تحليل – قضية سورية في محرقة سياسية
نحاصر أنفسنا بأنفسنا من خلال الانفصام ما بين "الثوري" و"السياسي" في مسيرة تغيير تاريخي يوجب التقاءهما
لا يغيب عن الأنظار كيف امتدت ساحة التحركات السياسية.. بعيدا عن الزبداني والفوعة ودرعا ودوما وأخواتها.. إلى موسكو ومن هبّ ودبّ لزيارتها، وإلى قم و"ضاحيتها اللبنانية" وصديقتها العمانية، وإلى واشنطون و"متلازمتها الداعشية"، وإلى عواصم أوروبا والنشاز في تصريحاتها الرسمية، بل وصلت أيضا إلى العمل لتحويل "الثورة الشعبية التحررية" إلى مجرد "مشكلة لجوء إنسانية" فحسب، فتصاعدت حدة التنافس ما بين قوارب الموت على السواحل، وقاعات التفاوض في بروكسل وأخواتها، وقفار العذاب البرية الفاصلة بين البراميل المتفجرة والحدود الأوروبية.
شكوى أبدية.. وتبرير عقيم
هل أصبح الرد المناسب الوحيد على هذه التطورات هو "الشكوى من المجتمع الدولي"؟
لقد ارتكزت الشكاوى دوما على عنصرين: "مشروعية" أهداف الشعب الثائر، و"مفعول" المأساة الإنسانية المتفاقمة بسبب الرد الهمجي على ثورته.
بالمقابل: أول ما يتعلمه طلبة العلوم السياسية وصغار محترفي السياسة هو نقيض ذلك.
من الشواهد ما نراه الآن في مسرح سياسي لا مكان فيه لعناصر "المشروعية والإنسانية" سوى موقع واحد: إخراج القرار المتخذ وفق "الواقعية النفعية" بمساحيق تسمح بتمريره على مستوى "الرأي العام"، أي القطاعات الواعية من الشعوب ومنظمات الناشطين المستقلين في الدفاع عن حقوقها وبالتالي حقوق الإنسان الأصيلة المشروعة.
وقد سقطت هذه "المساحيق" أيضا فيما نشهده من تعامل دولي وإقليمي للتأثير سياسيا على مجرى قضية سورية وتوجيهه.. وغابت حتى محاولات التغطية على دوافع بشعة، مستمدة من وحل مطامع ومصالح غير مشروعة، وهذا سلوك معروف تعبر عنه الأدبيات السياسية والإعلامية عادة بسقوط ورقة التوت، ويقال بالعامية في وصف ما يجري: "عالمكشوف".
مرة أخرى: هل أصبح الرد المناسب الوحيد على هذه التطورات هو "الشكوى من المجتمع الدولي"؟
نشكو من لا أخلاقية الممارسات السياسية دوليا.. وأولى بنا أن نشكو أنفسنا من كم لا ينضب من تعميم أسلوب الشكوى عبر تغريدات وكلمات وتعليقات في عالم افتراضي.
معظم شكاوانا صادرة عن أفراد يتألمون ولا يملكون "أجهزة" للتصرف السياسي من خلالها، وربما يعذرهم واقعهم هذا، ولكن لا يختلف ما يقولون بصيغة الشكوى عن محتوى بيانات صاخبة، وتصريحات نارية، ومشاركات متكررة في الفضائيات، تصدر عن "شخصيات ومنظمات" يفترض أنها تمتلك الوسائل الشكلية، أي الأجهزة الضرورية للتصرف السياسي، فهل هذه مهمتهم بذريعة ما "يصنعه المجتمع الدولي بنا.."؟
لا بد من القول في ختام هذه "الشكوى" وفي أجوائها:
إن من يتعامل على هذا النحو مع سياسات ما يسمى المجتمع الدولي، لا يفقه في السياسة النظرية ولا الواقعية شيئا.. أي لا ينبغي أن يدرج نفسه في أوساط العمل السياسي، وربما يصلح أن يتحول إلى "صنعة الكلام" كما هو الحال مع صاحب هذا القلم، مع التحذير بأن فن الإعلام أيضا يفقد قيمته ومفعول رسالته عندما تغلب عليه لغة الشكوى والتبرير.
حصار ثورة متمردة
بين أيدينا على أرض الواقع:
١- دوما وكامل الغوطة الشرقية، الزبداني وكامل الغوطة الغربية، ومن وراء ذلك "كامل جغرافية" أهداف البراميل المتفجرة وما يشابهها.. جميع ذلك يشهد على تركيز همجي على إيجاد منطقة "السيطرة الطائفية" علنا.
٢- ترسيخ صيغة "التقسيم الواقعي" مع "تغذية ديمومة الصراع" -عربا وكردا ودواعش وحوالش ومتشددين ومعتدلين- أصبح في محور التقارب الروسي – الأمريكي – الإيراني، وهو مرشح أن يجر إلى فلك رعايته الخطير قوى إقليمية وأوروبية..
٣- أدوات التنفيذ باتت تعمل علنيا أيضا.. ومن ذلك تصعيد تحرك الانقلابيين بمصر (ومن يدعمهم) لطرح أنفسهم مرتكزا لأعاصير خنق الإرادة التحررية الشعبية فيما عرف بثورات الربيع العربي..
٤- انتقلت تركيا على الأرجح، وبعد زهاء خمس سنوات من فتح أبوابها أمام "الجميع" ودعم "توحيد الجميع"، إلى مرحلة اختيار من يمكن الاعتماد عليهم ميدانيا وسياسيا، وصياغة أهداف أخرى قابلة للتحقيق في وجه استهداف تركيا نفسها مع استهداف الثورات العربية..
٥- أما السعودية فلم تخرج حتى الآن من تبعات تعاملها الاضطراري مع "الخطر" الذي رصدت استفحاله في اليمن المجاور، ولا ينتظر أن تتحول في الوقت الحاضر إلى سياسة فاعلة فيما تتطلبه قضية سورية وما تنطوي عليه من مخاطر إقليمية تشمل السعودية والخليج عموما..
والسؤال: ما الذي يمكن صنعه "سياسيا" من جانب..
١- القوى الثورية الميدانية الرئيسية المعروفة..
٢- الواجهة السياسية الرئيسية، أي الائتلاف، وواقعه معروف أيضا.
معالم التحرك المطلوب
كم ذا نردد حتى مللنا الكلام: إن ما يصنع بالقوة على الأرض يفرض نفسه على "المسرح" السياسي.. هذا صحيح ولكن ينبغي القول أيضا: إن ما يصنع سياسيا، يؤثر على "سرعة" ما يصنع على الأرض بالقوة.
إن معالم التصرف المطلوب تتحدد دوما عبر خطين متوازيين متكاملين، لا يصح السير على أحدهما دون الآخر، هما التعامل القويم مع ما يصنعه الطرف الآخر، والمبادرة السياسية الذاتية.
أما التعامل مع العدو المباشر والقوى الخارجية فلا يكون قويما من خلال تعدد "الطهاة السياسيين باسم الثورة". وأما المبادرة الذاتية فقد شهدنا مؤخرا كيف أظهرت حركة أحرار الشام مؤخرا قدرة على التحرك بما يصلح لكسر حلقة الحصار المفرغة حول الثورة المتمردة على قواعد "اللعبة الدولية" التقليدية.. ولكن بقيت الحركة وحدها في الميدان، بل وجد من يشكك في صواب تحركها السياسي أيضا، دون طرح بديل موضوعي.
هذا ما يعيدنا إلى ما يوصف بالمربع الأول من تناقض صنع خارجيا ووجد من يرعاه داخليا، حتى أصبحنا نحاصر أنفسنا بأنفسنا من خلال الانفصام ما بين "الثوري" و"السياسي" في مسيرة تغيير تاريخي يوجب التقاءهما في بوتقة واحدة.
إن الحد الأدنى من الناحية العملية المفروضة الآن هو حتمية التوافق (وهو دون الوحدة بمراحل) بين "أجزاء متفرقة" في الساحة السياسية الميدانية والخارجية، على رؤية استراتيجية مشتركة للخط الواصل بين "حال القضية الآن" وبين الحال الذي يجب الوصول إليه، لتحقيق هدف الثورة التغييرية، ثم لا بد من الالتزام بمقتضيات هذا الخط، أي عبر توافق مماثل على المحددات الاستراتيجية وحدود الحركة التكتيكية و"الخطوط الحمراء" المنبثقة عن الرؤية المشتركة.
ليس السؤال من يدعو إلى ذلك.. فالجميع يستشعرون ضرورته المصيرية، إنما السؤال هو من يخطو الخطوة العملية الأولى في هذا الاتجاه.. ومن يستجيب.
آن الأوان أن تشهد "قاعات التفاوض" اللقاءات الضرورية بين أهلنا من الثوار، ومن السياسيين، ومن المفكرين، ومن العاملين لتخفيف المعاناة.. ويكفينا ما لا نزال نشهده -بدلا من ذلك- من مفاوضات ولقاءات "انفرادية" بين كل طرف من "أهلنا" مع ممثلين عن قوى إقليمية ودولية وتمويلية..
إننا نشهد مزيدا من التصدع في الصفوف وسط "الحصار الخارجي"، مع غياب جهد فعال للتوافق، وقد أصبح
مهمة مصيرية.. مصيرية للجميع، وليس لهذا الفريق أو ذاك في الساحات الميدانية والسياسية.
نبيل شبيب