رؤية – الأكراد.. بين مستقبل مشترك وصراع أمريكي البذور

لا يفيد تجاهل وجود "مشكلة" تتعلق بالأكراد، سواء عبثت الأصابع الأمريكية بالمنطقة أم لم تفعل

57

الحديث عن الأكراد في سورية في الفقرات التالية حديث يسري إجمالا على سواهم، كالدروز الذين ازداد الجدل حولهم مؤخرا، مثلما ازداد وانتشر حول الأكراد. والواقع أن المشكلة الحالية للأكراد في سورية ليست مشكلة "كردية" بقدر ما هي مشكلة "استراتيجية أمريكية"،خطيرة على المنطقة، في الحاضر والمستقبل، وهذا ما لا تستثني عواقبه الأكراد أنفسهم، وإن وجد في الوقت الحاضر فريق من الأكراد دعما أمريكيا "مقصودا" ومكثفا عبر استراتيجية واشنطون فيما يسمى التحالف الدولي.
إن تسويق هذا الدعم الأمريكي المكثف لقوات "الحماية الكردية" بالذات، تحت عنوان مكافحة داعش، يتحول إلى "توريط خطير" لهذا الفريق من الأكراد عندما يتجاوز مجرى الأحداث هذا الهدف المحدد، ويلحق الضرر المباشر بالمكونات الشعبية الأساسية في سورية كما يقع حاليا، لا سيما العرب والتركمان، أو يعرض الدولة التركية المجاورة لخطر إشعال فتيل الصراع مع الأكراد مجددا، بعد التقدم الملحوظ في السنوات الماضية في نزع فتيله تدريجيا وبصعوبة بالغة، وبعد تهيئة الظروف لمزيد من الجهود على طريق رفع مظالم ‎متوارثة من قبل على حساب الأكراد.
كذلك فإن التلويح الضمني بتمكين أهل سورية من الأكراد بالذات من إقامة دويلة أو ما يشبه الدويلة على طول الحدود مع تركيا، يتفاعل مع الفوضى الهدامة في الأعاصير المضادة للثورات الشعبية، ولا سيما لتحرير سورية وشعبها والإرادة الشعبية الجماعية فيها من الاستبداد وفساده.. فيتحول هذا "التلويح الضمني" واقعيا إلى استخدام فريق من الأكراد أداة في الجهود المبذولة لتفتيت سورية وطنا وشعبا، بهدف استمرار جولات الصراع زمنا طويلا، بعد أن ظهر للعيان أن الثورة الشعبية ماضية نحو تحقيق هدفها التحرري الوطني الجامع، رغم كل ما واجهته داخليا وخارجيا.

. . .

رغم ذلك لا يفيد في سورية الثورة التعامل "داخليا" من منطلق الرد على رؤية عدوانية بمثلها، والرد على تحرك فريق من الأكراد وفق تلك الرؤية، بتعميم وصمة "مصدرالخطر" على كافة الأكراد، ولا يفيد أيضا تجاهل وجود "مشكلة" تتعلق بالأكراد، سواء عبثت الأصابع الأمريكية بالمنطقة أم لم تفعل.
لقد تعرض عموم الأكراد تاريخيا لمظالم واسعة النطاق في سورية وسواها، وبالمقابل يمكن أن يؤدي ارتكاب فريق منهم المظالم في سورية أو سواها، إلى زرع بذور صراع لولبي وخيم متجدد لا ينجو من عواقبه الأكراد ولا سواهم.

. . .

عالمنا عالم التكتلات على كل صعيد وفي كل مكان.. ولا يوجد فيه "شعوب صغيرة" ولا "أمة كبرى" قادرة على تحقيق "مصالحها الذاتية" -مهما اعتمدت على القوة الذاتية- دون أن تضع في حساباتها التكتل مع سواها، وهذا ما لا يتحقق واقعيا دون إعطاء الأولوية للمصالح الإقليمية المشتركة البعيدة المدى، وليس لمصالح "دعم خارجي" مؤقتة، ولا تتحقق المصالح الذاتية دون أن يشمل التكتل الأهداف المشروعة لجميع أطرافه.
وبالمقابل أصبح ثابتا أن سيطرة أي فريق على الآخريناعتمادا على قوة عسكرية وغير عسكرية، في مرحلة من المراحل، ستسبب بالضرورة ردود فعل تستخدم قوة مضادة، عاجلا أو آجلا، فيتحول العيش المشترك المنشود إلى دوامة اقتتال بلا نهاية.
في سورية الثورة يسري في الوقت الحاضر ما يسري عالميا، أنه لا توجد دولة واحدة من الدول المستقرة -فعلا.. وليس "قهرا"- إلا وتضم في نطاق شعبها مكونات متعددة، وفق عامل واحد أو أكثر من العوامل العقدية والقومية والمذهبية والاجتماعية والثقافية.
ليس هذا التنوع هو "المشكلة" في سورية.. ولا سواها، ولكن التعامل مع هذا التنوع هو التحدي الحقيقي بين أيدي الجميع، فإن وجد التعامل قواعد مشتركة على أساس حقوق وحريات مكفولة للجميع، وعبر تعايش إيجابي يحقق مصالح الجميع، يمكن أن يتحقق الاستقرار، وبالنسبة إلى سورية الثورة، يتحقق بذلك الهدف المحوري الأهم للثورة.
أما إن انزلقت بعض المكونات، الصغيرة أو الكبيرة،في أي بلد، إلى نزعة ذاتية للسيطرة، أو إلى ارتباط أجنبي على حساب الارتباط الوطني المشترك، فمن المستحيل أن يتحقق الاستقرار، وهذا ما يسري على سورية أيضا، حيث يمكن أن تنشأ أوضاع منحرفة شبيهة بما صنعته الطغمة الأسدية الاستبدادية الفاسدة بممارساتها القمعية والطائفية إلى جانب ارتباطها بمشاريع الهيمنة الأجنبية العدوانية، الإقليمية والدولية.

. . .

عندما ندعو كافة الأكراد من أهل سورية، لا سيما المرتبطين منهم بنهج "قوات الحماية"، إلى نهج وطني يربطهم بالثورة التحررية ومسارها، ويربطها بهم، فإن هذه الدعوة لا تنطلق من مصلحة "فريق آخر" كبير أو صغير من شعب سورية، بل من مصلحة الجميع، لا سيما الأكراد أنفسهم، فلا ينبغي أن تجرهم نزعات فريق منهم، ولا أن يغرهم مكر أهداف استراتيجية أمريكية معادية للمنطقة، إلى وضع أنفسهم في خندق المواجهة مع "شعب سورية".. وهم جزء منه وطنيا، أو مع "الدولة التركية".. وهم مثلها أحد المكونات الإقليمية المشتركة الواجب تكتلها في وجه الأخطار الخارجية ومشاريع الهيمنة الأجنبية.
ولا تتحقق الاستجابة لمثل هذا النداء -أو الطلب المصيري الملحّ-  بمجرد نفي التوجهات "الانفصالية" مثلا، أو نفي الإجراءات "العرقية" مثلا آخر، بل تتحقق الاستجابة من خلال مواقف سياسية قاطعة، وخطوات عملية مرئية، وتواصل دائم يستهدف التفاهم والتعاون وليس المواجهة والصراع.
كذلك فإن من واجب الأطراف الأخرى، سواء في ذلك فصائل الثوار في سورية، أو الجهات السياسية المسؤولة في تركيا، أن تطرح مع "خطاب الانفتاح والتفاهم" خطوات عملية الآن، ورؤية مستقبلية لقادم الأيام، تؤكد أن المطلوب للأكراد في المنطقة هو المطلوب لسواهم، وأن حقوقهم كحقوق سواهم، وأن مستقبلهم جزء من مستقبل سواهم، وأن أهداف التحرر والكرامة والعدالة في مسار الثورة الشعبية لا تستثني فئة من الفئات ولا طائفة من الطوائف، وأن التعاون الإقليمي على أساس المصالح المشتركة بين الشعوب والأنظمة الدستورية العادلة، له الأولوية، وأنه ضرورة مصيرية، لنتمكن دولا وشعوبا من مواجهة الأخطار الخارجية، ولنتمكن أيضا من التعامل مع القوى الدولية على قاعدة المصالح "المشروعة" المتبادلة تعاملا إيجابيا لصالح الإنسان والأسرة البشرية كما ينبغي أن تكون، فلا استقرار للعدالة والأمن والتقدم في عالمنا ما لم تشمل حصيلته الجميع، ولا كرامة لجنس الإنسان ولا حرية، ما لم يوضع حدّ لمشاريع الهيمنة جميعا.

نبيل شبيب