرى!
نبيل شبيب