خاطرة – التفرقة عدو النصر الميداني والسياسي
لن يستطيع أي "فريق" صناعة المستقبل بمعزل عن شريكه في الوطن
"فرّق تَسُـدْ".. شعار يمثل نهجا، لا يكاد يجهله أحد، ولكن لا نتخلص "معا" من أفاعيله بنا، تشبثا برأي أو ممارسة لعمل يمنع التلاقي على الطريق.. ناهيك عن شذوذ إرهابي يتجاوز درجة التفرقة إلى مستوى الطعنات من الخلف أثناء "المعركة"!
كان "فرّق تسد" -ولا يزال- نهجا واردا من "عدو" يستخدمه لانتزاع السيادة على صناعة القرار وفعاليته من الجميع، وأصبح في واقع الحال نهجا "ذاتيا" عبر نزاعات أنانية تجعل من خدمة كل راية على حدة "قضية" فوق المصلحة العليا المشتركة.
لا يفيد تدافع المسؤولية بدعوى تحديد من خطا الخطوة الأولى، فالأحداث السلبية تتداخل دوما في النتائج وردود الأفعال، ولكن نستطيع التأكيد أن كل تفرقة ميدانية هي عملية ناجمة عن تفرقة "فكرية" مزروعة بجهود خارجية أو صادرة من أعماقنا.. من داخل ما ينبغي أن يكون "جسدا واحدا".
وصلت أمراض التفرقة ببلادنا دولا واتجاهات متنازعة من قبل إلى غاياتها تخلفا وهوانا، ولكن الأخطر من كل ما مضى أن تنخر في قلب مسارات تغييرية صنعتها الشعوب بثوراتها على أخطبوط الاستبداد وجميع إفرازاته وأفاعيله.. حتى أصبحنا نعايش استمرار مفعول التفرقة في تأخير وصول الشعوب إلى أهدافها، مع زيادة مواكب التضحيات والضحايا في وقت واحد، منذ جعلنا رايات الشعوب الموحدة في مكانة دون مستوى "راياتنا" المتفرقة.
لا مخرج للحيلولة دون الوقوع في شراك استبداد جديد بدعم خارجي، دون التخلص من نهج التفرقة "فكرا" بين بعضنا بعضا وسلوك نهج التعايش، وكل "تعايش" يعني التعددية الفكرية ابتداء، ولكن يعني في الوقت نفسه حتمية التشبث بأرضية مشتركة وليس براية ذاتية فحسب.
من أغرب ما نعايشه في عصر الثورات الشعبية الأبية التغييرية التاريخية كما نراها.. أن نسلك بها سلوك التفرقة فيما بينها وفي كل ثورة على حدة بينما يشهد عالمنا أنه لم يعد يوجد طرف قوي يعتمد على "نفسه" فقط، بل يستقوي بسواه في مجال مشترك، حتى وإن خالفه أو تنافس معه في مجال آخر..
أمريكا تبحث عن حلفاء وأتباع..
أوروبا تتجاوز حروب قرون متطاولة ليكون لها مكان ما في خارطة المستقبل..
روسيا لم تعد تتحرّك على انفراد في أمر من أمورها..
الصين خرجت من عزلتها إلى الساحة الدولية كي تبقى..
بل يسري ذلك حتى على الشركات العملاقة ومحتكري الثروات العالمية..
ونحن ما نزال نحسب أن كل "فريق" صغير قادر على صناعة المستقبل بمعزل عن شريكه في الوطن..
هذا مرض خطير على مستوى "الأمة" فنزعم أن "فلسطين للفلسطينيين"، و"مصر للمصريين"، و"الأردن أولا"، وكل دولة في المغرب على طريق، وكل دولة في المشرق تتحالف مع شرق أو غرب على الجار والصديق..
والثورات دواء للمرض، فلا نجعلنّ المرض نفسه يصيبها وقد انطلقت وتجاوزت التفرقة، عبر الحدود بأهداف متطابقة وشعارات موحدة، يصنعها جيل جديد فيطلق أملا جديدا.. فكيف ننتزعها ونجعل منها رايات متعددة، ومسميات لا أول لها ولا آخر، سياسيا وميدانيا على السواء!
إن التجزئة والتفرقة بأيدينا في اللحظة التاريخية المفصلية الراهنة أخطر وأشد مما كان في مجرى تاريخنا في مواجهة استعمار خارجي ونكبات وهزائم متوالية.
كان يوجد قدر من الترابط يجمعنا شعوبا وكانت تبذل مساعي "الإصلاح" تباعا.. أما الآن فنحن نساهم في شلل جسدنا الشعبي المنتفض للتخلص من أوبئة الاستبداد القائم أصلا على فكر التجزئة والتفرقة عبر التاريخ.. فنحقن ذلك الجسد الشعبي بمزيد من سموم فكر التفرقة وممارساتها.
في سورية تخصيصا نحتاج إلى حوار.. وتوجد للثقة المتبادلة أسباب ووسائل، فمن يسلك سبيلا آخر يضع نفسه خارج الإطار، ويساهم في الانحراف عن هدف الحوار، وفي ترسيخ التفرقة.
نحتاج إلى حوار وأصبحنا أمام دعوات متجددة -ولكنها متفرقة- لتوحيد الكلمة والصفوف حوارا.. ويستحيل الحوار حول "خلاف" قائم دون أرضية مشتركة تجمع بين المختلفين بحثا عن مسار مشترك، بدلا من سعي كل طرف لاحتواء الطرف الآخر.
نحتاج إلى حوار جاد هادف يتلمّس "جراحاتنا" جميعا، وجميعها مشترك، ولن يكون دون ثورة فكرية لدى كل طرف على نفسه، لنصل إلى ثورة فكرية شاملة متكاملة.. للجميع.
الشعوب لا ترحم الاستبداد ولا بد أن تثور عليه وقد ثارت، وآن الأوان أن ندرك أن الشعوب لن ترحم من يجعل نفسه أداة لخدمة ذاته واتجاهه على حساب مسار ثوراتها هذه، وهي تدفع الثمن دما وألما لتنتصر على عدو أخطبوطي همجي، وليس لينتصر فريق منا على فريق آخر.
نبيل شبيب