تحليل – هل يوجد التشريد خيارا عسكريا أوروبيا في قضية سورية؟
تعتبر فرنسا أقرب من سواها -بالمقارنة مع ألمانيا- إلى تبني تحرك عسكري أبعد مدى، ولكن سيبقى محدودا
يؤكد المسؤولون في الاتحاد الأوروبي أنهم يواجهون "مشكلة لجوء كبرى" تمثل مأساة التشريد السورية عمودها الفقري، وتتجاوز بوطأتها وآثارها المتوقعة أزمة اليونان في نطاق الاتحاد الأوروبي، وتتركز الجهود الحالية على تجنب تأثير ذلك سلبا على بنية الاتحاد نفسه وعلى كثير من إنجازاته، لا سيما على صعيد إلغاء الحدود وما تفرع عنه، مما تشمله "اتفاقية تشينجن". ولا يخفى أن ما يطرح من وسائل العلاج حتى الآن يستهدف "أعراض المشكلة" ونتائجها في الساحة الأوروبية نفسها فحسب، رغم إدراك استحالة تحقيق المطلوب على الوجه الأمثل دون معالجة "أصل البلاء" وفي مقدمته أفاعيل النظام الأسدي في سورية.
في هذه الأثناء ظهر أن اعتماد "اتفاقية دبلن" حول اللجوء عموما في التعامل مع المشكلة المتفاقمة حاليا لم يعد كافيا، كما بلغ انتشار التعاطف الشعبي في كثير من الدول الأوروبية مع ضحايا أحداث سورية تخصيصا مستويات غير مسبوقة، يضاف إلى ذلك ازدياد الخشية من تفاقم الآثار الفوضوية السلبية لانتشار العنف، أو ما يوصف بالفوضى "الخلاقة"، وهي آثار ناجمة في نظر كثير من الأوروبيين عن "السياسات والممارسات الأمريكية" في المنطقة العربية المجاورة لأوروبا.
أمام هذه المعطيات تزداد دواعي التفكير الأوروبي باستخدام القوة أو التهديد بها بشأن قضية سورية، حتى وإن اقتصر الهدف على دعم الجهود السياسية المفتقرة لضغوط حقيقية، وقد ظهر عدم جدواها لعدة سنوات، ولكن.. هل يمكن أن يقدم الأوروبيون على استخدام القوة أو دعم استخدامها فعلا؟
قصور القوة الأوروبية الذاتية
أول مؤشر رسمي لحدوث تغيير ما في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه التطورات الجارية في قضية سورية كان خلال مؤتمر وزراء الخارجية والمالية يوم الجمعة الرابع من إيلول/ سبتمبر ٢٠١٥م، إذ أكد المؤتمر العزم على مضاعفة الجهود الضرورية للتعامل مع "أسباب مشكلة اللجوء"، ولكن اقتصر عند ذكر الوسائل على "اللجنة الرباعية" المخصصة في الأصل للتعامل مع القضية الفلسطينية منذ سنوات عديدة، دون جدوى أيضا.
رغم ذلك يعبر الموقف الجديد عن خطوة متقدمة في التعبير عن التململ والاستياء منذ فترة طويلة من بقاء الأوروبيين "خارج قوسين" كلما جرت مشاورات أمريكية – روسية تمهيدا لخطوة دولية جديدة بشأن سورية، وهو ما بلغ ذروته الأولى في التوافق الثنائي على صيغة "جنيف ١" وقد جرت في أوروبا وبمشاركة فرنسية ضعيفة، ثم وجد الأوروبيون أنفسهم أمام أمر واقع لتبني تلك الصيغة. إنما يصعب تأويل الموقف الرسمي الجديد أنه يمهد لاستخدام القوة أو التلويح باستخدامها، بعد أن نوه لذلك بعض المحللين الإعلاميين على خلفية تدفق أعداد أكبر من اللاجئين السوريين في اتجاه أوروبا.
وعلى افتراض حدوث تبدل فعلي نحو استخدام القوة، يطرح السؤال نفسه عن مدى قدرة الأوروبيين على ذلك، أو عن الحدود الواقعية للتحرك العسكري إن تقرر، فمن الناحية الواقعية ينطلق الأوروبيون منذ السنة الأولى للثورة في سورية من معطيات ثابتة يعطل بعضها بعضها الآخر، وأهمها:
١- تعاني التجهيزات العسكرية الأوروبية من ثغرات نوعية، مثل ضعف الرقابة عبر الأقمار الصناعية، وضعف طاقة النقل العسكري، مما لا يسمح بتحرك عسكري منفرد دون مشاركة أمريكية، وهو ما ظهر للعيان منذ حرب البلقان، كما كان من شواهده الأخيرة مسار التدخل الأطلسي في ليبيا.
٢- تبدلت مراكز الثقل في السياسات الأمنية الأمريكية دوليا باتجاه جنوب شرق آسيا، ومنذ ذلك الحين لم تنقطع مطالبة واشنطون مباشرة وفي مؤتمرات حلف شمال الأطلسي بأن يعزز الأوروبيون قدراتهم العسكرية الذاتية ومخصصاتها المالية، وهو ما لم يستجب الأوروبيون له لأسباب اقتصادية في الدرجة الأولى.
٣- رغم المساعي الأوروبية -لا سيما الفرنسية- للمشاركة في التأثير على الساحة العربية المجاورة لأوروبا، لا تزال واشنطون تمسك بمعظم المفاتيح السياسية، بينما تصيب النتائج الأوروبيين أكثر من الأمريكيين، وهذا بالذات ما يتجسد الآن في "مشكلة اللجوء" بالمنظور الأوروبي.
٤- أي تغيير حقيقي في سورية عبر "حل سياسي" يتطلب تعزيزه عسكريا، وهذا ما انعكس في البداية في أكثر من إعلان رسمي جاد، فرنسي وبريطاني في الدرجة الأولى، لتقديم سلاح نوعي للثوار، قبل ظهور داعش في سورية، ثم تراجعت الدولتان عن تنفيذ تلك الوعود نتيجة ضغوط أمريكية لم تعد خافية.
حدود احتمالات استخدام القوة
رغم ما تكشف عنه المقارنات العديدة بشأن تعداد اللاجئين لا سيما المشردين السوريين ما بين أوروبا بطاقاتها الكبيرة، والجوار السوري وطاقات بلدانه المحدودة، تبقى "مشكلة اللجوء" أكبر من سواها مما واجه الاتحاد الأوروبي، ليس من حيث توافر الطاقات والتجهيزات، بل لسببين رئيسيين، أولهما عدم توافر أرضية متينة سياسيا وقانونيا لاستيعاب مضاعفات المشكلة، لا سيما في غياب سياسة خارجية وأمنية موحدة كما تقضي اتفاقيات ماستريخت منذ نهاية الحرب الباردة، فضلا عن تفاوت تعامل بلدان الاتحاد مع تيارات اليمين المتطرف المعادي بشدة لوجود أجنبي في أوروبا من حيث الأساس. والسبب الثاني الازدياد المطرد لتأثر الرأي العام الأوروبي وتعاطفه القوي مع السوريين، نتيجة الوجه المأساوي للمشكلة عبر "قوارب الموت" والآن عبر قوافل التشريد برا.
من هنا تشكل "مشكلة اللجوء" أعباء إضافية على الأوروبيين، ولكن ليست مواجهة تداعياتها أكبر من القدرة على التعامل معها دون الاضطرار إلى إدخال العنصر العسكري في الحسابات السياسية المعقدة إقليميا ودوليا. هذا علاوة على تخفيف مفعول التداعيات السلبية لمشكلة اللجوء نفسها بوجود إيجابيات غير مباشرة، أبرزها للعيان ما يمكن الاستفادة منه عبر "توطين" المشردين السوريين من ذوي الكفاءات، نظرا لتبدل معالم هرم الفئات العمرية في معظم الدول الأوروبية ورجحان كفة عدد المسنين مقابل القادرين على العمل والإنتاج.
احتمالات مبدئية
في غياب سياسات أمنية وخارجية أوروبية موحدة، لا يكتسب أي تحرك عسكري صفة "أوروبي" ما لم تتوافر أرضية توافق سياسي بين باريس ولندن وبرلين على الأقل، ولا يوجد ما يشير إلى ذلك على صعيد التعامل مع قضية سورية. ولا تزال الصيغة الأوسع انتشارا حول قضية سورية هي ما رسخته السياسة الأمريكية بصدد إعطاء الأولوية لمحاربة الإرهاب، وعلى وجه التخصيص تنظيم داعش، وهذا ما انعكس في تصريح وزير الخارجية الأمريكي كيري استباقا لزيارة العاهل السعودي في واشنطون بصدد احتمال دخول قوات دول إقليمية للساحة السورية، فقد ربط ذلك بمحاربة التنظيم أيضا، كما تكرر ذلك في الأوساط البريطانية التي طالبت بتحرك أكبر لمحاربة داعش مع استبعاد الإشارة إلى ما بقي من النظام السوري وما يمارسه في اتجاه ترسيخ "التقسيم الواقعي" في البلاد.
أي تعديل للسياسات الأوروبية في قضية سورية في اتجاه التخلص من النظام الأسدي باعتباره السبب الأول لمشكلة اللاجئين، سيتطلب سلسلة من الاتصالات لتنسيق أكبر مع الدول الإقليمية ذات العلاقة، لا سيما السعودية التي تحتاج إلى فترة زمنية إضافية بسبب التدخل الحالي في اليمن، فضلا عن دول بدأت تنشط في اتجاه مضاد، يستهدف استبقاء النظام الأسدي، لا سيما مصر والإمارات.
ومما يعيق اتخاذ قرار بتحرك عسكري أوروبي في الوقت الحاضر، الحرص على عوامل اقتصادية تفرض تجنب العودة بالعلاقات مع إيران إلى ما كانت عليه قبل "الاتفاق النووي"، هذا علاوة على عدم الرغبة بتصعيد الخلاقات مع روسيا أيضا على خلفية الأزمة الأوكرانية. وتعتبر فرنسا أقرب من سواها -بالمقارنة مع ألمانيا- إلى تبني تحرك عسكري أبعد مدى، ولكن سيبقى في جميع الأحوال -إن حصل- في حدود تقديم أسلحة نوعية بشروط لبعض الفصائل السورية، بحيث تتمكن من الإسهام في "تأمين" شريط حدودي للنازحين داخل الأراضي السورية.
وهنا يمكن للدول الأوروبية أن تتحرك بهدوء لدعم بعض الفصائل على أرض سورية، ولكن لا ينتظر إعطاء مؤشرات رسمية مبكرة لمثل هذه الخطوات، فمن المعروف أن المطالبة بمنطقة آمنة تصدر عن تركيا في الدرجة الأولى، وأوروبا حريصة على عدم تقديم دعم غير مباشر لحزب العدالة والتنمية في فترة معركة انتخابات جديدة.
نبيل شبيب