تحليل – مناطق آمنة.. وسورية مستباحة؟

أمن الإنسان في سورية يفرض استئصال الورم الأسدي الاستبدادي الخبيث من جذوره، وقطع أذرع أخطبوط ارتباطاته العدوانية الخارجية

40

أصبحت مسألة “المناطق الآمنة” بالغة التعقيد، ولا يفيد كثيرا الدخول في تفاصيلها قبل أن تتضح معالم المواقف المتناقضة بين من يتحدث عنها من المسؤولين سلبا وإيجابا، رفضا أو تأييدا. وقبل سنوات عندما طالبت تركيا بإلحاح بما كان يطالب به السوريون، بشأن إقامة مناطق آمنة أو محمية أو عازلة، كان الوضع في مسار الثورة والتحرك الدولي المضاد لها أقرب إلى تحقيق ذلك وتحقيق الفائدة العملية منه، وكان أول من أجابها الغرب وحلفه الأطلسي بالرفض ثم بإجراء عملي، بسحب “بطاريات صواريخ باتريوت” على الحدود مع سورية المنكوبة ببقايا النظام المتسلط عليه وداعميه.

وتجدد الحديث مع مشارف حلول العام السابع على انطلاق الثورة عن “مناطق آمنة”، بعد أن أصبحت سورية من أقصاها إلى أقصاها مستباحة برا وجوا وبحرا لكل من هبّ ودبّ، فلم يعد يفيد السؤال إلى من تنتمي القذائف في الأجواء وعلى الأرض، بقدر ما ينبغي السؤال عمّن لا يشارك مباشرة أو غير مباشرة في إطلاق تلك القذائف (وعدد الدول المشاركة أكبر من عدد الدول التي شاركت في الحرب العالمية الثانية) أو يشارك على الأقل في التمكين من استمرار القصف أو الصمت المخزي إزاءه.

 

تساؤلات غير سياسية

قبل الحديث عن العقبات السياسية والعسكرية (ولا نقول القانونية الدولية.. فمراعاتها لا تسري على سورية وأخواتها) يحسن التساؤل وفق ما يمكن أن يتردد على ألسنة عامة أهل سورية:

ما الذي تحققه المناطق “الآمنة” الآن لمئات الألوف من الشهداء أثناء الثورة على طريق من سبقهم منذ بدأ التسلط الأسدي فيها؟

ما الذي تحققه لمئات آلاف المعتقلين والمعتقلات، وهم يوميا عرضة للتعذيب وللإبادة الجماعية بالألوف داخل المعتقلات، كما كشف مؤخرا عن بعض ما شهد سجن صيدنايا قرب دمشق، وسبق الكشف عن شبيه ذلك من قبل، على غرار ما عرفه ضحايا سجن تدمر في العقود السابقة؟

ما الذي تحققه للملايين الذين حلّ بهم الترحال عن وطنهم في أوطان تستضيفهم وتكرمهم نسبيا -كما في كندا وألمانيا وتركيا- ولا يمكن أن تعوضهم عن تراب وطنهم ودفء أهليهم من حولهم، أو حل بهم الترحال في بلدان لا ينقطع فيها استعراض الضيق بهم وإهانتهم يوميا والتعدي عليهم أحيانا، فضلا عن الاستعداد لطردهم في أول فرصة تبرر ذلك ولو ظاهريا؟

ما الذي تحققه لقوافل التشريد وهي ترحل داخل الوطن من “بقعة” جغرافية إلى أخرى، ومن “غابة” إلى غابة، ومن مغارة جبلية إلى مغارة، وتتابعها القذائف (قصدا.. وربما مع زعم الخطأ غير المقصود أحيانا) فلا تجد الأمان من جانب طائرات بقايا النظام ولا خناجر ميليشيات سيده الإيراني، أو قذائف سيده الروسي، أو غارات “التحالف الأمريكي” بدعوى الحرب على إرهاب داعش، أو ما يسببه غدر الدواعش وفق ما نشؤوا أو أنشئوا لصنعه، ويوجد سواهم أيضا كفريق فصل نفسه عن السوريين من الأكراد، المظلومين كسواهم من شعب سورية، أو كفريق لا يزال يحسب أن نصرة أهل سورية تكون بفرض ما يراه هو وليس بما يراه أهل سورية بأنفسهم لأنفسهم.   

سورية اليوم مستباحة بأكملها، لألف فريق وفريق بصورة مباشرة، وليس للأسديين فقط كما كانت لعدة عقود مضت بدعم خارجي غير مباشر، وشعب سورية اليوم مستباح لألف عدو وعدو، من بين يديه ومن خلفه، يستهدفون صدور المدنيين وظهورهم وأحشاءهم وجميع أسباب عيشهم وبقائهم، فلو صح القول بجدوى “مناطق آمنة” لوجب أن تشمل التراب السوري بكامله.

 

العقدة العسكرية السياسية

لم يتجدد الحديث عن “المناطق الآمنة” نتيجة مشاورات جديدة أو توافق مسبق، فمن المبكر لأوانه الحديث عما يظهر لاحقا بهذا الصدد، فتكفي التساؤلات المبدئية دون الجزم بحصيلة مرجّحة.

عندما رفض من كانوا يقولون إنهم “أصدقاء شعب سورية” إنشاء مناطق آمنة أو عازلة كانت إقامتها ممكنة عسكريا، وكانوا يعلمون ذلك، إنما لم يكن تنفيذ الطلب التركي (والثوري السوري) متوافقا مع ما يريدون تحقيقه سياسيا، وهو تحويل الثورة الشعبية إلى “حرب عالمية أو إقليمية أو أهلية أو أزمة سياسية.. أو مشكلة إرهابية” بهدف التعامل معها بذريعة حماية العالم منها بدلا من حماية شعبها من استبداد إجرامي محلي، ومن “عالم يدعم الاستبداد محليا ويمارسه دوليا”.

ومن القرائن على علمهم آنذاك بإمكانية إنشاء مناطق آمنة عسكريا آنذاك، أنهم لم يحاولوا أصلا استصدار قرار من مجلس أمنهم الدولي، أو عبر توافق دولي “عريض” عندما أقاموا واقعيا مناطق “آمنة” لمواقع استباحوها هم تحت عنوان “تحالف دولي للحرب على الإرهاب” لتحمي طائراتهم وسواها من أسلحتهم، ولتحمي جنودهم ومن يتعاون معهم، بل لتحمي أيضا استمرار المعركة ضد “الإرهاب” إلى أن يتم هدف تبديل الوجه الشعبي للثورة التغييرية التاريخية.

الآن.. من الناحية العسكرية والسياسية، لا تتحقق حماية “منطقة آمنة” من العدوان ضد المدنيين دون شرط مستحيل التحقيق، وهو التلاقي دوليا على نهج مشترك من أجل “قوة عسكرية متفوقة وإرادة سياسية متوافقة”، وقد توافق الروس والأمريكيون عسكريا وسياسيا مثلا على حماية طائرات بعضهم بعضا، وتبادل المعلومات بصدد غاراتها وأهدافها، ولكن هل يوجد أي احتمال الآن لتوافقهم على مناطق آمنة ولو لنسبة محدودة من شعب سورية؟

هذا معروف سابقا ولم يتبدل بعد ما صدر عن “ترامب” بهذا الصدد، فهو لا يعلم ما يقول واقعيا، وعندما يتقدم له أعوانه بأي مشروع عملي فسيكون مشروعا لأحد أمرين، إما من أجل تمكين بقايا النظام الأسدي من البقاء، وهذا ما يتفق مع تصريحات ترامب نفسه، أو من أجل توطين فريق من المشردين كيلا ينطلقوا إلى بلدان غربية، فكيف إذا تناقض ذلك مع استمرار السياسات والممارسات العسكرية الروسية والإيرانية؟ ناهيك عن تناقضه مع “خط أحمر أمريكي ودولي” أرسخ مفعولا من “خط أوباما الكيميائي”، وهو قابلية أن يدعم وجود مناطق آمن العمل الثوري لتحقيق أهداف شعب سورية وتحرير إرادته.

عسكريا وجغرافيا أيضا.. هل ستشمل المناطق الآمنة -افتراضا- أراضي سبق تهجير نسبة عالية من سكانها السوريين العرب، لصالح فريق متمرد على أهله من السوريين الأكراد وعلى الثورة الشعبية المشتركة.. فيعود المهجّرون العرب المبعدون قسرا إلى قراهم ومدنهم، أم أن ذلك مرفوض من جانب أكثر من طرف دولي، ممن يتطلعون إلى تقسيم سورية جغرافيا، تحت عنوان “فيدرالي” أو أي عنوان آخر.. ثم هل يمكن أن تشمل المناطق “الآمنة” بعض ما أصبح واقعيا تحت حماية الطائرات التركية، ولو حصل ذلك فهل سيجد طريقه لتوافق تركيا مع القوى الدولية التي يفترض أن تشارك في الحماية العسكرية للمناطق “الآمنة”، مع العلم بقابلية تحول تلك الحماية الدولية إلى قيد يحدّ من قدرة تركيا على القيام بعمليات عسكرية بعد أن وجدت لذلك ثغرة في الشهور الأخيرة من عام ٢٠١٦م؟

لقد أصبح الحديث عن “مناطق آمنة” لغطاً بعيدا عن الواقع، ولا يمس إلا هامشيا قضية سورية، إلى مآلات مقبولة شعبيا، ومستقرة سياسيا وعسكريا لا يتحقق دون استئصال الورم الأسدي الاستبدادي الخبيث من جذوره، وقطع أذرع أخطبوط ارتباطاته العدوانية الخارجية، دون قيد أو شرط، ودون رتوش تجميلية يستحيل أن تغطي ولو على عورة واحدة من عورات همجية وجوده الإجرامية، كالتي تحمل عنوان “صيدنايا” في هذه الأيام.

نبيل شبيب