القنبلة والضحايا

استمرارية الجريمة النووية الكبرى في هيروشيما

تحليل – هيروشيما وناغازاكي في الممارسات الأمريكية الممنهجة

0 66

تحليل

تلقت ناغازاكي الهدية الذرية الأمريكية بعد ثلاثة أيام من هيروشيما، أي بعد أن ظهر على أرض الواقع حجم التقتيل والتدمير الذي سببه استخدام السلاح النووي لأول مرة آنذاك، وهو ما عبر عنه ترومان، الرئيس الأسبق للدولة الأمريكية المارقة بقوله بعد منتصف الليل بقليل: إنها قوة مستمدة من طاقة الشمس نزلت على من أضرموا الحرب في الشرق الأقصى، ثم وجه تهديده لليابان مجددا، فقال: إن لم تقبلوا شروطنا سنمطركم بدمار لم تعرف الأرض له مثيلا من قبل.

ضحايا الإرهاب الأمريكي

هي الدولة التي سبقت إلى صناعة السلاح الفتاك واستخدامه، وما تزال تصنعه وتطوره، وتهدد باستخدامه، وفوق ذلك تسعى مع شركائها لاحتكاره، ومنع دول أخرى من امتلاكه، دون أن تقبل بالإعلان عن إمكانية تخليها عنه يوما ما، أو إتلاف مخزونها الضخم منه، في إطار اتفاق دولي مستقبلي لإخلاء العالم من هذا السلاح الفتاك من بين أسلحة الدمار الشامل.

الجريمة النووية الأولى في تاريخ البشرية أودت بحياة ١٤٠ ألف إنسان بصورة فورية، ثم بمئات الألوف من الضحايا نتيجة توارث الإصابة بالإشعاعات، سنة بعد سنة، ويوم ٦ / ٨ / ٢٠٠٨م أعلن محافظ مدينة هيروشيما، تادادوشي آكيبا آنذاك، في كلمته أمام ٤٥ ألف شخص تجمّعوا في حديقة السلام في هيروشيما، اقتناعه المطلق بأن تأمين السلام العالمي مستحيل دون إتلاف الأسلحة النووية في أنحاء العالم، والدولة التي تحول دون ذلك أكثر من أي دولة أخرى هي الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي معرض التعامل مع كوريا الشمالية لا يُذكر إلا نادرا، أن عددا كبيرا من الكوريين كانوا أيضا من ضحايا جريمة هيروشيما يوم انفجار القنبلة الهمجية الأمريكية، ولا تزال كوريا تسجل حتى اليوم سقوط مزيد من ضحايا الإصابة المتوارثة بالإشعاعات النووية في اليابان، وقد قتل آنذاك بضعة عشر ألف كوري، ونجا من الموت الذري في هيروشيما ٥٩٨ شخصا، منهم من كان في سن الطفولة، واستمرت مآسيهم ومآسي ورثتهم مثل طفلة رضيعة من أسرة شين جين تايس التي توفيت سنة ٢٠٠٥م، وكان عمر أبيها يوم إلقاء القنبلة الأمريكية على المدينة اليابانية في حدود عامين فقط.

وتقول هانج جي سوك، الناشطة في الدفاع عن حقوق الإنسان، إن حوالي عشرة في المائة من أصل ٧٠٠ ألف ضحية في المدينتين اليابانيتين بالمجموع هم من الكوريين، ومعظمهم، أو معظم أسلافهم، كانوا من العاملين في اليابان آنذاك. ويقول كواك كوي هون، رئيس رابطة ضحايا القنابل النووية، إن أكثر من تسعين في المائة من الكوريين الناجين من الموت الفوري قضوا نحبهم خلال السنوات الأولى بعد الحرب، بسبب عدم تأمين علاج لهم، ولا يزال يوجد المزيد من الضحايا على قيد الحياة، وينتظرون الموت.

يبدو أن موقع اليابان الجغرافي، وبالتالي عدم وصول الإشعاعات إلى أراضي الحلفاء جعل صانع القرار الأمريكي في حينه لا يتردد عن استخدام السلاح الرهيب في هيروشيما، ثم ناغازاكي ، بينما لجأت الدولتان الحليفتان في الحرب، الأمريكية والبريطانية، إلى استخدام السلاح التقليدي بكثافة غير مسبوقة، ضد بعض المدن الألمانية لا سيما درسدن، لقتل مئات الألوف من المدنيين أيضا، ومسح الأبنية بالأرض، في عملية انتقامية، حتى بدت درسدن ومدن أخرى بعدها كما لو استُخدمت القنابل الذرية ضدها أيضا.

هل الولايات المتحدة الأمريكية ومن يتبعها من الدول المتحالفة معها تصلح بحال من الأحوال لتصنيف دول العالم بين مَن يحق له أن يمتلك أسلحة الدمار الشامل ومن لا يحق له ذلك؟

شهادة التاريخ على همجية الإجرام

١- الأرجح  أنّ الأمريكيين أحيطوا علما بأربعة وعشرين يوما، باستعداد اليابان للاستسلام قبل ارتكاب جريمة هيروشيما، ولكن اتخذ القرار مسبقا بارتكاب الجريمة وسجل الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان في مذكراته قوله أعتقد أن اليابان ستضطر إلى الخضوع الآن قبل أن تتدخل روسيا عسكريا، ويبدو أن أحد أهدافه كان ألا يدع  فرصة للغريم السوفييتي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية ليكون له موطئ قدم عسكرية في اليابان، كما أصبح له في شرق أوروبا.

٢- هذا علاوة على هدف تدمير أرض اليابان، وليس هزيمتها عسكريا فقط، ولهذا جاء في الإنذار الموجّه إلى اليابان يوم ٢٦ / ٧ / ١٩٤٥م، في صيغة بيان رسمي حمل عنوان: بيان بوتسدام، بمشاركة أمريكية بريطانية صينية (فرموزا آنذاك): إن الاستخدام الكامل لقوتنا مع استمرار تصميمنا، سيعني التدمير الكامل المحتم للقوات اليابانية، وكذلك التدمير المحتم للأرض اليابانية.

٣- وكان البيان نفسه من قبيل التمويه العسكري على موعد ارتكاب الجريمة المقررة، فلم يكن صانع القرار في الدولة الأمريكية، غير المارقة، وغير الاستبدادية، ينتظر الجواب، بل صدر الأمر إلى القوات العسكرية الأمريكية، قبل يوم واحد من إعلان بيان بوتسدام، بتجهيز الضربات الذرية للمدن اليابانية. ويضاف إلى ذلك أن موعد صدور بيان بوتسدام، استهدف إيهام الزعامة اليابانية بوجود فرصة زمنية للجواب، فقد سبقه إعلان موعد لهجوم احتلال عسكري شامل ضد اليابان بعد ثلاثة شهور!

٤- يؤكد الأسلوب الذي اتبع في ارتكاب أول جريمة نووية في تاريخ البشرية، أن الساسة الحربيين الأمريكيين أرادوا قتل أكبر عدد ممكن من السكان المدنيين في هيروشيما، فعلاوة على التمويه بعمليات استطلاع جوية، اختاروا قلب المدينة المزدحم بالسكان لإلقاء قنبلتهم الهمجية.

إبادة جماعية همجية

في ٢٦/ ٨ / ١٩٨١م، أي بعد ٣٦ عاما من ارتكاب الجريمة، أجرت مجلة ميتال حوارا مع منفذها، الضابط العسكري الأمريكي باول تيبيتس، جاء فيه:

سؤال: كيف تفكر اليوم بقصف هيروشيما وتكليفك بذلك، هل أنت نادم

جواب: لست نادما على الإطلاق. لحظة قذف القنبلة كنت مقتنعا بضرورة ذلك، ولم يتغير شيء من اقتناعي هذا حتى اليوم.

سؤال: منذ سنوات يحيي العالم يوم ٦ آب / أغسطس ذكرى ضحايا هيروشيما، ألا يؤنبك ضميرك؟

جواب: كلا، ولا أفكر بذلك أصلا، مضى الأمر، وهيروشيما مجرد تاريخ، كانت درسا يمكن أن يتعلم المرء منه بعض الأمور، ولكن لدي الآن أمور جديدة ومثيرة في حياتي، هي التي أفكر بها، وليس بأمر من قبيل هيروشيما، أنا لا أعيش في الماضي.

وليس تيبيتس جاهلا بما صنع، بل هو أعلم به من سواه، ويروي كيف أنه أصبح على بعد ٥٦٠ كيلومترا من مكان انفجار القنبلة، عندما رأى ما سمي الفطر النووي تماهيا مع ألوان ألسنة اللهيب والإشعاعات، وهو يرتفع إلى حوالي ١٣ كيلومترا في سماء المدينة، ليمطرها بعد حوالي ٢٠ دقيقة بما ارتفع معه من قطع الدمار الحاملة للإشعاعات القاتلة، وقد أحس تيبيتس بطعم الرصاص في فمه، مما يعود، وهو على ذلك البعد الكبير، إلى وصول الإشعاعات إلى فمه، وتفاعلها مع مواد في حشوة أسنانه!

كما يصف اليابانيون وقائع لحظة الجريمة، بأن الذين أصابهم انفجار القنبلة الأمريكية وسط المدينة مباشرة تبخروا كلية، أما من كانوا أبعد قليلا من مركز الانفجار فقد سلخت بشرتهم عن أجسامهم المحترقة، وفي الحلقة الجغرافية الأبعد قليلا كان ضغط قوة الانفجار يقذف أجساد البشر لتلتصق بالجدران عدة دقائق قبل سقوطهم رمادا وجثثا محترقة.

كانت نسبة التقتيل بمعدل ٩٠ في المائة من جميع من وجد في دائرة قطرها ٥٠٠ متر، لتهبط النسبة إلى ٥٩ في المائة وسطيا في الخمسمائة متر التالية، أما سقوط ضحايا الإشعاعات من بعد، فلم ينقطع منذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا.

النتائج الإجرامية الأولى ظهرت للعيان بصورة فورية، ووصلت بصورة فورية أيضا إلى علم صانع القرار في الدولة الأمريكية، رغم ذلك صدرت الأوامر بإلقاء القنبلة الثانية على مدينة يابانية أخرى، ولكن كان الضباب الكثيف يحجب الرؤية، فألقيت القنبلة على ناغازاكي يوم ٩ / ٨ / ١٩٤٥م، فقد كان المهم تنفيذ أمر القتل الجماعي!

لم يكن ذلك من أجل إرغام اليابان على الاستسلام المطلق، بل ألقيت قنبلة ناغازاكي، بينما كانت الحكومة اليابانية في طوكيو تناقش الطلب الأمريكي بقبول الاستسلام، وكان الجواب المسبق أن تكررت في ناغازاكي المشاهد الإجرامية الوحشية في هيروشيما.

الإجرام الأكبر في واقع البشرية

الجدير بالذكر أن قوة قنبلة هيروشيما كانت تعادل ١٣ ألف طن من مادة تي إن تي، وتبلغ طاقة بعض القنابل النووية الأمريكية وغير الأمريكية حاليا أكثر من ١٠ ملايين طن، ويمكن أن تبلغ درجة الحرارة في مركز الانفجار ما بين ١٠ و١٥ مليون درجة مئوية.

وأول ما أسماه الساسة العسكريون الأمريكيون أم القنابل واستخدموه في أفغانستان والعراق، تبلغ طاقة تفجير القنبلة الواحدة منه ١١ ألف طن تي إن تي، أي ما يناهز قنبلة هيروشيما، ولكن مفعول القتل الفوري والتدمير الذي تحدثه أكبر وأشد.

جريمة هيروشيما وجريمة ناغازاكي وجريمة درسدن وغيرها، وكذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التالية عبر محطات لم ينقطع تواصلها من فييتنام إلى فلسطين إلى أفغانستان إلى العراق وحتى سورية، هذه سلسلة جرائم لم تكن مجرّد عمل عسكري بأمر حاكم ديكتاتوري في دولة مارقة، بل هو الإجرام الحربي والإجرام ضد الإنسانية، من جانب الدولة المارقة الأكبر عالميا، هكذا عمدا وفق تخطيط محكم وإصرار عنيد، فهو من قبيل ما يقال عنه بلغة القضاء والقانون القتل العمد عن سابق إصرار وترصد.

من أراد متابعة ما تعنيه مساعي الذين يحاولون امتلاك قوة رادعة، عليه الاطلاع بما فيه الكفاية على طريقة التفكير والتخطيط والتنفيذ الأمريكية، من وراء صناعة هذا السلاح من أسلحة الدمار الشامل واستخدامه، ضد اليابان بعد عجزها العسكري وعدم امتلاكها قوة رادعة، ثم أن يقارن ذلك بحقبة الحرب الباردة، عندما امتلك الاتحاد السوفييتي القوة الرادعة، فأصبح الرعب النووي المتبادل، هو العنصر الحاسم في الدرجة الأولى، لعدم تحول الحرب الباردة إلى حرب ساخنة بين المعسكرين، بينما كان كلاهما يشن حروبه الصغيرة في ساحة الدول الأصغر في الجنوب، التي لا تملك قوة رادعة تحمي نفسها من وحشية قرارات الحرب والعدوان والاحتلال، في دول مارقة إرهابية استبدادية دوليا، وإن سنفت سواها تحت هذه العناوين وأشباهها.

وأستوعكم الله القاهر الجبار، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب