رأي – العداء الأمريكي هو الأخطر على سورية
إذا كسرت الأغلال الأمريكية الصنع لن يتأخر الانتصار طويلا على بقايا النظام وأعوانه المكشوفين من روس وإيرانيين وأتباعهم
مع كل مناسبة ودون مناسبة يردد كثير من المحللين الغربيين والعرب بمن فيهم سوريون، أن الولايات المتحدة الأمريكية أخطأت أو قصرت بعدم التدخل في سورية كما ينبغي، وهذا ما يقال الآن إذ تتحرك روسيا وتقلق أمريكا، ولا يدفع التصعيد الروسي العلني الجديد أوباما إلى “التدخل”، فهو حريص على مغادرة منصبه دون أن يقال إنه خاض حربا كما صنع أسلافه جميعا.
هذا -مع الاعتذار عن التعبير- هذيان غائب عن واقع الحال.
لا يوجد طرف خارجي تدخل ويتدخل في قضية سورية كالحكومة الأمريكية، ولا يوجد أحد أشعل الحروب على حساب العرب والمسلمين لا سيما في سورية وأخواتها، كما صنع أوباما، ومن أراد فليقارن بين ما كان في عهده وعهد من سبقه، من حيث عدد الضحايا كضحايا الطائرات دون طيار، وعدد الحروب وامتداد المساحات الجغرافية التي انتشرت فيها دون أن تغيب الأصابع الأمريكية والسياسات والمخططات الأمريكية عن حدث من الأحداث أو ميدان من الميادين.. ولكن “غابت” المخاطرة بالدماء الأمريكية وبالنفقات المالية الأمريكية، ولن يكون من يلي أوباما في منصبه أهون شرّا منه.
ليس القصد إطلاقا التهوين من شأن ما يفعله العدو الروسي، ولكن لا تصح الغفلة عن حقيقة العداء الأمريكي وخطره على سورية وقضية سورية وثورة شعبها.
روسيا عدو قاصر لا يحسن إلا التدمير الفاحش المباشر كما كان في الشاشان مثلا، أو دعم التدمير جهارا نهارا كما هو الحال في سورية.. أما واشنطون فيكفيها بالمقابل أن إيران شارفت على الانهيار ذاتيا، بسبب تدخلها في سورية ومجموع مشروعها العدواني إقليميا، وسلوكها الطائفي الدموي سياسيا وعسكريا، لولا أن أدخلها “الاتفاق النووي” بتوقيع أمريكي في غرفة الإنعاش مجددا.
رغم الحجم الهائل للدعم العسكري والسياسي والبشري من جانب روسيا وطهران بدأ العدّ العكسي لبقايا النظام الأسدي، وانتهى أمره، ولئن استمر تفجير البراميل وإطلاق الصواريخ فلا يخفى التراجع في نهاية المطاف.
بدأ العد العكسي رغم الدعم الروسي والإيراني للربيب الأسدي.. ولكن -مع عدم إغفال “الأخطاء الذاتية في مسار الثورة”- لا يوجد أمر يساهم في إطالة فترة بقائه وهو في الرمق الأخير قدر ما تصنعه السياسات والممارسات الأمريكية التي توصف زورا بأنها امتناع عن التدخل أو تقصير عن التدخل!
أو ليس الوصف الأصح لها هو “التدخل” الأكثر مكرا من سواه؟
هو تدخل قديم جديد كان منه في سورية أن الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين أطلقوا قبضة الأسديين في لبنان ليستبدوا بشعب سورية وشعب لبنان وينأوا بهما عن فلسطين والجولان.. وهو مستمر حتى اللحظة الراهنة إنما تجاوز أوباما أسلافه في “نوعية” التدخل و”إدارته” و”تسويقه” وليس في التراجع أو الامتناع عنه..
هذا ما يسري على مجموع المنطقة، عبر أعوان وأتباع، أو نتيجة تردد من لا يزال يحسب لواشنطون حسابها أكثر مما ينبغي فينفذ ما تريد، ولهذا يستمر القتل حربا وانقلابا وإعداما وحصارا وتشريدا، دون أن يشهر الأمريكيون السلاح مباشرة إلا ما قد يفرضه مسار المعركة من ضربات عسكرية “عن بعد”.
في سورية بالذات .. إذا كانت موسكو تصنع ما تصنع من أجل “قاعدة عسكرية” بقيت لها في البحر الأبيض المتوسط، وكانت إيران تصنع ما تصنع لأنها ترى كيف تتساقط “قاعدة” انطلاق مشروع هيمنتها الطائفي العدواني في المنطقة.. فما الذي تصنعه السياسات الأمريكية؟
أو ليست هي التي تجند استخباراتها ومبعوثيها وضغوطها العلنية والخفية “ليستمر” مسلسل التقتيل والتدمير والتشريد حتى تنشأ “تركيبة عسكرية وسياسية” تتوهم واشنطون أنها ستصلح لمتابعة “مشروع هيمنتها” هي، أي استمرار تنفيذ ما كان يصنعه العهد الأسدي، ويحافظ من خلاله على “سلامة” الخطوط الحمراء الصهيونية الأمريكية و”تنفيذ” الرغبات الاستخباراتية الأمريكية، بل حتى المشاركة في حروب احتلال وعدوان أمريكية كما صنع تجاه العراق ضد البعثيين وتجاه لبنان ضد المقاومة الفلسطينية؟
إذا كان السلاح الروسي والإيراني والدور السياسي الروسي في مجلس الأمن الدولي، من وراء استمرار ارتكاب الجرائم الأسدية، أليست السياسات والممارسات الأمريكية للتحكم في “قنوات التمويل والتسليح” وراء الحيلولة دون أن تبلغ الثورة مرحلة الحسم أو حتى مرحلة “كفّ تدفق الموت من الأجواء”؟
ثم يردد المسؤولون الأمريكيون ومن يشايعهم بتكرار ممجوج أن الحل العسكري “مستحيل” فلا بد من حل سياسي.. أي المطلوب تكرار ما كان في البلقان، باستمرار حصار رسمي لم يمنع السلاح واقعيا إلا عن أهل البوسنة والهرسك، حتى فُرض “اتفاق ديتون” الذي اعتبره الرئيس البوسني الراحل بيجوفيتش سمّا زعافا يتجرعه خشية على أهل بلده من أن يشملهم جميعا مثل ما نال بعضهم في تسيبرنيتسا وأخواتها!
في قضية سورية يضيف الساسة والمبعوثون الأمريكيون عبر ما يقولون مباشرة أو عبر ما يمارسونه على أرض الواقع: “لا شرعية للأسد”.. ولكن يجب استثناؤه من ضربات جوية وهي تصنع واقعا جديدا على الحدود التركية تخصيصا..
هذا مثال واحد على تناقضات لا تنقطع في تلك السياسات العدائية للثورة، ولكن لا ينبغي أن يستمر دون انقطاع ذلك الهذيان -ومعذرة مجددا للتعبير- بأن الولايات المتحدة الأمريكية “عدوة الأسد”، ولكنها “مخطئة فحسب” بعدم تدخلها!
. . .
من أراد مواجهة التصعيد الروسي القديم المتجدد، والعربدة الإيرانية المتواصلة حتى الرمق الأخير، فليضع في حسابه أن رد عدوّ صغير لا يغني عن رد العدو الأكبر، بل إن شرط الانتصار على العدو الأصغر وكل عدو معه، هو أن يقترن ذلك من البداية بالتمرد على العدو الأكبر وعلى إملاءاته عن بعد وعبر من يقبل به سيدا مطاعا، وعلى وعوده الكاذبة والصادقة على السواء، وعلى القبول بإغراءاته واقتراحاته ناهيك عن “تدريب مشروط باعتدال أمريكي” يجعله انتحارا، وتمويل مشروط بإملاءات أمريكية تجعله حارقا، وتواصل مباشر ملغوم دوما فهو أشبه بالخلايا الإرهابية النائمة توقيتا وتخطيطا وتنفيذا.
إن تحرير سورية -وسائر المنطقة- وإسقاط بقايا النظام الفاسد وأعوانه، يتطلب في الدرجة الأولى أن يتلاقى السوريون في ميادين التحرير وفي أروقة السياسة، عسى يتمكنوا آنذاك من دفع القوى الإقليمية الراغبة حقا في دعمهم إلى أن يكون دعما مستقلا مستداما، تصنعه دون شروط أمريكية مصلحة ذاتية مشروعة لتلك القوى ورؤية تبصر المصير المستقبلي المشترك إقليميا.. كي يتحرر الجميع معا من قيود خارجية وضغوط خارجية و”مؤامرات” ماكرة خارجية، تلتقي خيوطها جميعا في غرفة العمليات الأمريكية بواشنطون..
إذا كسرت تلك الأغلال الأمريكية الصنع لن يكون الرد على بقايا النظام وأعوانه المكشوفين من روس وإيرانيين وأتباعهم عسيرا ولا الانتصار على ما يدبرون وينفذون بعيد المنال أو ضعيفا.
نبيل شبيب