رأي – ملحمة التشريد في مسار الثورة في سورية
موجات التشريد.. ستجعل من سورية فلسطين إيرانية، ومن قضية سورية قضية "أونروا"، ومن الثورة سطرا في كتاب تاريخ
لا يصلح الحديث عما وصلت إليه ملحمة التشريد السورية الكبرى بأسلوب "إعلامي"، فالمشهد الحالي يحتاج إلى متخصصين مدربين على أداء "المهام المستحيلة"، إذ تجاوزت أبعاده كل حدث آخر يراه الإعلاميون عادة بين أيديهم، ويبحثون عن خلفياته ومآلاته لتحليلها قياسا على سواها، بينما نجد أنفسنا الآن "لا نحيط بالمشهد" بل يحيط بنا ويحاصرنا، فكيف نرى ما وراءه لنجيب السؤال الملح والأهم من سواه:
كيف نتعامل من منظور سورية ومستقبلها ومنظور الثورة ومسارها مع التطورات المفزعة بشأن التشريد عن الوطن، جنبا إلى جنب مع ازدياد علنية الحديث عن "تقسيم واقعي" و"تطهير عرقي" و"حل إملائي" و" تفاهم إقليمي دولي" وما شابه ذلك؟
هذه عناصر أساسية على صلة وثيقة ومعقدة بمشهد التشريد الذي تركزت عليه الأنظار بفعل العدسات الإعلامية والتحركات السياسية.. ويتركز عليه هذا الحديث أيضا قدر الإمكان.
. . .
من فصول المشهد المفزعة ما نراه تباعا في مياه المتوسط وبحر إيجة، وعلى طرق العذاب بجميع درجاته ما بين فيافي مقدونية وصربيا والمجر والنمسا وألمانيا، ناهيك عن النفق الواصل بين اليابسة الأوروبية وأرض التاج البريطاني.. وقد يصدمنا بعض تلك الجزئيات فننفعل، كصورة الطفل السوري الذي ألقت الأمواج بجثمانه على الشاطئ.. ولكن هذه المشاهد الرهيبة باتت اعتيادية وتلك الصور الصادمة أصبحت يومية.. نرى معها أيدي إجرام "عصابات" تستغل أوضاع المشردين ولا نرى من ورائها أيدي "صناع القرار" السياسي دوليا، وهم يتصرفون بدم بارد، بل هم أحرص ما يكون على ذلك الدم البارد، ويطلقون عليه أوصافا من قبيل الموضوعية والواقعية والمصلحية، وكم نال منا تأنيب "أهلنا الناصحين" لنا أن نفقه كيفية صناعة القرار على هذا النحو "الموضوعي"، كيلا نبقى ضحايا لأوهامنا العاطفية وتصوراتنا الحماسية المتخلفة مع "أشباح" قيم وأخلاق ووجدان وضمير.
ولقد خشينا طويلا من مفعول "غلبة عواطفنا علينا" حتى أصبحت أعماق البحار مقابر لوجداننا مع أجساد كثير من أهلنا، ولم تعد تثير -صناعة قراراتنا الموضوعية- ولو في صيغة مظاهرات شعبية مليونية، بدلا من "المظاهرات الكلامية" في عالم افتراضي.
الجدير بالذكر أن نسبا عالية من الشعوب الأوروبية تأثرت "عاطفيا" بما يجري في ملحمة التشريد السورية، وانتشرت بتأثير عاطفي "حملات غير افتراضية" لتقديم العون الملموس بما في ذلك عرض الإقامة في البيوت.
. . .
إن ما يحيط بنا من كل جانب مشهد تتدفق أعماقه بالحياة ويحاصره الموت الزؤام، يجمع بين أجساد.. ودماء.. وآلام.. وآهات.. ومجرمين.. وضحايا.. ومتفرجين.. وممثلين.. ومخرجين.. وتحيط به مطابخ المخططات الاستراتيجية والقرارات السياسية وتوزيع المهام النظيفة والقذرة وزراعة الألغام والأحقاد.
نريد استيعاب هذا المشهد، وأبعاده الآن وفي المستقبل المنظور، مع أن كل ما يمكن أن يسفر عنه مخيف ورهيب وحافل بالأخطار، أكثر مما يمكن تخيّله.. ولكن يبقى أمامنا عنصر واضح للعيان: غالبية الضحايا بشر من العرب والمسلمين، وقضايا عربية وإسلامية.. بالمقابل لا يغيب عن مسرح "التعامل السياسي" مع ملحمة التشريد سوى "الطرف الرسمي العربي والإسلامي".
لهذا نقول: إن مستقبل العرب والمسلمين -شعوبا ودولا- على موعد مع خطر جسيم قادم أكبر مما أسفرت عنه ملحمة الهجرة الفلسطينية مع النكبة الأولى، وهي أمّ جميع النكبات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التالية من بعد، في فلسطين وما حولها.
. . .
لن يعالج جذور مشكلة التشريد أحد من المسؤولين الأوروبيين أو الأمريكيين ناهيك عن الشركاء في صناعتها من روس وإيرانيين.. سيان ما تكون نتائج التشريد المباشرة في أوروبا وخارج نطاقها، ولكن:
هل هذا هو السؤال الأهم بمنظور سورية ومستقبلها والثورة ومسارها؟
كل ما يتعلق بسورية وقضيتها وثورة شعبها "شأن سوري" أولا.. وما لم تثبت أقدام المخلصين على ذلك أولا فإن أي خطوة ميدانية أو سياسية أو إغاثية أو إنسانية لن تخدم سورية وطنا وشعبا وثورة ومستقبلا خدمة حقيقية مستدامة.
لا بد من القضاء على البلاء الأكبر من جذوره.. وإلا فلن ينقطع "مجرى التشريد" المأساوي، ولنذكر أن عدد من تشرد عن الوطن السوري قبل الثورة تجاوز "ربع" تعداد أفراد الشعب آنذاك.. والربع الثاني وزيادة يتشرد الآن.
إن تكرار موجات التشريد.. الآن وفي السنوات التالية سيجعل من سورية فلسطين إيرانية، ومن قضية سورية قضية "أونروا"، ومن الثورة سطرا من السطور العابرة في مجرى التاريخ.
هذا الاحتمال سوداوي.. ولكن من ينتقدون "سوداويته" هم الذين يتشبثون بالمدرسة السياسية الواقعية المنفعية .. وهي المرشحة أن تجعله واقعا قائما، إذا أمكن للقوى المعادية لتحرير الإرادة الشعبية أن تحول قضية سورية إلى مشكلة تشريد وتطهير عرقي وتقسيم جغرافي..
لن يمنع تفاقم الملحمة ونتائجها قرار إقليمي.. ولا أوروبي أو أمريكي أو روسي أو أممي.. إنما يمنعه "قرار سوري" يصدر عن "ثلة" من القادرين على صناعة تحرك جماعي مشترك، من قلب الثورة، النابض حتى الآن.. قبل أن يتوقف عن الخفقان.
إن الأهم مما يصنعه "العالم" كله بملحمة أحداث التشريد الجارية.. هو أن نبصر نحن ونعمل وفق ما نراه رأي العين، أن هذه الملحمة تكرر علينا ذات السؤال الجوهري بمنظور سورية ومستقبلها والثورة ومسارها:
أما آن الأوان أن يتلاقى الآن عدد كاف من المخلصين، القادرين على التصرف انطلاقا من هوية سورية واحدة، ورؤية ثابتة، وعمل مشترك، أم سنبقى كما كنا ولا زلنا.. "فصائل" و"مجالس" و"ائتلافات" و"تنظيمات"
وهواة قتال تمرسوا فأصبحوا يصنعون معجزات عسكرية بطولية، وهواة سياسة لا يريدون الخروج من نفق السياسة الاستعراضية فأصبح أقصى ما يصنعون -كالإعلاميين والكتاب- مجرد معجزات بيانية كلامية.
أصحاب التأثير والقدرة على التأثير من السوريين مسؤولون عن صناعة "القرار السوري الفاعل"، ولكن معظمهم حتى الآن "معاق" نتيجة ارتباطه بهذا الطرف أو ذاك من أنحاء العالم، فهم يتأثرون أكثر مما يؤثرون، ولا يمكن أن يؤثروا دون أن يلتقوا كالبنيان المرصوص والجسد الواحد، وهذا مشروط بأن يكون ارتباطهم الأوثق والأرسخ قائما وفاعلا مع "الطرف الشعبي" الذي ينتمي إليه هؤلاء المشردون، وينتمي إليه كذلك من استقرت أجسادهم في بطون حيتان البحر، وينتمي إليه كذلك أولادنا وأحفادنا ممن سيقرؤون تاريخنا في بطون الكتب القديمة وفي أحدث شبكات العالم الافتراضي في قادم الأيام.
نبيل شبيب