خاطرة – النبضة الدامية في قلب الربيع العربي
تجاوز الثمن الذي يدفعه الإنسان السوري آفاق الوطن وحدود الزمن، ولا بد أن يكون التغيير القادم مكافئا لهذا الثمن
من يحرص على ثورة شعب سورية، ويحرص على مسارها نحو النصر المؤكد بإذن الله ورغم حملات التيئيس السياسية والإعلامية المساندة لممارسات الإجرام الهمجية الاستبدادية وألوان الحصار الإقليمي والدولي.. من يحرص على سورية ويريد رؤية مستقبل مسار الثورة التاريخية الكبرى، فلينظر في واقعها في حقبة "الربيع العربي" الفاصلة بين عصرين من عصور التاريخ.. المحلي والدولي على السواء.
عندما اندلعت ثورة شعب مصر في مطلع الربيع العربي لم يكن أحد ممّن يعتبرون أنفسهم "خبراء الشرق الأوسط" يتكهّن بأن سورية ستطلق قريبا أعظم ثورة شعبية في التاريخ، ربما لأنهم كانوا يتأملون في المنطقة وشعوبها عبر عدسات شوّهها ذلك المصطلح السياسي/ الجغرافي "الشرق الأوسط"، المنبتّ الأصل تاريخيا، البريطاني المولد سياسيا، الغربي الروح والرؤية مبنى ومعنى.
واندلعت الثورة الشعبية في سورية ومضت على طريق غير مسبوقة، وثبتت على أرضية "يا ألله ما لنا غيرك يا ألله"، ومضت على دروب التضحيات والبطولات، وأصبحت مصدر إلهام وتحفيز لمزيد من التغيير التاريخي الجذري المنتظر.
كان كل مستبد يقول إن "مزرعته".. إن البلد الذي تسلّط عليه وأحكم القبضة الحديدية على شعبه يختلف عن سواه، ولم يعلم أن عجلة التاريخ لم تقف عند قضبان سايكس بيكو التي يعيش وراءها ولا عند أوحال نكبة ١٩٦٧م التي غرق فيها.
وكان فريق ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين، وقوميين، وليبراليين، يشكّك في ثورة الأجساد والدماء على الدبابات والطائرات وثورة الأنفس والأرواح على الأصنام المتوحشة والمومياء المحنطة، ونسي في "برجه الطيني" أنّ الإنسان في سورية استعاد إنسانيته، فأصبح ثائرا حيّا، وشهيدا حيا، وطفلا وأما وشابا وفتاة وشيخا.. جميعهم أحياء، فكان أولئك "المثقفون" ينعون في واقع حالهم ثقافتهم المنقطعة -إلا من رحم ربي- عن واقع بلادهم وشعوبهم وواقع الإنسان.
وأرغى المتحالفون مع الصنم الطاغوتي في سورية وأزبدوا، وأنذروا وأرعدوا، واستعاد الجميع ما كانوا عليه في الحرب الباردة، من صراع في معادلات الهيمنة العمياء والتبعية الخرقاء، وبقي الرد الشعبي الثائر في سورية مدويا، وما يزال يظهر في الساحات مع كل لحظة سكينة ما بين قصف وقصف، لتجيب على ضغوط دولية لا يصمد أمامها إلا الأبطال الصناديد الأحرار، وعلى مراوغات عربية وإقليمية، لا يثبت على طريق الحق -رغما عنها- إلا أطفال الثورة الأوعى من شيوخ السياسات العربية والإقليمية، وإلا شباب الثورة وفتياتها الأقدر على رؤية المستقبل وصناعته من ديناصورات أروقة المحافل السياسية وقاعات "البورصات" الدولية والمحلية.
كل ثورة من الثورات دفعت ثمن التغيير الذي أحدثته في واقع البشرية في عهدها، وكان التغيير بقدر الثمن، ولم يسبق أن كانت الثورات شعبية بقدر ثورة شعب سورية، منذ ثورة طبقة على طبقة في فرنسا، مرورا بثورة حزب منظم على قيصرية رأسمالية مهترئة في روسيا، وانتهاء بثورة تنظيم عقائدي كبير (أيده الشعب في حينه) على طاغية مستبد في إيران، حتى كانت ثورات الربيع العربي، ثم الثورة الشعبية الكبرى، في سورية فتجاوز الثمن الذي يدفعه الإنسان السوري آفاق الوطن وحدود الزمن، ولا بد أن يكون التغيير القادر مكافئا لهذا الثمن، جغرافيا على امتداد العالم، وتاريخيا عبر آفاق المستقبل.. ولا بد أن تكون مرحلة الغربلة مؤلمة ليزول الزبد ويمكث ما ينفع الناس.
ما أغرب توهّم من يتوهم أنّ صقيع الشتاء يمنع ظهور البراعم فالأزاهير فالثمار على أغصان أشجار يابسة طال ظمؤها لماء الحياة.
لئن شهد بعض ثورات الربيع العربي نكسات، والقلوب معلقة بأن تصل الشعوب التي صنعت الثورات إلى أهدافها الجليلة، فلسوف تحتفل جميعا في يوم قادم بإذن الله بالنصر الأكبر في التاريخ المعاصر، مع وصول شعب سورية إلى أهدافه عبر ثورة، سيكون لها في عصر الربيع العربي مكان القلب النابض بصناعة الإنسان من جديد وصناعة المستقبل على حداء تاريخ مجيد، وسيكون ما تشيده ثورة الثورات بناء راسخا في أعماق الأرض، شاهقا كالجوزاء في العلياء.. لَبناتُه بشر أصبحت بطولاتهم معجزات مشهودة مذهلة، ترويها دماء الضحايا، ويحدو لها أنين المعاناة.. فما أعظمها من شجرة طيبة مثمرة معطاء، لا يعمى عن رؤية مداها إلا قصور الصَّغار المطلق في أعين الظالمين، والروح الانهزامية القاتلة عند من تحجب عنه خشيته هو من الظالمين الصِّغار أشعة الشمس في رابعة النهار
نبيل شبيب