تحليل – حدود عمل الهيئة العليا للمفاوضات باسم الثورة الشعبية

هذا الخطاب موجه لفريق من الهيئة نقدر أنه أقرب إلى تمثيل الثورة والشعب، علما بأنه لا يوجد حاليا سبيل "تقليدي" لهذا التمثيل، كالانتخابات

35

ظهرت ردود فعل واسعة النطاق على تشكيل الهيئة السياسية المنبثقة عن مؤتمر الرياض، وتحول الرفض إلى غضب عارم بعد صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي، مائع الصياغة، حمّال أوجه، حافل بالألغام، وبعد رصد استمرار تصعيد العدوان الأجنبي المسلح، الروسي والإيراني، على شعب سورية وثواره، واستهداف قادة الفصائل الثورية جنوب البلاد ووسطها وشمالها، مع التصريحات العدوانية الرسمية بالعزم على متابعة ذلك في مسار يوازي ما يسمونه مفاوضات، بل شمل توجيه الألغام العدوانية إلى سياسات القوى الإقليمية الأقرب للثورة، وعلى وجه التحديد تركيا والسعودية وقطر.. وبقيت الردود دون المستوى.

إن إنشاء الهيئة السياسية راجع فقط إلى الاقتناع العام بضرورة خوض المعترك السياسي جنبا إلى جنب مع المعترك الميداني الثوري، وهو الذي يجسد أثناء الثورة إرادة الشعب أن يستعيد من خلال ثورته مرجعيته هو في السلطة بعد أن استمر اغتصابها واستغلالها لخمسة عقود مضت.

والجدير بالذكر أن الوضع الأمثل هو وجود "جناح سياسي موحد فاعل" منبثق عن الجناح الميداني المسلح وإن تكوّن بعضه ممن يعملون في الميدان السياسي والفكري أصلا، ولا يوجد الآن، بعد تشكيل الهيئة السياسية ما يمنع الفصائل الثورية من استدراك هذا النقص الذي رافق الثورة لعدة سنوات، فإن وجد على أرض الواقع تتبدل معطيات المسار السياسي، وإلى ذلك الحين نميز بين أمرين:

١- الغضب والرفض تجاه ما يصنع أعداء الثورة.. مشروع ومطلوب ويجب أن يعبر عن نفسه بآليات فعالة في مقدمتها استمرار الثورة وتصعيد فعاليتها ومواصلة الجهود لتوحيد صفوف فصائلها.. بغض النظر عن وجود "مسار سياسي" أو غيابه.

٢- التعامل الصحيح المدروس مع الهيئة السياسية وتوابعها، ويعني ذلك:

(١) التزام الثوابت الواضحة المعالم وهي بمنزلة أهداف كبرى لا تتبدل ولا تختزل.. ولا تنفي وجود أهداف مرحلية، ولا استخدام وسائل وأدوات العمل السياسي

(٢) مواكبة عمل الهيئة السياسية بمواقف ثورية محددة، واضحة وقوية، وليس بمواقف تعميمية الصياغة رفضا وغضبا أو تعميمية الصياغة تأييدا وتسرّعا

(٣) تمييز المواقف الثورية سياسيا بين ما يمس الثوابت فهو مرفوض.. مرفوض.. مرفوض، وبين ما يصدر عن الهيئة السياسية في حدود مجالات الحركة التي يمكن أن تتقدم فيها وتتأخر، وتعطي وتأخذ، بلغة السياسة دون المساس بالثوابت.

. . .

ليس ما سبق منطلقا "اجتهاديا" في عالم السياسة المعاصرة.. بل هو من العناصر ذات العلاقة المباشرة بأمر بسيط المضمون من جهة، وبالغ الأهمية من جهة أخرى، وهو: من يتحدث باسم الشعب لا يملك تفويضا مطلقا بل التفويض "مقيد" دوما، وهذا ما يستدعي عدم التشنج إزاء ما يصدر من مواقف وخطوات عن الهيئة السياسية، فهي إن تجاوزت حدود التفويض فقدت مكانتها ثوريا، حتى وإن وجدت تأييد العالم كله، ولكن هل التفويض مقيد فعلا؟

جميع من تضمهم الهيئة السياسية يعلمون:

١- حتى الانتخابات بطريقة دستورية مشروعة ونزيهة مضمونة، في حالة الاستقرار في دولة معتبرة، تسفر عن تفويض الشعب سلطة ما تفويضا مشروطا بالدستور وبما سبق طرحه في برنامج انتخابي للمرشح أو الحزب..

٢- لا يوجد أصلا لا في حالة الاستقرار والانتخاب ولا في حالة التغيير الثوري توكيل مطلق لأي طرف فيما يتعلق بالقرارات "السيادية"، أي لا يحق لأحد التصرف بشأنها دون موافقة الغالبية الشعبية عليها..

ما سبق ومزيد عليه يسري بطبيعة الحال على الهيئة السياسية المنبثقة عن مؤتمر الرياض، حتى إذا افترضنا جدلا أنها تمثل كافة القوى الثورية والسياسية والمدنية، فكيف وجميعنا يعلم بوجود نواقص عديدة، ناهيك عن شوائب صارخة في تكوين الهيئة نفسها!

هذا الخطاب موجه لفريق من الهيئة نقدر أنه أقرب إلى تمثيل الثورة والشعب، علما بأنه لا يوجد حاليا سبيل "تقليدي" لهذا التمثيل، كالانتخابات النزيهة والشاملة وسط ظروف مستقرة وشروط مضمونة.

تملك الهيئة السياسية تفويضا جزئيا مقيدا ولا تملك قطعا "تفويضا على بياض" فهو مقتصر على أداء مهمة وقتية واحدة: تمكين الشعب الثائر من الانتقال من حالة الثورة التي يخوضها مضطرا إلى عتبة إيجاد الضمانات والآليات الكافية من أجل أن يشكل دولته المستقبلية بنفسه، وفي غياب أي ضغوط دموية داخلية وخارجية، وأي وصاية أجنبية تنتهك سيادته على نفسه بنفسه، وبالتالي على تقرير مصيره وصناعة سائر القرارات المتعلقة بحياته داخليا وعلاقاته خارجيا.

. . .

ورغم الحرص على الإيجاز تحسن الإشارة إلى أمثلة:

١- السيادة والمرجعية: لا يتخذ قرار سيادي مسبق دون ربط سريان مفعوله باستفتاء لاحق، مضمون بآلياته وأدواته وظروف تنفيذه والالتزام بنتائجه وشموله لكامل الشعب دون تمييز، ومن أهم القرارات السيادية مثلا ما يتعلق بتثبيت شكل الدولة، فهو مرتبط مباشرة بالمبدأ الرئيسي السيادي: المرجعية للإرادة الشعبية فقط.

٢- الاستقلال ووحدة الأراضي: إن العمود الفقري لحركات التحرر والثورات هو استقلال البلد المعني من الاستبداد أو الاحتلال، مع وحدة أراضيه كما كانت قبل الاستبداد أو الاحتلال، فلا تملك الهيئة أو وفد مفاوض أو حكومة مؤقتة أو أي جهاز آخر، تفويضا يبيح قرارا بالإجماع أو الغالبية ولا الدخول في اتفاق أو توقيع وثيقة مما ينطوي على المساس بالاستقلال عبر وصاية خارجية، أو المساس بوحدة الأراضي الوطنية عبر تثبيت ميزات مسبقة لفئة شعبية.

. . .

ميدانيا.. مما يثير الغضب وردود الفعل التعميمية، أن الظروف المرافقة لتشكيل الهيئة المنبثقة عن مؤتمر الرياض أعطاها صورة مشوّهة، أنها:

(١)- خطوة تسليم للإرادة الدولية المعادية للثورة..

(٢)- استجابة ضمنية لخلط حابل الإرهاب بنابل الثورة تمهيدا لمزيد من محاولات القضاء عليها..

(٣)- ضعف مواقفها إزاء التصريحات والتصرفات العدوانية، الروسية والإيرانية، وإزاء "مواقف التمرير والتبرير والتمييع والخداع" من جانب قوى غربية دولية، وإن برعت في التزويق الكلامي التقليدي..

إذا كان التعبير عن الغضب عبر التخوين والشتائم مرفوضا، فإن الهيئة السياسية مطالبة بالمقابل أن تدرك ما يعنيه ارتباط قيمة وجودها وعملها ارتباطا مباشرا بمدى التزام حدود صلاحياتها وحدود مشروعية خطواتها، ومن ذلك تخصيصا في اللحظة الراهنة:

إن الحد الأدنى الذي لا قيمة لعمل الهيئة من دونه هو رفض الانتقال قولا وعملا وإعدادا من المرحلة الحالية إلى مرحلة "التفاوض" بأي صيغة، ما لم تسبق ذلك خطوات تنفيذية وليس مجرد وعود مستقبلية، وخطوات واسعة النطاق وليس رمزية، على صعيد ما سبق تحديده بشأن وقف الإجرام العدواني الخارجي والداخلي، وإطلاق سراح المعتقلين، وإنهاء الحصار مع تسيير مضمون لمواد الإغاثة المعيشية.

. . .

التفاوض.. ممكن كأداة، كوسيلة، كإدارة جزئية للحدث.. ولكنه ليس هدفا أبدا، ولا هو مطلوب بأي ثمن، ولهذا يصبح "حالة استسلام" في اللحظة التي يكون فيها "الثمن" أكبر من "الهدف".

والتفاوض في حالة "الثورة التغييرية" أداة تواكب العمل الثوري المسلح وليست بديلا عنه، ويتحول إلى منزلق أخير إذا اقترن بإيقاف العمل الميداني المسلح قبل تحقيق الأهداف الكبرى.. فليس هذا مشروعا ولا مقبولا ولا هو إنجاز سياسي.

نبيل شبيب