ذاكرة شخصية – مخابرات (مقدمة)
ليست لي "تجربة" مباشرة من نوعية اعتقال عشوائي وتعذيب همجي، ولا أنفي الخشية المقترنة بقشعريرة مخيفة، كلما سمعت عن شيء من ذلك مما يدفع الدموع إلى المآقي، مهما قيل عن "صلابة الرجولة"
لا أحب في الأصل أسلوب الكتابة تحت عنوان: يوميات، فمحورها كلمة (أنا) وكثيرا ما تجنبتها في معظم ما خطه القلم، منذ بدأ نشر ما أكتب في السبعينات من القرن الميلادي العشرين..
ولا أنكر أن يوميات المشاهير -ولا أعدّ نفسي بينهم- مصدر من مصادر العلم والمعرفة لكثير من خلفيات الأحداث وصناعتها، إذا وضع القارئ في حسابه شرط معرفة أساسية أوسع حول من يقرأ يومياتهم، ليتمكن من الفصل بين مفعول كلمة (أنا) في اليوميات وبين واقع الأحداث التي تنطوي على ذكرها وسردها..
وقد شرعت عام ٢٠١٣م في كتابة مشاهد شبيهة بيوميات، مبوبة بين بعض ما كان من تلك المشاهد مع الإعلام مهنة، ومع العمل الإسلامي نشاطا، وفي الغربة بألمانيا معيشة يومية، وبعض لحظات خاصة تقبل النشر، ثم في هذا الباب "شؤون وشجون" وفيه حلقات معدودة تحت عنوان "سويعات مع المخابرات" -ليس السورية فقط- أبدأ بها بالنشر (وسبق نشرها في إصدارة سابقة لمداد القلم) لاعتقادي بأننا نعايش هذه الأيام -وربما لمدة جيل كامل- تحولا تاريخيا مفصليا وجذريا باتجاه مجتمع حضاري وأمة كريمة عزيزة متحررة، وقد لا يستقر بناء المجتمع المنشود إلا بعد جيل كامل، فطول المدة نتيجة لطول الحقبة الاستبدادية وليدة الاستعمار الأجنبي، وقد كان أخطر محاورها -وجميع محاورها خطير- هو سلب الإرادة الفردية وبالتالي كل ما ينبثق عنها من فكر وإبداع وعمل، ثم اعتقال الإرادة الجماعية وبالتالي كل ما ينبثق عنها من تحرر وتطور ورقي وحضارة.
. . .
ركيزة الاستبداد الفاسد -وكل استبداد فاسد- هو ما يسمى الجانب الأمني، وبئس التسمية، فهو جانب التخويف والقمع والترويع، والإهانة والإذلال والإجرام، وليس جانب الأمن والسلامة والكرامة، بل لا يصح وصف "أمن السلطة" هدفا إلا مجازا، فليس هذا أمنا بل هو في معظم جوانبه تأمين معادلة التبعية والهيمنة محليا عبر أدوات لا قيمة لها أكثر من بيادق لا تملك أمر نفسها ولا أمنها ولا قرارها، وهذا مما يسري على ما أوجده الاستبداد في سورية -البلد الذي نشأت فيه- وشمل بضعة عشر جهازا، جميعها متسلط فاسد، بدءا بجهاز شرطة المرور، انتهاء بالمخابرات الجوية، الأشبه بالأمن المركزي ركيزة الاستبداد في مصر.
. . .
ليست لي "تجربة" مباشرة مع أي جهاز مخابرات في أي بلد عربي أو أجنبي، إذا اعتبرنا "التجربة" من نوعية الاعتقال العشوائي والتعذيب الهمجي، ولا أنفي عن نفسي الخشية المقترنة بقشعريرة مخيفة، من مثل تلك التجارب التي تدفع الدموع دفعا إلى المآقي، مهما قيل عن "صلابة الرجولة"، كلما بلغتني صورة عن حالة من الحالات المعبرة عن أن أولئك الذين يمارسون ما يمارسون تحت عنوان "الأمن" لا ينتمون إلى الجنس البشري أصلا، وإن كانوا من لحم وعظم، وسيصيرون إلى التراب.. ثم إلى عذاب جهنم وبئس المصير، وبئس من يزعم كذبا وافتراء، أن ما ينذرهم الله تعالى به في كتابه الكريم فيه "قسوة" لا تليق بمقام الألوهية، وليس صاحب ذلك الزعم في مقام من يحكم أصلا بما يليق أو لا يليق، إنما هي العدالة الربانية المطلقة بأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى.
. . .
لا أكتب في الحلقات القصيرة التالية تحت عنوان سويعات مع المخابرات إذن عن تجارب شخصية عميقة، كما قد توحي به كلمة يوميات أو سويعات، ولكن عن بعض نقاط التماس العابرة بين حين وحين، المعبرة عن طبيعة أجهزة المخابرات في بلادنا في عهد الاستبداد، وبالتالي التنويه بما ينبغي أن تكون عليه الأجهزة الأمنية الحقيقية الدستورية، لتكون فعلا أجهزة أمن وأمان، في قادم الأيام.. عبر ما تبشر به ثورات الربيع العربي.. ولو بعد حين.
نبيل شبيب