السياسات الأمريكية بين المصالح والمطامع والقيم
ترامب نموذج للسياسة الأمريكية دون رتوش
خواطر – بين الترويج للسياسات الأمريكية وبين التعامل معها بموازين قضايانا
خواطر
يتردد مجددا في أوساط كثير من العاملين في قضايانا في فلسطين وسورية وسواها:
أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل مجددا لكبح جماح روسيا في سورية وعدم تمكينها من الانفراد في قطف ثمار عدوانها سياسيا.
أن الولايات المتحدة الأمريكية عازمة على تقليم أظافر انتشار الهيمنة الإيرانية إقليميا، وهذا في مصلحة المنطقة العربية وإن استهدف أمريكيا خدمة المشروع الصهيوني.
أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لمخرج من عقدة الأزمة التي أثارها اغتيال جمال خاشقجي، بما يشمل المقايضة على وقف إراقة الدماء في اليمن، وإنهاء الأزمة الطاحنة بين دول مجلس التعاون الخليجي.
أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لتجديد أرضية علاقات إيجابية مع تركيا وستتخلى مجددا عن تحالفها مع فريق من الأكراد ضد تركيا وسواها.
ويوجد من يزيد فيضع أوراق قضية سورية تحديدا في أيدي الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة ٩٩ في المائة، كما قال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات ذات مرة عن قضية فلسطين، فحوّل معركة عبور خط بارلييف على قناة السويس إلى كامب ديفيد حتى وصل المسار بمصر وفلسطين وأخواتهما إلى صفقة القرن.
لا أحد ينكر حجم القوة الأمريكية المتفوقة، العسكرية وغير العسكرية، ولا أحد ينكر ضرورة التعامل معها إضافة إلى التعامل مع سواها من عناصر صناعة الحدث محليا وإقليميا ودوليا، ولكن هذا التعامل يفقد مغزاه ومفعوله ولا يوصل إلى هدف التحرر العزيز الكريم ما لم ننطلق من رؤية منهجية للسياسات الأمريكية في بلادنا وعالمنا، وهي رؤية تؤكد أنها سياسات عدوانية غير مشروعة، وليست سياسات مصلحية محضة كما يسوّق لها بعضنا لتعامل واقعية الخنوع والتسليم بمصيرنا عبر الخنوع، هذا ناهيك عن تصوير الجدل حول القيم وكأنه يتجاوز دور مسحوق تجميلي في الإخراج.
منذ وصول ترامب إلى منصب الرئاسة وهو يتعامل دون مساحيق ديبلوماسية مع قضايا فلسطين وسورية والخليج وإيران وتركيا ثم في القضايا الدولية كالمناخ العالمي والتجارة الدولية والعلاقات مع الحلفاء والخصوم، وحتى التعامل مع قضية مأساوية صارخة كاغتيال خاشقجي. وهذا وسط جرائم مأساوية يومية متواصلة في كل مكان.
إذن، من كان لا يعلم ما يكفي عن ماهية السياسة الأمريكية أو يصعب عليه وصفها بالعدوانية وممارسة الهيمنة، يفترض أن ظاهرة ترامب نموذج حي يعلمه علنا بما يكفي لاعتبار المواصفات المذكورة أقل ما ينبغي قوله بشأن السياسة الأمريكية، أما الحديث عن اعتبار ظاهرة ترامب مؤقتة، بحجة أنه يعمل في دولة مؤسسات وانتخابات دورية، فهذا يزيد خطورة سياساته وممارساته، فما يصنع هو حصيلة الإرادة السياسية في دولة مؤسسات وليس مسارا سياسيا منفردا رغما عنها، مهما بلغ الصراع بين أجنحتها، فالمؤسسات بمجموع مفعولها تحمل المسؤولية عن سياسة رئيسها، وهي تؤيد أو تنتظر أو تعارض. ومع تأكيد دور مراكز قوى المال وصناعة السلاح في صناعة القرار في تلك المؤسسات، لا ينبغي التردد عن القول إن السياسة الأمريكية الدولية (وحتى الداخلية) لا تحكمها مصالح مشروعة (وهذه صيغة ذات مدلول لغوي ومعرفي إيجابي لدينا) بل تحكمها مطامع غير مشروعة، أما القيم بمدلولها الاصطلاحي لغويا ومعرفيا لدينا فلا علاقة لها بتلك السياسات والممارسات وما يتحكم بصناعتها ومجراها أصلا.
إن السياسات الأمريكية سياسات عدوانية تجاه قضايانا الكبرى، في فلسطين وسورية والخليج وفي أفغانستان والعراق وتركيا، وعموما في معاداة تحرّر إرادة شعوبنا والبنية الهيكلية لدولنا، وهي سياسات عدوانية سواء حمل إخراجها عنوان تراجع وانسحاب يترك الميدان بصورة مؤقتة مدروسة لآخرين يعيثون فسادا ويمارسون العدوان، وبعضهم قوى وعصابات من صناعة أمريكية استخباراتية، أو حمل الإخراج عنوان الرجوع للمنطقة سياسيا بدافع قيمي أو مصلحي مزعوم، وهو في واقعه استئناف المشاركة في صناعة آليات الفساد والعدوان مجددا وتوجيهها توجيها مباشرا.
إن التعامل القويم مع القوة الأمريكية يتطلب من بدايته وقف موجات التبرير والتجميل والتسويق لما تصنعه، ورؤيتها على حقيقتها من حيث ماهيتها وبنيتها وأهدافها، وليس من حيث ضخامتها وتغوّلها فحسب.
آنذاك يبدأ المسار الطويل الهادف للتعامل معها من أجل الحدّ من دمار تصنعه على حساب أهدافنا وشعوبنا وبلادنا، ويبدأ السعي الفعلي لتنمية إمكانات ذاتية وصناعة تحالفات مستقرة لهذا الغرض، أما من يتعامل مع السياسات الأمريكية على أساس إنكار عدوانيتها، وتجميل وجهها الذي سوّدته أحداث تاريخ أصبحت ثابتة معروفة، وتزيده أحداث معاصرة سوادا وقتامة، فهذا منطلق وموقف ينبني عليه الإسهام ولو فرديا في مضاعفة مفعول ما تصنع تلك السياسات في بلادنا وقضايانا، لا سيما في الحقبة الراهنة، التي تتميز وفق سنن التغيير التاريخية بيقظة انتفاضات وثورات شعبية متتابعة فتحت بوابة صناعة حقبة جديدة، لا يهيمن فيها التغوّل الأمريكي -وما يتفرع عنه- على الإنسان وموقعه وتحرره في عالمنا وعصرنا.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب