ذاكرة – التحدي الأكبر أمام جيل الثورة والتغيير

على جيل المستقبل أن يحمل أمانة العمل والنهوض على نحو آخر غير الذي صنعناه، وأن يعطيها حقّها

43

إنّ  التحدّي الحقيقي أمام كل إنسان هو السعي لنجاح حقيقي في تحقيق هدف جليل رغم وجود عوائق معادية، ولا يأتي النجاح بالتيئيس والتسليم، بل عبر نظرة صائبة تستوعب العوائق، وتضعها في الحسبان، وتبتكر الوسائل الناجعة للتعامل معها، ابتداء من التنظير والتخطيط، وصولا إلى التنفيذ والتطبيق، مرورا بالمواجهة الذاتيّة الدائبة والتطوير المنهجيّ المنبثق عنها. أما الإخفاق فهو عدم تحقيق ذلك، ودليل على وجود نواقص لا تراعي وجود العوائق في التنظير والتخطيط وفي التنفيذ والتطبيق وفي التقويم والتطوير.

ليست مهمّة التحرّر عبر الثورة يسيرة، ولا مهمّة النهوض هدفا ثورويا يسيرة، ولا مهمة الحيلولة دون تحقيق أهداف الهيمنة الأجنبية يسيرة، ولكنّ هذه الأهداف وأمثالها ليست مستحيلة أيضا، فلا ينبغي التهوين من شأن أمانة حملها، كما لا ينبغي السقوط في وهدة التيئيس من القدرة الذاتيّة على حملها.

الشعور بالمسؤولية يعني إدراك أن ما نصنع هو أمانة وتكليف، ومعرفة ووعي، واستيعاب للواقع وتخطيط، وعمل يجمع الخبرات، وعطاء وقدرة على التعامل مع الآخر. أمّا إذا أخفق دون تحقيق الهدف جيل من قبل، لأنه لم يستوعب طريق النهوض ولم يسلكه على النحو الصحيح، فنقل اليأس وروح العجز إلى جيل المستقبل، فإنّه يرتكب آنذاك جريمة مزدوجة، الإخفاق واستمراريته.

كثير ممّن يصنّفون أنفسهم في مرتبة النخب من هذه الأمّة، استقبلوا الاستقلال عند رحيل جيوش المستعمر الأجنبي وهم في مقتبل أعمارهم، وهاهم يودّعون حياتهم على رؤية عودة المستعمر في ثياب أخرى.

كثير منّا من أعلن امتلاك مفاتيح النهوض والتقدّم والوحدة والتحرّر بما تبنّى من رؤى ومناهج، وليس بين أيدينا من تلك الأهداف الجليلة سوى الانهيار والتخلّف والتمزّق والتبعية.

كثير منّا بدأ النضال والكفاح والعمل والجهاد بالدعوة إلى تيّار أو حزب أو جماعة وتأسيس تنظيم أو هيئة أو التحرّك بانقلاب والسيطرة على السلطة، واعتبر طريقه هو الطريق، وسواه على ضلال، والجميع اليوم أمام ركام ما صنع النزاع والصراع، والإقصاء والاستئصال، والخصومة والعداء.

ولكن الأشدّ وطأة من هذا الإرث الثقيل على جيل المستقبل، هو أنّ فريقا كبيرا من سائر هذه التيّارات والاتجاهات، لا يزال -إلا من رحم ربي- يزعم الاستئثار بالصواب دون أن يبدّل نهجه القديم، ولا يزال يمسك متشبّثا بما تسلّط عليه من إمكانات وطاقات فيأبى تسليم الزمام لآخرين، ليصنعوا غير الذي صنع، لنخرج من أتّون الكوارث والنكبات، التي خلّفها هو، والتي يحمل -مع أسلافه على الطريق ذاتها- أوزارها والمسؤولية الأكبر عن وقوعها.

كل جيل مطالب وهو ينقل الراية لسواه برؤية موضوعية لذاته ولمواقعه ولحصيلة عمره، ومطالَب بإدراك أنّه لن يستطيع أن يعوّض في الفرصة الزمنية القصيرة الباقية أمامه عن خسائر الماضي إلاّ بهجره الأسباب التي أدّت إلى تلك الخسائر وبحثه عن صلة وصل أخرى، بينه وبين جيل المستقبل الذي بدأ باستلام المسؤولية على أيّ حال.

إنّ الإرث الذي نخلّفه لجيل المستقبل إرث ثقيل، يستدعي الحياء وربما الاعتزال لا التشبّث بما كان معظمنا عليه.

وأوّل ما ينبغي على جيل المستقبل هو أن يحمل أمانة العمل والنهوض على نحو آخر غير الذي صنعناه، وأن يعطيها حقّها من الإيمان اليقيني، والفكر المستنير، والعلم المنهجي، والمعرفة الثاقبة، والوعي السديد، والتخطيط المدروس، والعمل الدائب، والجهد المتواصل، والصبر على المغريات والمرهبات، فذاك جميعه من شروط النهوض.. إلى جانب ما يقدم من إيمان وعزيمة على طريق الثورة.

وبين يدي جيل المستقبل من الإمكانات والثروات والطاقات الذاتية ما كان مثله بين أيدينا، ولم نصنع تلك الشروط للنهوض الحضاري والإنساني الذي كنّا نردّد الحديث عنه في خطبنا وكتاباتنا، ولهذا لم تتحوّل لدينا الشعارات إلى أعمال لتتحوّل الأحلام إلى حقائق.. وهذا في مقدمة ما ينبغي للثوار أن يضعوه نصب أعينهم وهم يرون تباشير النصر الكبير في ميدان المواجهة، فالهدف الجليل الأكبر المطلوب هو توظيف هذا النصر ليحقق للإنسان في بلادنا الحرية والعزة والكرامة والعدالة والتقدم.

نبيل شبيب