تحليل – حرب أوروبية على عصابات تهريب اللاجئين؟

غرق العديد من قوارب الموت لم يوقف عمليات التهريب، ولا يبدو أن إغراقها بقوة السلاح بدلا من غرقها بقوة أمواج البحر سيغيّر المعادلة

44

لا ينتظر أن ينتهك الاتحاد الأوروبي "القانون الدولي" بشكل مباشر ليخوض معركته العسكرية المزمعة ضد "عصابات تهريب اللاجئين" على قوارب الموت عبر مياه البحر الأبيض المتوسط، ولكن من المؤكد أن الدول الرئيسية فيه ستبذل قصارى جهودها لممارسة نفوذها وعلاقاتها مع الدول المعنية لتمرير قرار في مجلس الأمن الدولي يبيح استخدام القوة العسكرية، وإن تناقض مع نصوص ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك لانتزاع "موافقة رسمية" ليبية على انتهاك المجالات الإقليمية الليبية، حتى وإن كانت موافقة مشبوهة في ظل الظروف الحالية المعروفة في ليبيا. 
 
قوارب الموت بين الغرق والقصف
المخاوف من تحرك عسكري أوروبي قائمة منذ انعقاد قمة أوروبية طارئة في نيسان/ إبريل الماضي، عقب مأساة غرق ما لا يقل عن ٧٠٠ لاجئ قرب السواحل الأوروبية، رفعت عدد الغرقى عام ٢٠١٥م الجاري إلى أكثر من ١٧٥٠ حسب تقديرات المفوضية العامة لشؤون اللاجئين، وقد تسارعت التصريحات الرسمية الأوروبية ذات الصبغة الإنسانية آنذاك، ولكن القمة الطارئة التي خصصت للتعامل مع مآسي اللاجئين عبر مياه البحر الأبيض المتوسط، خيبت الآمال، إذ كانت حصيلتها واضحة من حيث التركيز على مكافحة عصابات التهريب على زوارق تتعرض للغرق، أكثر بما لا يقاس من التركيز على الجانب الإنساني بشأن استقبال اللاجئين وتوزيعهم في الدول الأوروبية، ناهيك عن تلبية المطالب الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان ببذل جهود سياسية واقتصادية أكبر لمكافحة أسباب التشريد عن الأوطان الأصلية، مع تعليل تلك المطالب بأن السياسات الأوروبية نفسها تحمل قسطا من المسؤولية عما يسود في بلدان "المصدر" من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية، كما أن سياسة بناء الأسوار حول الاتحاد الأوروبي منذ "اتفاقية ماستريخت" عقب الحرب الباردة، ساهمت في تفاقم مشكلات اللاجئين المأساوية على الأبواب الأوروبية.
القمة الطارئة أوعزت لمفوضة الشؤون الخارجية موجيريني بإعداد خطة لمكافحة عصابات التهريب، وتزامن ذلك مع تحركالمفوضية الأوروبية لصياغة مخطط أعلنه رئيسها يونكر مؤخرا، ويتضمن العمل على إيجاد توازن في توزيع اللاجئين على البلدان الأوروبية، باعتماد مفتاح يراعي عددا من العوامل المتعلقة بالقدرة على الاستيعاب اقتصاديا كما يراعي عدد السكان ونسبة اللاجئين حاليا في كل بلد. 
دول أوروبية عديدة عارضت هذا المخطط قبل عرضه على القمة الأوروبية الدورية القادمة، علما بأن التعامل مع اللاجئين لا يخضع للأجهزة الأوروبية المركزية بل بقي من صلاحيات الحكومات الوطنية، ولكن هذا الرفض الاستباقي للمخطط تزامنمع الموافقة السريعة على خطة موجيريني في مؤتمر ضم وزراء الخارجية والدفاع الأوروبيين، فتقرر استخدام القوة العسكرية لتدمير القوارب والسفن "المشبوهة" بتهمة التهريب في المياه الدولية وداخل المياه الإقليمية الليبية، علاوة على تدمير قواعد انطلاقها على الأرض الليبية أيضا، ويراد أن يكون المقر الرئيسي لتوجيه العملية العسكرية باسم "نافور ميد" في روما بقيادة الأدميرال الإيطالي إينريكو كريدندينو. 
وفور الإعلان عن العملية المزمعة،انطلقت الانتقادات الشديدة لها، ولم تقتصر على المنظمات غير الحكومية، بل شملت العديد من المسؤولين السياسيين، بمن فيهم بعض من ينتمون إلى أحزاب حكومية أوروبية، وتتناول الانتقادات جدوى العملية نفسها، علاوة على العقبات التي تعترضها بمعايير القانون الدولي.
وكان واضحا أن وزراء الخارجية والدفاع أنفسهم غير مطمئنين إلى جدوى العملية، وظهر ذلك في تعقيب وزير الخارجية الألماني شتاينماير على القرار بقوله "نعلم أن هذه العملية لا تحل مشكلة اللاجئين بأي شكل من الأشكال، ولكن لا بد للاتحاد الأوروبي من التعامل مع عصابات التهريب الإجرامية"، وأشار هو ووزيرة الدفاع الألمانية فون دير لايين إلى العقبات القانونية الدولية التي لا بد من تجاوزها لتنفيذ العملية، بينما مضى آخرون -كوزير التنمية الألماني مولّر- إلى التأكيد أن تدمير الجنود الأوروبيين للسفن المشبوهة في ليبيا عملية بالغة الصعوبة، ولا يكاد يمكن تطبيقها، وأن الأفضل التعامل بالطرق الأمنية والاستخباراتية مع عصابات التهريب، إلى جانب بذل جهود أكبر لتأمين الأوضاع السياسية والاقتصادية في مواطن الهجرة واللجوء. 
وتشير انتقادات عديدة إلى أن استهداف ليبيا لا يحل المشكلة أصلا، وإن بلغت نسبة ما ينطلق منها حاليا حوالي ٨٠ في المائة مما يوصف بقوارب الموت، إذ لا يمكن استهداف جميع المواقع المعنية، في المياه التركية واليونانية واللبنانية وغيرها، وبالتالي يمكن للمهربين التحول للتركيز عليها مجددا، هذا علاوة على أن غرق العديد من السفن والقوارب لم يوقف عمليات التهريب، ولا يبدو أن إغراقها بقوة السلاح بدلا من غرقها بقوة أمواج البحر سيغيّر المعادلة.  
 
اللجوء.. والتفويض الدولي بالحرب
تشمل الخطة المقررة ثلاث مراحل، ومن المنتظر الشروع في أولاها فورا، لعدم وجود عقبات تعترضها، إذ تقتصر على عمليات مراقبة لتقدير حجم المشكلة تقديرا موضوعيا، اعتمادا على الأقمار الصناعية وطائرات دون طيار ووسائل أخرى، بينما يراد في المرحلة الثانية الاستهداف العسكري للسفن والقوارب المعنية في المياه الدولية، وهذا ما يتطلب الحصول على تفويض من مجلس الأمن الدولي عبر قرار يشير إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولكن استخدام القوة العسكرية مشروط نصا بحالة تهديد الأمن الدولي بصورة مباشرة، ولا يوجد في وصول اللاجئين إلى أراضي الاتحاد الأوروبي ما يهدد أمن دوله إلى درجة تبيح "الحرب"، أما الحجة القائلة إن تهديد المهربين لحياة اللاجئين أنفسهم هي صيغة من صيغ "تهديد الأمن" وفق القانون الدولي فحجة واهية، لا سيما وأن المعترضين على الخطة العسكرية، مثل النائبة الأوروبية من الخضر بربارا لوخبيلر، يشيرون إلى وجود وسائل غير الوسيلة العسكرية لوقف استغلال معاناة اللاجئين من جانب عصابات التهريب، ومنها اتخاذ إجراءات قانونية أخرى من قبيل إصدار "تأشيرة سفر إنسانية"، فهذه صورة من صور تنفيذ الدول الأوروبية التزاماتها الدولية بشأن "حق اللجوء" وهو الحق المكفول بموجب القانون الدولي، ويعتبر تنفيذه من الواجبات المعممة على سائر الدول، وهذا ما يسري عموما على إيجاد "طرق آمنة ومشروعة" للجوء، كيلا يصبح اللاجئون فريسة استغلال المهربين.
وتبقى العقبة الأكبر في مجلس الأمن الدولي ماثلة أمام الأوروبيين في الاعتراض الروسي المتوقع، وكانت فرنسا قد أخفقت في محاولة الحصول على موافقة موسكو مسبقا، ورغم ذلك أعلن رئيسها أولاند العزم على التقدم بمشروع قرار للمجلس، بينما أعربت مفوضة الشؤون الخارجية الأوروبية موجيريني عن "تفاؤلها" بالحصول على الموافقة الدولية خلال فترة وجيزة، وسبق أن عارضت موسكو قرارات تذكر التهديد باستخدام القوة بموجب الفصل السابع، وعللت ذلك بأن حلف شمال الأطلسي أساء استخدام قرار دولي من هذا القبيل للتدخل العسكري في ليبيا إبان الثورة، ويصعب أن تقبل الآن بالقرار المطلوب أوروبيا مع استهداف المياه والأجواء والأراضي الليبية بالذات، لا سيما وأن بعض الدول الأوروبية تلوح بين الحين والآخر بضرورة تدخل عسكري لأسباب أخرى تتعلق بالصدامات الداخلية في ليبيا. 
 
من يتكلم باسم ليبيا؟
لا بد في المرحلة الثالثة من الخطة الأوروبية من الحصول على الموافقة الرسمية الليبية باعتبار العمليات العسكرية ستشمل مياهها وأجواءها وأراضيها، وهنا لا يقتصر الأمر على "صب الزيت على النار" على خلفية النزاعات الجارية، إنما يبقى السؤال مفتوحا أيضا بشأن الجهة الرسمية المخولة بإعطاء تلك الموافقة، فرغم وصف "حكومة طبرق" بأنها هي المعترف بها دوليا، إلا أن الدول الأوروبية تدرك منذ انطلاق المساعي الأممية لحل الصراع القائم، أن اعتماد موافقتها "المرجوة" أمر تشوبه الشبهات، سواء من حيث مشروعيته القانونية أو من حيث تأثيره السلبي الكبير على مجرى عملية إحلال السلام المتعثرة على كل حال.
وقد سارع حاتم العريبي مندوب حكومة طبرق في نيويورك إلى إعلان الرفض القاطع لانتهاك السيادة الليبية عبر العملية العسكرية الأوروبية المزمعة، ولكن لا يبدو أن الدوائر الرسمية الأوروبية تعتبر هذا الموقف نهائيا، وقد تعوّل على تغييره عبر الاتصالات الحالية، أو المحتملة إذا ما انتهى وضع الانقسام السائد الآن.
إنما يعترض العديد من أعضاء المجلس النيابي الأوروبي على استهداف الزوارق والسفن في المياه الإقليمية وعلى السواحل الليبية من حيث الأساس لعدم إمكانية التمييز المطلوب عسكريا بين ما يستخدم من القوارب للتهريب وما يستخدم للصيد، ناهيك عن تعريض اللاجئين أنفسهم للخطر كما تقول بيرجيت سيبل، النائبة في برلين من حزب الديمقراطيين الاشتراكيين، المشارك في ائتلاف حكومة ميركل. 
وعلى خلفية رفض دول أوروبية عديدة لمخطط توزيع "عادل" للاجئين على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يوجز تيمرمانس، نائب رئيس المفوضية الأوروبية، المشهد الحالي بقوله بلسان حال المسؤولين في الحكومات الأوروبية: "نريد الحيلولة دون غرق اللاجئين في البحر الأبيض المتوسط، ولكن بشرط ألا يصلوا إلى أراضينا".
ولعل الأسوأ من ذلك ما ينطوي عليه تعليل الأمين العام لحلف شمال الأطلسي شتولتنبيرج لضرورة أن تتحرك أوروبا عسكريا لمواجهة مشكلة "تهريب" اللاجئين على قوارب الموت، باحتمال أن يندس بينهم مقاتلون يتبعون لتنظيم داعشي فيصلوا إلى الأراضي الأوروبية"، فمن الضروري بالمعايير السياسية مراعاة الحفاظ على أمن الإنسان الأوروبي، إنما لا ينبغيبمعايير حقوق الإنسان التعبير عن ذلك مع إغفال مراعاة حياة الإنسان "اللاجئ"، علاوة على أن المشكلة الأكبر كانت في نظر المسؤولين الأوروبيين أنّ أوروبا نفسها باتت "مصدر" كثير من المهاجرين منها بتأثير إغواء "داعش" للانضمام إليها.

نبيل شبيب