رؤية – مستقبل المشرد السوري

المطلوب أن يكون السوري المشرد في المغترب والمعتقل في الوطن، إنسانا مبدعا قادرا على التواصل الدائم والتأهّل المتنوع والإنجاز المتتابع

56

بين أيدينا تيار التشريد السوري بحرا وبرا، ما بين موت مؤكد وموت محتمل، وغضب متطرف وترحيب مدروس.. فأين نضع العمل الأهلي/ المدني من أجل "الإنسان السوري المشرد" دون أن ينفصل تنظيرا ولا تنفيذا عن الإطار الأوسع والأشمل وهو انتصار الشعب الثائر انتصارا يضع حدا نهائيا لمسلسل المآسي والكوارث..

هذه مجرد محاولة بخطوط عريضة لتحديد "حجم المهمة" و"نوعية التحدي" وقابلية التعامل الفعال معها. 

 

ما هو الحجم الحقيقي للتشريد السوري؟

وجدت المستشارة الألمانية ميركل نفسها أمام مشكلة كبرى.. لا بد من التعامل معها، فربطت بينها وبين "مصلحة ألمانية كبرى"، واعتبرت ذلك تحديا يتطلب جهودا كبرى، لاستخلاص "منافع وفوائد ذاتية" مع تقديم العون المدروس لكتلة من المشردين السوريين البشرية.. علما بأنها "كتلة صغيرة" بالمقارنة مع مأساة التشريد السورية بمجموعها.

لا ينبغي لوم ألمانيا بدعوى أنها تمارس سياسة مصلحية، بل ينبغي السؤال عن الطريق التي يجب علينا سلوكها، عندما ننظر إلى كل فرد سوري مشرد أو مغترب عن وطنه، أنه "طاقة بشرية" يمكن بمنظور المصلحة السورية الذاتية، إما أن تضيع في عالمنا وعصرنا أو أن تساهم في خدمة هذه المصلحة خدمة مستدامة، وتساهم بالتالي في تحقيق التغيير الجذري المنشود في سورية وما حولها.

أول سؤال يطرح نفسه: هل ندري ما هو الحجم الحقيقي لهذه "الطاقة البشرية" كما ونوعا؟

هل نعلم أن عدد المشردين والمغتربين يناهز عشرين مليونا وليس عشرات الألوف، بل لعل تعداد كل من فئة الأطباء أو المهندسين أو الخبراء التقنيين أو الزراعيين من بينهم تبلغ عشرات الألوف؟

عندما كانت بثينة شعبان وزيرة لشؤون المغتربين في النظام الأسدي الفاجر الفاسد، وقامت بجولاتها الخارجية لتعرض بعض إغراءات "رسمية" من قبيل "عفو القاتل عن الضحية.." ‎مقابل جلب استثمارات مالية من المغتربين، ذكرت في إحدى جولاتها أن عددهم خارج سورية يتراوح بين ٨ و١٢ مليون إنسان آنذاك، أي ثلث السوريين عموما أو ما يعادل نصف من كان يعيش داخل حدود وطنه السوري.

وليس مجهولا أن النسبة الأكبر من هؤلاء شردوا عن بلدهم في مطلع الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، ومنعوا من العودة، فسجلت أسماؤهم على الحدود كي يزج بهم في السجون والمعتقلات إن تجرؤوا على تحدي المنع، فكانوا واقعيا -مع وجود فوارق عديدة- مثل أفواج المشردين الآن، على قوارب الموت وفي القفار وما بين الحدود.. أثناء سيل دماء الوطن والشعب ضحية القمع الهمجي للثورة التغييرية الكبرى.

إن عدد السوريين خارج الوطن الآن، من مختلف الفئات والأعمار والتخصصات والقدرات، يزيد على عددهم داخل الوطن، ناهيك عن أن أكثر من نصف الموجودين في الداخل نازحون، وأن أكثر من نصف الباقين في القرى والمدن يعيشون ما بين الأنقاض وبين براميل أسدية وأفاعيل داعشية، ولا نغفل عن نسبة مئوية معينة، يشاركون في ممارسة القتل والقهر..

لن ينتهي هذا الوضع البائس دون تحقيق الهدف الأكبر للثورة الشعبية رغم جميع المتاهات التي صنعت لها، أي لن ينتهي قبل أن تتحرر إرادة الشعب ويتحرر الوطن وتتحرر صناعة القرار المشترك من الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية.

 

نوعية التحدي في مأساة التشريد

عند الحديث عن حصيلة وجود السوريين في المغتربات لعشرات السنين الماضية، وبغض النظر عن الأسباب والتبريرات، نجدها حصيلة بائسة قبل الثورة، أي في فترة ما بعد تشريد الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، وهذا ما تجسد في غياب عمل أهلي/ مدني حرفي وهادف ومنظم، يستنفر طاقات الفرد السوري، المشرد في المغترب، والفرد السوري المعتقل في الوطن، ليكون في الحالتين إنسانا مبدعا قادرا على التواصل الدائم والتأهّل المتنوع والإنجاز المتتابع، وبالتالي ليساهم في صناعة الاستقرار القائم على العدل بين البشر وعلى بناء الوطن، هذا دون إغفال واجبات أخرى، تجاه من حوله، سواء واجه في مجتمع الاغتراب شروطا سلبية لا يملك تغييرها، أو وجد ظروفا مريحة.. أو واجه في مجتمعه السوري قيودا وأغلالا وحرمانا نتيجة مختلف إفرازات الاستبداد والفساد.

هذا هو الإطار العام الذي ينبغي أن نطرحه عندما نقول بصدد الواجب المطلوب الآن:

١- عنصر الوعي.. فلا نغفل عن المنظور الثوري التغييري عندما نركز الحديث على جانب واحد يرتبط بالعمل الأهلي/ المدني..

٢- عنصر الزمن.. فكلمة "الآن" من حيث التخطيط والأداء تعني يوما واحدا أو ‎سنين عديدة..

٣- جوهر المهمة.. هو تلبية احتياجات الإنسان السوري وتوظيف طاقاته الذاتية حيثما وجد..

٤- معيار النجاح.. وهو ضمان تراكم الإنجازات نحو الهدف الثابت البعيد..

وتوجد عوامل أخرى عديدة إذا أردنا رؤية حقيقة التحدي القائم في وجه الناشطين الآن رؤية موضوعية، وإذ نعلم أن مسلسل مأساة الإنسان السوري لم تنقطع يوما واحدا خلال أكثر من خمسين سنة مضت، فلنعلم أننا كنا نستشعرها حينا ونشيح عنها حينا آخر.. وأنها مأساة "متواصلة" بلغت حد الانفجار بعد أحداث الثمانينات وتكررت الآن عبر التحرك المضاد للثورات الشعبية العربية ولا سيما في سورية.

المهم أن يرسخ في اقتناعاتنا أن "الانفجار المأساوي" يمكن أن يتكرر بعد جيل آخر إذا انزلقنا الآن إلى شبيه ما كان قبل جيل واحد.. سواء كان للقصور آنذاك أسباب ومبررات معتبرة أم لم يكن!

ذاك هو التحدي الأخطر بين يدي الناشطين الآن، وهو أكبر مما كان قبل أعوام أو عقود.

 

خطوط عريضة لبعض الواجبات

لا ننسى أن الشعب الثائر في سورية فاجأ عالمه وعصره بعطاء تاريخي كبير وإبداع متجدد.. رغم عشرات السنين من موبقات الاستبداد والفساد، مما شاعت كلمة "قحط" للتنويه إليه، وقد شمل مفعوله جميع الميادين ولم يقتصر على ميدان العمل السياسي والعمل الجماعي فحسب.. ويتطلب كل منها فرعا تخصصيا ضخما في العمل الأهلي/ المدني.. ومن ذلك تعدادا دون حصر ولا تفصيل:

الوعي السياسي القائم على المعرفة والحرفية والممارسة..

العمل الجماعي القائم على التنظيم والشفافية والمؤسسات..

الإنجاز التخصصي القائم على الجهد الفردي والتكامل الجماعي..

شبكات التواصل القائمة على قواسم مشتركة والاحترام المتبادل..

التخطيط القائم على الدراسة والتقويم والتطوير المتجدد..

الإغاثة القائمة على الشفافية والإخلاص والمحاسبة..

جهود البناء القائم على العلم والمصلحة والتعاون..

والقائمة طويلة، وسنجد في تفاصيل كل بند مزيدا من العناوين، كالتربية، والتعليم، والاحتياجات المعيشية، وحالات الطوارئ، وقضايا الحقوق والحريات..

حسب استعداداتنا ونفوسنا يمكن أن تكون ضخامة حجم التحدي محبطة.. أو محفزة منشطة، ولكنها ببساطة ضخامة حتمية لأن العمل الأهلي / المدني هو عصب الحياة في المجتمعات المستقرة، وهو "من شروط" العودة للحياة في مثل حالة المأساة السورية الحالية.

أما الإنجاز فيبدأ بخطوات -أو وسائل- مبدئية، والحديث هنا فقط عن "التعامل" مع السوريين في التشريد والمغتربات، ومنها:

١- مسح إحصائي ونوعي..

٢- مكاتب قطرية ومحلية للتواصل الدائم..

٣- حملات توعية بصدد العلاقة مع أهل البلد المضيف..

٤- حملات استقطاب للعمل التطوعي المستقل..

وسنجد عند الشروع في كل خطوة، أبوابا إضافية لأداء مزيد من الواجبات.. وكذلك أبوابا إضافية لاستنفار مزيد من الطاقات.. كما نجد أنفسنا بين طريقين، إما أن نتلاقى على عمل حقيقي مستدام، أو أن يذكرنا جيل قادم -هو أولادنا وأحفادنا- سلبا، على غرار ذكر كثير من جيل التغيير الذي يصنع الثورة الآن أسلافه من العقود الماضية.

نبيل شبيب